بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 2 مايو 2010

الثلاثاء 23 فبراير 2010م.


























الأديب أحمد حميدة في المختبر مع الأديب منير عتيبة




مختبر السرديات بالمكتبة يكرم جوركى الإسكندرية
كتب: إسلام ممدوح
احتفل مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية بالأديب أحمد محمد حميدة يوم الثلاثاء 23 فبراير2010م، وذلك بتقديم ملف كامل شمل سيرته الذاتية، وشهادته الحياتية والإبداعية بعنوان " وداعا ابن مسقط رأس أبي"، وعدد من الدراسات النقدية قدمها مبدعون ونقاد سكندريون هم منير عتيبة " أحمد حميدة.. إبداع الشارع السكندرى" ومحمد عطيه محمود "هامش المرأة، وقطار الحياة.. قراءة في مجموعة "مدن وضواحي" وأبو نصير عثمان "أحضان ملوثة.. رؤية نقدية لرواية الغجر" والشربينى المهندس "العبـق الفنـي.. وشوارع أحمد حميدة" وحسنى الجنكورى "دراسة نقدية لمجموعة عبق الشوارع" وحنان سعيد "نظرة على كتابات أحمد حميدة" ورشاد بلال "عن أحمد حميدة ومجموعته ظل باب" وسهير شكرى "قراءة فى رواية أشلاء بؤرة العشاق" ود.عبد البارى خطاب "قراءة انطباعية فى المجموعة القصصية تراتيل نسج الطواقى" ومروة الحمامصى "أول مرة أرى الأستاذ حميدة" ومنى عارف "دراسة نقدية فى قصص مجموعة قضبان الروح" ود.نادية البرعى "دراسة حول قضبان الروح". وقد أكدت الدراسات المقدمة على الإمكانات الهائلة التى يقدمها إبداع حميدة بصفته معبرا عن الشارع السكندرى وناسه المهمشين والبسطاء. وقال الأديب سعيد سالم فى مداخلته إن حميدة هو مكسيم جوركى الإسكندرية لانحيازه للطبقات الفقيرة التى خرج منها وعانى معاناتها.
وقد عرض الأديب منير عتيبة مدير المختبر لصور من حياة حميدة وأغلفة أعماله من خلال عرض باور بوينت، كما قدم له شهادة تقدير باسم المختبر ومكتبة الإسكندرية.
حضر اللقاء عدد كبير من الأدباء والنقاد والإعلاميين بالإسكندريه الذين جاءوا للاحتفال بالأديب الكبير أحمد حميدة.




مختبر السرديات

ملــف

الأديب أحمد حميدة
إبداع الشارع السكندرى


إعداد/ منير عتيبة

23 فبراير2010م
أحمد حميدة.. إبداع الشارع السكندرى
فى إحدى الندوات المهمة بمركز الإسكندرية للإبداع كان الناقد الكبير الدكتور محمد حسن عبد الله يقارن بين قصة ظل باب لأحمد حميدة، وإحدى قصص الكاتب الروسى مكسيم جوركى، كان الناقد يقرأ مقاطعا من قصة حميدة، ولا يمسك نفسه عن قول "الله الله.. يا أستاذ" ثم يحكم بأن قصة حميدة أعلى فنيا بكثير من قصة جوركى.
أحمد حميدة المبدع هو صوت الإسكندرية التحتية، اسكندرية التى يعيشها الكثيرون، ولا يراها إلا قلة، صوت يحاول أن يصرخ وإن فى البرية ليُسمع صوت المهمشين والمطحونين والمنسيين من ذاكرة الوطن، يحاول أن يلملم جراح من نسميهم ملح الأرض، لينثرها على الورق، لعل أشواكها المدببة ونيرانها الحارقة، توقظ ضميرا أو تنبه قلبا ميتا.
هو كاتب ذو رسالة إذن، وهو يفخر بذلك ولا ينكره، هو ابن الشارع السكندرى، وهو المعبر عنه، لكن الشارع عنده ليس مساحة مكانية تقاس بالأمتار، الشارع فى أدب أحمد حميدة هو الوطن بطوله وعرضه وعمقه، وهو الناس بجراحهم الكثيرة وآلامهم اللامتناهية وأفراحهم النادرة، البيت يفتح على الشارع، والمقهى يقع فى الشارع، والترام والقطار يسيران فى الشارع، البشر يتدفقون صباحا إلى الشارع، ويتدفقون مساءً من الشارع، وبين خروجهم إليه وعودتهم منه تكون حكاياتهم التى يلتقطها حميدة الفنان البارع ليصوغها فنا جميلا مؤلما.
يقع أحمد حميدة فى مأزق لا يعانيه إلا من كانوا مثله، هو ابن هذه الشوارع، هو واحد من هؤلاء الناس، وهو حريص على التعبير عنهم، لكنه يدرك أنهم أول من لن يسمع صوته، لجهلهم، وابتعاد عالمهم عن الوسيلة التى استخدمها الكاتب للتعبير عنهم؛ الكتابة، فهو يكتب عن ناس لن يعرفوه، ويصرخ بالنيابة عن ناس لن يسمعوه، لكنه يظل يكتب غير فاقد الأمل فى أن آخرين، من طبقات أخرى يمكن أن يستجيبوا له،
فيغيروا حياة ناسه، ليكونوا قادرين على سماع صوته هم أيضا، ويمتلكون الأدوات التى تجعلهم يرون أنفسهم على حقيقتها فى أدبه.
يعبر أدب أحمد حميدة عن العالم السفلى للمدينة، لكنه يستخدم لغة راقية، تقترب أحيانا من الشعر، حتى عندما تكون لغة وحشية كقنابل موقوتة تبغى الانفجار فى القارئ حتى يحس!
وفى هذا الملف يقدم مختبر السرديات تحية صغيرة لكاتب كبير، استحق الكثير جدا، ولم يحصل إلا على أقل القليل، تحية محبة وتقدير من نقاد ومبدعين سكندريين يعرفون قدر أحمد حميدة، وأهمية كتاباته، ويعرفون أن الأجمل والأعمق والواقف فى صف الناس هو ما يبقى دائما، لأنه ليس زبدا براقا يخطف البصر لحظات، ثم لا شئ.
إنه كاتب لا تلهمه الجنيات الجميلات، ولا عرائس الفن المتأنقات، بل تلهمه دقات قلب الشارع الموجوع!
منير عتيبة- مدير مختبر السرديات
أحمد حميدة.. سيرة ذاتية
· أحمد محمد حميد على (اسم الشهرة: أحمد حميدة).
· مواليد الإسكندرية فى 22 مايو 1949م.
· عضو اتحاد الكتاب.
· عضو نادى القصة.
· عضو مراكز ثقافة الإسكندرية.
· رشح لجائزة الدولة التشجيعية عام 1998م.
· تم تكريمه فى مؤتمر الإبداع الأدبى بإقليم غرب ووسط الدلتا الثقافى عام 2000م (جائزة التفوق).
· نشرت قصصه بالمجلات والصحف المصرية والعربية، وحولت بعض قصصه إلى شهرات إذاعية.
· حائز على عدد من جوائز القصة فى مصر.
· تناول أعماله عدد كبير من النقاد المصريين.
أعماله:
1 الهجرة إلى الأرض قصص طبعت على نفقة الكاتب 1980
2 التائهون قصص على نفقة الكاتب 1981
3 الليل والأصوات قصص المجلس الأعلى للثقافة 1983
4 شوارع تنام من العاشرة قصص هيئة الكتاب- سلسلة إشراقات 1986
5 تراتيل نسج الطواقى قصص فرع ثقافة الإسكندرية 1998
6 ظل باب قصص اتحاد كتاب مصر 2001
7 عبق الشوارع قصص فرع ثقافة الإسكندرية+ مكتبة الأسر 2002
8 مدن وضواحى قصص هيئة الكتاب- سلسلة إشراقات 2004
9 قضبان الروح قصص هيئة الكتاب- سلسلة كتابات جديدة 2006
10 حراس الليل رواية على نفقة الكاتب 1984
11 الغجر رواية الهيئة العامة لقصور الثقافة- سلسلة أصوات أدبية 1995
12 أشلاء بؤرة العشاق رواية نادى القصة 2005
13 سوق الرجال رواية على نفقة الكاتب 2007
14 متاهة الغربان رواية دار التلاقى
2009



وداعا ابن مسقط رأس أبي
شهادة: أحمد محمد حميدة
في السبعينات , زمن هجرة الطيور المغردة من وجه الوطن القاتم ، في عز مرحلة الانتقالات الاجتماعية المتوحشة ، و عز مجده الأدبي الأول ، كنت حضرت له ندوة كبرى بقصر ثقافة الحرية . كان شابا يكبرني بعدة أعوام ، و أنا أحث الخطأ ، بتؤدة و تعثر ، على درب الأدب ، حذرا ، و على أصابع قدمي ، أتوارى بوسط الجموع عن عيون جهابذة ندوة الإثنين العريقة . أصبو إليه ، ناشدا القرب منه ، محادثته ، عرض بعض قصصي عليه لمعرفتي أنه يساعد كتاب الأقاليم الجدد ، فلأدنو منه ، ذلك الرجل المتسامح دوما ، الصموت دوما ، المتدلية شفته السفلى قليلا كأبي حين يغضب ، المحفورة بوجهه أخاديد شقاء يقطن روح ملبدة بالأوجاع ، كنت عرفت من صديق أنه يعمل عملا تابعا لدور السينما ، لم أكن أعرف ما هو ، لكنه ، بالتأكيد ، عملٌ يليق بقامته ومكانته الأدبية ، فمجموعة " للكتاكيت أجنحة " بصمة نجاحها على وجهه إذ ظهرت بزمن استشراف الأدب الجاد و المتطور على أيدي أدباء الستينيات ، و في أثناء الندوة قال أحدهم أنه صعيدي من سوهاج فحن إليه دمى ، و تُقت لمعرفته ، و إنه يؤازر كل كتاب الأقاليم فتفاقم شوقي لمحادثته ، أنا الشبل الذي يحبو في سرداب الهواية المعتم ، و المميزة بسموها على سائر المهن الأخرى ، و لأنه واحدٌ من الأدباء الذين جاءوا من إقليم بعيد و استطاعوا زرع أنفسهم في أرض أدباء السلطة ، تخوفت ، و مسني هاجس بالابتعاد عنه ـ هؤلاء السلطويون المتمثلون في شخص المأسوف عليه ، ثروت أباظة فقد دعاني ذات يوم انتخابي بعيد ، بالولد الفلاح ، أي الملوث بطين الأرض ، لم أزعل ، لأني أعرف أن هؤلاء الأكابر الأعيان قد منحهم اللورد كرومر زمان ، قصورا و أراض شاسعة ، زيادة ، ليكونوا تحت إبطه ، كدمى في يده ، يساعدونه على إذلال الشعب الغلبان ـ لكن أحد الأصدقاء قال لي أن عبد العال طيب جدا و بسيط جدا و خدوم ، ولابد من التكلم معه ، ذلك الوجه الحاد ، جامد الملامح ، مزموم الشفتين ، عالي الجبهة السارح بأعلاها بعض صلع ، كان يشبه وجوه الفراعنة المقتلعة ، منذ حين ، من سراديب و أقبية منطقة آثار أخميم ، فرعون راسخ الشموخ ، حديدي الروح و البدن ..
كان علىَّ إذابة تهيبي في أعماقي ، و أبعده عن ذهني كأديب ، و يكفيني الصعيدي الشهم الذي بداخله . لكن التهيب كان براوغني ، يبعدني و يقربني . ولابد من مقابلته ، مادام موجودا عندنا بالإسكندرية ( قابلتَ الموت أكثر من مرة ، منذ أربعة أعوام ، بحرب الاستنزاف و العبور ، و تتهيب من مقابلة بنى آدم ؟ !) قلت في نفسى ، فلأقابله بالليل بعد انتهاء الندوة ، أتربص له ، أرصده ، بأية لوكاندة يقيم ؟ أعرفه بنفسي ، ربما يذكرني ؛ فقد ناقش لي بعض قصص ذات إجازة ميدانية بعيدة بقصر ثقافة الحرية ، و أشاد بالكاتب الجندي الذي يحفر مفرداته كالحافر في صخر .. لعله يذكرني ، يذكر أنني نشرت بعض قصص بصحف مصرية و عربية سيارة ، لكن بعد انتهاء الندوة ، في العاشرة ليلا ، تحلقنا حوله سائرين بشارع طريق الحرية ، و التففنا من حوله كالعادة بمقهى صغير خلف " سينما أمير " ، يواجه " برج الثغر " ، و من خلفنا " المسرح الروماني " ، و بوسط حديقة صغيرة برصيف المسرح قعدنا ، يفصلنا عن المقهى نهر الشارع النظيف قعدنا ، مع أدباء الثغر المضاء زمنهم الخالي بأعمالهم الشحيحة ، مثيرة الأسى و الشجون و أنسنة الجماد كنت معهم ، محتفيا بعبد العال ابن مسقط رأس أبى الراحل بعمامته و قفطانه و لهجة سوهاج ، كاحتفائي بأي صاحب ينتمي لدنياى الصغيرة البسيطة ، بعيد ا عن خزعبلات طيور الأدب السارحة على أشجار مورقة حينا و عجفاء أغلب الأحيان ، شعوري ذاك كنت استمده منه ، من تواضعه و بساطته ، يدفعني ، كابن شارع منقوع في أرض مدينتي لا أهاب السقوط ، لذا كنت أهرع إلى داخل المقهى و أجيء إليه بما يحب مزاجه ، الجوزة و الشاي الثقيل ، نافخا في جمرات الفحم ، ساحبا معه من أنفاس الجوزة لتشتعل بالمعسل و لأننى مثله ، ابن شوارع ، تطحن جسومنا و أرواحنا الدنيا ، ولا أخشى لوم اللائمين و تهكم الجهَّال السفلة ، المتعالين لقولي ( ابن شوارع ) ، فنحن جميعا أبناء شوارع و مقاه و أرض تنتظر عودتنا ، فقط توارينا جدران البيوت ، و توارى عوراتنا ( الهدوم ) و من الشوارع انبثقت أجود آداب العالم و ثوراته ، مصائبه و خيباته ، ناسه البؤساء و السعداء ، من لم يلتحم بناس الشارع لن يشعر بأوجاعهم ، سيختلق ، ببرجه العاجي ، بؤسا . يصنع حزنا زائفا يسطره على ورق سرعان ما تزروه الرياح .. كذلك كنت للرجل الصعيدي الحمامصي الساحب من مبسم الجوزة أنفاس تنثر ، عفوا ، على وجوه الرفاق الأدباء ، و أنا أغير كل حين ماء الجوزة ، و أنظف حجارة المعسل ، و أرص الجمرات بدلا عن الساقي الذي طمأنت قلبه على البقشيش ..، و لم تواتيني الفرصة لقول ما أريده للرجل ، فقد أوشكت السهرة على الانتهاء .. قلت في نفسى لن تنقلب الدنيا أو تنهد إن لم أتكلم معه ..
ليلتها ، وقفنا نقاوم إصراره العنيد لدفع الحساب ، لكن القهوجي قال أنه لن يأخذ مليما من أحد لأن الرجل ـ عبد العال ـ اتفق معه قبل الجلوس على ذلك ـ كنت أعرف أن أبناء سوهاج من الكتاب أغلبهم كرماء هكذا ، ينزفون كرمهم لآخر قطرة ، كما حدث كثيرا مع الكاتب النبيل جمال الغيطانى ، ففي أواخر الثمانينات كان يحل ضيفا على ندوة الإثنين بقصر الحرية ، في عهده المجيد . و بعد كل ندوة . نلتم متزاحمين حول جمال بمقهى الإسعاف المواجه للمحكمة الكلية بالمنشية ،عشرة أفراد أو أكثر ، يشربون ما يحبون من مشروبات . و باطمئنان عجيب ، لا يخلو من خجل دفين . بأن أحدا منا لن يدفع قرشا واحدا . فنحن ندرك جيدا . أن الضيف المحاضر ، جمال . سوف يتولى عملية الدفع كعادته كلما جاء من القاهرة ، فهو لا يدخل نقود المكافآت عن المحاضرات في جيبه . بل يبتاع ببعضها كتبا من المعرض الروسي الذي كان يشرف القصر بوجوده ، و يسحر الأدباء بكتبه الرائعة زهيدة السعر ، و يصرف بقية النقود على المقهى ، فلا أحب إليه من صحبة الأصدقاء ـ يومها ، مشى الحمامصي نحو ميدان محطة الرمل ، و مشيت أنا نحو جوف المدينة ..
لكن في صباح اليوم التالي و بمصادفة ، تثير دهشة الحمقى و البلهاء ، نزلت إلى موقع عملي بغرفة صيانة كابلات التليفونات ، بباطن أرض رصيف ، متاخمة لباب سينما فريال ، و قد انغمست في عملية إصلاح الأسلاك المعطلة ككل يوم و منذ أسبوع مضى ، و بثياب العمل ، بالطو بالٍ من التيل الأسود باهت و مغبر بالتراب والشحوم، وكنت بين الحين والآخر أرفع عيني لأنظر لأعلى، متنشقا هواءً نادر النزول لأسفل، ومتجاوزا بنظري حلق باب الغرفة العالي ، فألمح العابرين من فوق و العابرات ، البنطلونات و الجونلات و الفساتين خافية ألوان الطيف المبهرة و المثيرة لكوامن المرء ، جموع من الرواد ، عند دخول السينما أو عند الخروج بحفلات الصباح و الظهيرة ، لابد أن يتخطون الحلق أو يسيرون بجانبه و الحائط محاذرين من السقوط ، برغم الحاجز الخشبي بأعلى الحلق ، عندئذ لمحت عبد العال يمر بخطوه الوئيد قادما من ناحية السينما و بيده حقيبته الجلدية المنفوخة ، فوثبت قائما ، و حلق الغرفة يعلو رأسي بمتر و نصف ، وجدتني أنادى عليه : أستاذ حمامصي .. توقف بين زحام المارة يبحث عن مصدر الصوت ، فيما كنت أصعد درجات الغرفة : أنا هنا ، أهو : ، اندهش و ابتسم رغم جمود وجهه ، و ضحك قائلا : أنت طالع لي من تحت الأرض ؟ ! : عاوز أكلمك .. : قلت ؛ فقال : تعال .... ؛ فسرت معه إلى البوفيه الصغير الكائن خلف السينما بزقاق ضيق ، كان يجلس فيه دائما وحده بأيام وجوده في الإسكندرية ، يدخن الجوزة و يشرب الشاي ، دعاني بشكل ثياب عملي الكئيبة ..حاولت أن أقوم معه بواجب الضيافة ، أبى ، و أصر هو على استضافتي ، قال : أنت رجل مكافح زى حالاتي . تذكرت ما قاله لي خيري شلبي ذات يوم بعيد بمكان عمله بمجلة الإذاعة و التليفزيون بأنني عصامي مثله ـ : أنت كنت بتعمل إيه تحت الأرض ؟ ! : شغلي .. مصلح أعطال كوابل تليفونات .. و هو يشد أنفاسا من الجوزة : غربية الواحد يطالع لصاحبه من تحت الأرض .. !! كلمات أصبحت محفوزة بذهنه ، كلما تقابلنا في نادى القصة أو الاتحاد ، أو في برامج إذاعية كان يناقش فيها أعمالي : رجل مكافح طلع لي من تحت الأرض ..
يومها أعطيته قصة من عشرة صفحات بعنوان " زحف الأقفية و الأصوات " ركنها فوق الحقيبة لأنه كان مندمجا بالجوزة ، و أنا اعتقدت جازما ، إن القصة سوف تضيع ، لو انزلقت من فوق الحقيبة لو اهتز الكرسي الموضوعة عليه ، و مادام هو سارحا هكذا في دخان الجوزة و أشياء أخرى في دماغه ، سوف ينساها ، لكنني غادرته لعملي ، و في الشهر التالي ، وجدت القصة منشورة كاملة بمجلة القصة ..
كانت فرحتي بالقصة و بالرجل الصادق عارمة ، كأول قصة تنشر لي بمجلة متخصصة يقوم على تحريرها كوكبة من فطاحل هذا الفن الصعب ، من أمثال : نبيل عبد الحميد ، محمد قطب ، محمود العزب ، و الحمامصي ، و غيرهم من أضلاع النادي ، بذلك الزمن المبهر برجاله الأصفياء الذين بدأ بعضهم يزحف نحو التلاشي ، نحو الظل و الخمود ، و الهمود ، تاركين ذكراهم الطيبة ، ذكرى مضيئة لن تمحوها المعارك المؤسفة على مقاعد زائلة من قلوب محبيهم ..
فيا أخي عبد العال ، كنت أرسلت لك رسالة إلى بيتك ، و أنت على فراش المرض قبل رحيلك بأيام قليلة ، مثل هذه الرسالة الودية التي كتبها لك ، بحزنه ، ذلك الرجل الذي صعد إليك ذات يوم من عام 1977 ، من تحت الأرض ، فإلى لقاء ، عندما أعود لباطن الأرض ، فانتظرني لأعرض عليك قصة أخري .
هامش المرأة، وقطار الحياة
قراءة في " مدن وضواحي" لأحمد محمد حميدة
مزدحما كان قطار الضواحي.. بطيئا يأكل الأرض..( أحمد حميدة)

محمد عطية محمود
تمثل مجموعة " مدن وضواحي " اتجاها وخطا من الخطوط الرئيسة في مشوار الكتابة القصصية للقاص السكندري " أحمد محمد حميدة "، بما تعبر به عن رؤية واقعية تتعانق مع بعد اجتماعي ونفسي.. تمثل تفاصيل الهامش، المرتبطة بجغرافيا المكان المتنقلة بصوره، عبر الخطوط الطولية المتوازية، والمتقاطعة التي يقطعها قطار الحياة مع فعالياتها، وثوابتها المرتكزة إلى واقع صرف، من خلال علاقات الشخوص التي تخلق حركة هذه الحياة، مع حركة الخلق التي تبعثها النصوص في المكان/ الجماد/ وسيلة الانتقال، ليصير ذا حس إنساني يشارك في صنع حدث أو يصير بوتقة لحدوث فعل الحياة الموازي، في صورة من صوره المصغرة، ومن خلال المعنى الذي تمثله الحافلة/ القطار/ الترام، ومن خلال مفرداتها الدالة على سير تلك الحياة بصورة ما أو بأخرى، تتقاطع في نفس الآن مع أرض الواقع / جغرافيا المكان الثابتة، وتقطعه في تلك المسارات الطولية المحددة الاتجاه، لكنها تحمل معها هم العلاقة العكسية التي قد تنشأ مع هذا الكيان، ومن خلال نماذج دالة على الاستلاب بوقوعها في نطاق تأثيره البالغ، حيث تحمل الشخصية المستلبة بنماذجها المتعددة الواقعة تحت تأثير الحالة الاجتماعية والاقتصادية السيئة، عبء مواجهة الواقع الصعب بمفرداته وسماته.. من خلال هذا الطرح / المعالجة، التي تناول الكاتب بها أعماله على مدار عطائه القصصي المتميز، لتبرز منها تلك النصوص الدالة على الحياة والمتشبعة بتفاصيلها حتى النخاع.
ويبرز من بين تلك النماذج نموذج المرأة / الأنثى التي ربما توازت مع معنى الأنثى/ الحياة، التي تبحر في هذه العلاقات مع الحياة من خلال اتجاهات سيرها العكسية التي تتقاطع وتتماس مع همومها الذاتية، ومن خلال تلك البوتقة المتحركة، لتموج بالناس، ولتمثل المعادل الموضوعي للحياة، والتي تنطرح بلا شك لتعالج المفهوم العام لتلك المعاناة، وذلك الألم، فثمة نصوص مثل: " قضبان الروح"، " ظل باب"، و" الوليمة " تتعانق وتتلاقى على مستوى تكامل الرؤية، على الرغم من كون كل نص منها يمثل وحدة / حالة منفصلة لها معطياتها الداخلية التي تميزها عن الأخرى، و لكن قد تجمعها بعض العناصر الدالة على هذا الالتحام أو هذا التكامل، أو الاشتغال على تيمة من التيم النفسية والمادية، واللعب على وتر الفقد والحرمان، والرصد الدال على فعاليات حياة الهامش.
عندما يُختزل الكون في قطار
يطرح الكاتب نموذج المرأة العمياء في نص " قضبان الروح " على نحو نفسي دال يحوم في فضاء النص، يملأ مساحاته الفارغة بفعل الاستعاضة عن فقد نعمة البصر، بتلك الروح المعافرة التي تتكيء على عيون الصبي / الولد المرافق لها في رحلة الكفاح اليومية المجهدة، والذي قد يمثل في ضميرها المعادل الموضوعي للأمان المفتقد في هذه الحياة المتحركة بها، وهي في حال السكون الجسدي، المشتعل بالداخل بهوس الرغبة في التطلع إلى مفردات العالم الخارجي للحياة من خلال عيون ذاك الطفل / الرمز / المعادل، من خلال الاشتباك مع الواقع/ المجموع من خلال وجودها اليومي بالقطار:
" ركاب أخر الخط مألوفو الوجوه، حاملو القطار على الكواهل.. يلمحونها تقريبا كل يوم.. لكن لم يكونوا يعرفون من أية محطة تركب العمياء وطفلها المبصر" ص77
يؤسس النص هنا لسمة الاعتياد التي تميزه، وتجعل من الحالة النصية حالة آنية مستمرة دالة على تفاصيل الواقع الذي يطرح مجتمعا من الناس تتعلق مصائرهم بهذا القطار الذي يتجه بأبدانهم وعقولهم كل يوم في اتجاه ذهاب / إياب ممض لا يقطعه إلا تلصص بعضهم على بعض، وتلصصهم على الواقع المحيط خارج نطاق هذا القطار، الذي ربما مثل نموذجا وكيانا معنويا قبل كونه جماد يحملهم، ولكنهم يحملونه على كواهلهم المجهدة ـ بحسب تعبير النص البليغ ـ نفسيا ومعنويا، بما يؤصل تلك العلاقة الأزلية بين هذه المجموعة من البشر وبين الحياة التي يحمل القطار رمزها الدال ..كما تشكل المفارقة التي تصنع التكامل المنشود بين الأم بعماها، والطفل بإبصاره:
" طوى الولد شعور الضجر.. آن له وقت الجلوس القسري والإجابات المبتورة.. تلقي أسئلة الرتابة.. تمد الأذن كوعاء يتوجب عليه ملؤه." ص78
يبرز النص تفاصيل العلاقة بين الأم والولد على نحو من الالتصاق الملول المنشطر بين حركة الولد الخفيفة الخفية، البعيدة عن إبصار الأم، وسكونها وهمودها داخل القطار، الذي يلعب النص على المفارقة بين حاله ( القطار) وحالها، فيما تتوافق حالة القطار نسبيا مع حالة الولد الذي يظل يتحرك ليملأ الفراغات التي تتركها الأم بعماها في فضاء النص، وما بينهما هذا التلاحم المطل على سمات المكان المتسارع في ركضه وهروبه منهما على جانبي طريق القطار، والدال على تفلت الحياة من بين يديهما من خلال حوار دال بين الأم والولد، ينفلت منها الولد/ الأمل في الحياة/ المستقبل على أثر غفوتها وانقطاع الحوار معها:
" حين تتكاثر أسئلته، يغزوها السكون. يدرك بأنها قد اكتفت، فوجهها انبسطت أساريره تهدلت شفتها السفلى وتثاقل رأسها وترنم لتبدأ الدخول في نوبة غفوة.. " ص81
لكن الهاجس المقبض الذي يشعل ارتباطها بالحياة وبالولد، كمعين وكبديل من بدائل إحساسها المبتسر/ غير الكامل، بالحياة، وكعنصر من عناصر وجودها يظل مكبلا وجودها المرتهن بحركة القطار التي لا تهدأ، حتى في غفوتها التي خرجت منها باحثة عن الولد الذي شعرت بعدم وجوده وانفلاته من قبضة خيالها :
" رفعت الرأس نحو مصدر الأصوات المتشابكة بتكاثر عنيد مستعيدة بكل الحواس تلك الصرخة الوامضة التي اغتيلت كما اغتال الهمد الوحشي أعضاء البدن.. نهضت ممددة الذراعين. تتحسس أبدان الركاب وأعمدة الممر، وظهور الكراسي. ارتاح القطار على القضبان.......
انقباض القلب يدفع البدن على التقدم للعربة الثانية..
ـ ولد يا حسن..
رويدا يعلو صوت النداء.. فالعربة الثالثة.
ـ ما حدش شاف حسن ؟ يا حسن.. تجس أبدانا متناهية في صمتها العجيب، كالنائمين كانوا.. حسن لم يجب على النداءات" ص 84، 85
هنا يبرز النص حالة الانتفاضة التي تقاوم بها المرأة هذا الحس بالخواء وافتقاد الولد، وفقد عملية التواصل مع خارجها هي داخل هذا القطار الذي تحول إلى نموذج مصغر موحش للحياة بالنسبة لها، والذي لا تني تتوقف عن التماس هذا الأمن فيه :
" خُيِّل إليها أن صوتها المنادي الأسيان سوف يشحن الجو كله.. يصعد لعنان السماء.. يطغى على صوت الصخب والبشر.. فيبحث معها الجميع عن حسن " ص85
تأتي هنا الرغبة في الاندماج مع البشر المنعزلين عنها للتأكيد على تطابق سمات الحياة الموازية التي يمثلها القطار بالنسبة لتلك الشرائح المجتمعية ككل، مع سمات واقع المجتمع العام داخل بوتقة الحياة بأسرها، فانقطاع الوصل هنا قائم بنفس القدر من بشاعة انهيار العلاقات الإنسانية في متن المجتمع العام، ولعل هذا ما راهن عليه النص وكرَّس له، وشحذ له قوى الدهشة المباغتة حين اغتال القطار نفسه الولد/ الأمل الباقي لهذه المرأة في الحياة بمفهومها العام، وهي لا تدري، في علاقة عكسية بين معنى الحياة المتمثلة في حركة القطار الدائبة، وعملية الاغتيال / الهرس التي مارسها القطار، ربما مثلت معنويا الاستلاب والفقد والقهر الذي ربما مارسته الحياة بشقها الظالم الأعمى الذي لا يهب بقدر ما يأخذ ويسلب، وليتوازي أيضا عمى المرأة مع عمى القطار في مفارقة أخرى من مفارقات النص.
" ربما تساءلوا في لحظة الهرس المباغتة، لحظة وقوع الحادث وانطلاق الصرخة.. لحظة لم تدركها المرأة الهائمة...... أُشيحت وجوه النساء اللواتي سمعن ورأين نحو الجانب الآخر في تقزز أرعد القلوب وأطبق عليهن صمت ... " ص87
هنا تأتي المفارقة التي برع الكاتب في إلباسها ثوب الغيبوبة والتيه الذي تلبس المرأة وتمادى فيه إمعانا في البؤس وتأثير إحساس الفقد، الذي يكتنف حياة تلك المرأة داخل القطار وخارجه، مؤكدا على شمول المعنى الذي يرمي إليه النص، ليسقط تلك السمات على واقع المجتمع / الشعور الجمعي المغيب، والذي ينسلخ عن المأساة بمجرد حدوثها وضياع تأثيرها على النفوس، لينفرد النص بشخصيته المستلبة، لتعانق فراغ حياتها من ذاك المعنى وذاك الرمز الذي هرسته عجلات القطار، ففقدت دليلا ومؤنسا وباعثا على الشعور بالحياة وأنسها
" فوق الرصيف كانت تتحسس الفراغ المختنق بالقيظ الجاثم فوق النهار.. بلهف تصغي لعودة الصخب.. تهرول بعشوائية " ص 88
***
ربما تماهت ثنائية العلاقة بين المرأة وابنها في هذا النص، مع العلاقة التي يحدثها نص " ظل باب "، بين نموذج آخر من المرأة ونموذج آخر أيضا للابن الملازم لها في رحلتها للحصول على باب تستظل به، وتخفي عورتها خلفه، والباب ربما توازى مع السند / الستر/ الأنس المتواري في وجود الولد في النص السابق.
" أسرع واحد وتناول منها الباب. انحنت هي بالخارج. فانزلق الباب قليلا بمعرفة دحرجة الرأس ودفع اليدين ليستقر أخيرا بجوار ظهر أحد المقاعد المتاخم للباب القطاري المفتوح" ص 102
هنا تبدو المعاناة التي تقابل المرأة من أجل الحصول على الباب مختزلة في الطريقة التي يعرض بها النص فعاليات هذه المحاولة للحاق بركب القطار وحجز مكان فيه للباب الذي يمثل معادلا موضوعيا لمعنى الستر والأمن بالنسبة لتلك المرأة التي تمثل نموذجا للمرأة المكافحة، والتي يلقي بها النص في خضم هذا المعترك الذي لا يؤمن بحقها في هذا الستر، وهو ما يدلل عليه هذا المشهد الراصد لعلاقة سلبية بين المرأة / الإنسان، والآخر/ المحصل، المنبثق من نفس بوتقة وجودها ووجود الفئة التي تكافح على هامش هذه الحياة:
" اعتدل الجسد المنساب ارتياحا. نهضت تنظر بوجل عبر زجاج النافذة المكسور لوجه المحصل.
ـ الباب ده بتاعك..؟
قالت بابتسامة تضمر توقع الأذى:
ـ أنا ساكنة في عزبة في المندرة.. البيوت هناك من غير أبواب.. يخليك." ص103
ليندلع الصراع بين تلك المرأة وذلك النموذج من الآخر الذي يعترض طريقها ولا يؤمن بمعاناتها برغم وقوعه في حيز هذا الهامش من الحياة، بل ويمثل عنصر طرد وإقصاء لتلك المرأة من الوجود المؤقت بهذا القطار من أجل الانتقال إلى ممارسة حقها في الحياة والستر، ومن حق الاستفادة من تعاطف مجتمع القطار الصغير معها، بمحاولة إخراجها من نطاق هيمنته وسيطرته، كنوع من الممارسات السلطوية القامعة التي تقوم بها رموز مجتمعية لا تبتعد كثيرا عن دائرة الهامش:
" انكمشت المرأة وراء الباب. قال المحصل وقد اختنق بالغيظ:
ـ يعني انتو أجدع مني.. لازم هي اللي تدفع الفلوس علشان تعرف إن الأمور مش سايبة.
لكن الأيدي اندست برفق ملول إلى قيعان الجيوب.. أخرجت قروشا.. في حين تخاذل بدن المرأة إلى جوار الولد مختلجة الشفاه، مترقرقة الدمع، تولي ظهرها للباب والمحصل والقروش التي امتنع عن أخذها" ص105
يُحكم النص هنا دائرة الحصار حول هذا النموذج المستلب / المرأة التي تعاني من وطأة النظرة السلبية تجاه طموحاتها البسيطة، والرغبة في تحقيق حلم أبسط وهو الستر، مما يلقي الضوء على صراعات المجتمع الذي يزخر بنماذجه الهامشية، والتي قد تمارس لعبة السلطة من داخل بوتقة الهامش، على نحو علاقات معقدة تتعامل مع قانون الحياة ومواده الصلبة الجامدة، دون محاولة النظر إلى الأمور بروح ميزان الرحمة والتعاطف واحتواء الآخر الذي هو من نفس الشريحة والفئة التي تعاني.
فالمرأة التي ألقي بها في منتصف الطريق إلى موطن سكنها الفاقد للستر، والتي تتمسك به برغم كل تلك العوارض التي تعترض حياتها وترضي به، لكنه جدير بأن يكون حلما له حق الوجود والتحقق على أرض الواقع، برغم القمع والإقصاء، تتوحد مع ابنها ـ الذي يمثل هنا دور الشريك والمتواجد معها في نفس الخندق بنفس درجة التورط في الحلم والطموح ـ مع الباب في مشهدية مؤثرة دالة على عدم التخلي عن الرغبة في الحياة، وإن لفظهما هما وبابهما منها القطار، وبما يمثله (محصله) من معادل للآخر الذي قد تخلق وجوده حالة من عدم الاتزان والتوافق مع عناصر الحياة الواقعة في نطاق مجتمعه الهامشي:
" يتباعد الرصيف.. يخلو من البشر. ليبدو مقفرا.. إلا من باب مصلوب بالمنتصف يواري امرأة وطفلا بعيدين " ص106
ليشيع وجود الباب في هذه المساحة الخالية نوعا من الحياة والوجود الضافي بوجود المرأة وابنها في ظله، وإن كان في خواء موحش، إلا أنه يمثل رمزا للستر الآتي؛ فيبدو هنا الحلم جديرا بالتحقيق واكتساب الشرعية، في نهاية ربما ارتبطت عكسيا مع نهاية النموذج الأول الذي فقدت فيه المرأة ولدها، في حين احتفظت امرأة الباب هنا بظل بابها الجديد، والتمسك بالحلم بالستر مع ابنها الذي يرافقها وما يزال معها في رحلة كفاح جديدة للوصول بالباب / المعادل الموضوعي لحق التمتع بظل الحياة وسترها، إلى حيث تسكن، فهل يتحقق لها سترها وأمنها؟؟ .. ذلك من التساؤلات العصية التي يطرحها النص بشدة وإلحاح..
***
في ذات المدار، تبدو النتيجة الحتمية لتداعيات الحياة، وضغط تفاصيلها على الذهن المرهق بمتطلباتها والكفاح بدروبها من خلال نموذج آخر من النماذج التي تبرز فيها المرأة ودورها الفاعل في هذا الهامش / هامش الحياة المكتظ بالعديد من المفارقات والإحالات النفسية التي تسوقها حالات اجتماعية صعبة يلعب فيها الاحتياج إلى عناصر بهجة الحياة دورا في تشكيل الذوات المتعبة، والضغط عليها من زوايا عدة، فامرأة نص " الوليمة " ربما توفرت لها القدرة على تحجيم الأحلام واختزال المتطلبات في محاولة إشاعة البهجة في جذر من جذور الحياة لديها، والمتمثل في أمها التي يبديها النص كشخصية ظل تحرك العلاقة المتوترة، والحانية في ذات الوقت بين الأم وأبنائها المتجهين معها لزيارة الجدة والاحتفال بها، وهم يتحرقون شوقا وحرمانا إلى ما تجلبه الأم لتهدي به الجدة، في مفارقة من مفارقات المواقف الإنسانية التي تتأرجح فيها الموازنة بين المتاح والمطلوب توفيره لهؤلاء الصغار تحت ضغط الاحتياج، ومحاولة الاحتفاظ بالعلاقة الوطيدة بالجذور، فالشخصية المستلبة هنا واقعة تحت تأثير حركة شد وجذب فيما بين حنين الماضي المتمثل في الجدة، وعنفوان المستقبل الذي يمثله الأطفال المحرومون من تلك البهجة !!
" من بين المندفعين صعودا, والمندفعين هبوطا ركبوا قطار الضواحي، كطابور صغير متدافع.. الأم وخلفها الصبي.. حامل العلبة، والأخوان.... " ص107
يؤصل المشهد الاستهلالي للنص، لعملية التنظيم والدربة التي تعامل بها المرأة / الأم الشابة أولادها، وتكرس لها بإلزامهم بالسلوك التراتبي الدال على الخضوع والركون إلى الاستسلام من الأولاد، والذي يقابله الحرص الشديد من الأم على توطيد دعائم استمرار الحياة بتلك الموازنة، لكن الشعور الجمعي للأولاد الصغار يتحرك ليزيد من توتر هذه العلاقة ـ شبه المحكمة ـ التي تديرها الأم برغبتها في التواصل مع أمها، وإن كان على حساب أولادها الصغار!!:
" أدنت الطفلة فمها من أذن أمها الذي تقارب..
ـ ماما.. هي ستو راح تاكل من العلبة الليلة.. يعني ممكن تفتحها النهاردة..؟
تجهمت ملامح الأم.. أومأت تقول بنهر خافت:
ـ عيب .. اسكتي.. هدية ناخدها منها؟ عيب..
كان الطفل الواقف بين الساقين يصغي.. قال:
ـ ممكن بابا يشتري لنا علبة زيها.. ؟ " ص109
تبدو هنا دواعي الحرمان التي يعاني منها الأطفال، من خلال هذا التوتر الذي تؤكد عليه العلاقة القسرية التي تتعامل بها الأم مع أولادها، في مفارقة عجيبة من مفارقات النصوص التي تتعامل مع فعاليات الحياة بنوع من الأثرة والتفضيل غير المبرر، بالرغم من الحالة الاجتماعية والاقتصادية المتواضعة التي يلعب عليها النص، ويؤكد عليها؛ فهنا تواجه رغبة الأطفال الصغار، بعملية القمع التي تمارسها الأم على نفسياتهم، والصراع على ما في داخل العلبة كرمز للاشتهاء إلى ما يبهج ويدخل السرور على القلوب الصغيرة، والتي يفتقدونها في اعتيادهم الممض الخالي من البهجة الإضافية، وذلك من خلال الحوار الكاشف بين الأم وأبنائها، ومن خلال المشهدية المعبرة في ص 110، 111
" نهض الصبي وانحنى.. رفع العلبة برفق وروية كمن يرفع عن الأرض عينا من عيونه. بوقت مد يد الأم وتناولها منه بحرص حزين.. حرص الخائف المتوقع هرس واختلاط ما بداخلها.أحشاءها. موت جنين وفرت له كل أسباب البقاء حيا، اقتطعت له من الأيام نقودا. حملتها بدمع تحجر بالمآقي، دمعات كان لابد لها أن تطفر، ليلحظها العيال الذين تجهموا باكين بصمت. التوت السحنة بعبوس انتقلت عدواها للوجوه الصغيرة المحدقة.. مؤكد اختلطت أحشاء العلبة.. صارت عجينة متعجنة ينفر منها المرء"ص111
هنا تكاثفت المشاعر، وتوحد الجميع في مواجهة سلبية لفقد / تشوه محتويات العلبة التي كانت مثارا لصراع الشفقة والحزم فيما بين الأطفال وأمهم، كأمر مشتهى لا يقلل من أهميته ورمزيته، كونه مجرد (تورتة) أو حلوى، لكنه يماثل المعادل الموضوعي للحلم / الرغبة التي تغتال؛ لتأتي نهاية النص دالة على تحقق حلم الصغار، وإن كان مشوها، متمثلا في شفقة ناقصة تبديها الأم، إنقاذا لنقودها المهدرة، بعد مغادرتها القطار، وتيقنها من عدم صلاحية هديتها:
" .. قطع ملونة تداخلت.. تماوجت.. اختلطت، وشابها لون مزر كئيب.. والعيال ينظرون.. يتحسرون.. وهي تنسل عن صمتها.. زائحة عن نفسها هموم العالم، وتقول:
ـ كلوا يا عيال.. كلوا...
رؤوس تغوص.. وجوه تغوص.. وهي تنظر بابتسامة أسى تلوح على الوجه الصامت. " ص111
ومن خلال نهاية قد ترتبط ارتباطا عكسيا مع نموذج " قضبان الروح "، وربما تخطت نهاية نموذج " ظل باب" من حيث الاقتراب بشدة من مرحلة تحقيق الحلم، ولو على أنقاضه بعد عملية الاصطدام بالسيقان التي واجهتها العلبة/ رمز الصراع بين المتاح والمطلوب تحقيقه كمعادلة صعبة في حياة تلك المرأة / النموذج، وأسرتها الصغيرة.
***
بين الليل، والصخب
مما سبق نجد أن النصوص تتحرك داخل المجموعة على نحو من الدينامية الفاعلة المؤسسة لتلك النزعة الإنسانية الموغلة في صميم الواقع والمعاناة، والمتكاملة على نحو من التتالي الذي يجعل من تلك النصوص شبكة متصلة متوالية إلى حد كبير، بهذا الحس المأساوي المتدرج، ومن خلال ذات البؤرة / القماشة الإنسانية السردية الذي ربما انتقلت فعاليات صورها إلى خطوط أخرى موازية من خطوط سير الحياة، عبر قضبان أخرى، هي قضبان عربات الترام، التي ربما مثلت نموذجا مصغرا من نموذج القطار، فتأتي نصوص مثل " طوق الصخب"، و" طعام الليل" لتؤسس لواقع آخر منبثق من ذات المنطقة الهامشية التي يمتح منها الكاتب مفردات التعامل مع الواقع، من زاوية أخرى راصدة، من خلال نموذجين دالين أيضا من نماذج المرأة التي قد تتماس أو تربطها علاقة عكسية مع نماذج سابقة أتت في سياق معالجة نصوص القطار، ففي نص " طوق الصخب " يبدو نموذج المرأة المتخمة بعبء اصطحاب أبنائها الثلاثة على نحو ما يقول النص:
" كانت المرأة صاعدة، تنحشر، تدفع بصوتها المبهم تلاصق الأبدان بالممر، تحمل طفلا صغيرا فوق المنكب، وخلفها طفل آخر ممسكا بثوبها المزركش وطفل ثان بالوراء قابضا على مريلة أخيه الزرقاء. كانا يحملان على الكتف حقائب مدرسية من المشمع السميك. ويتقدمون بإصرار متجهمين، توقفوا، والمرأة تحاول الدوران لترى العيال، وتتحرك كثيراـ ملتمسة العذرـ ليكون الطفلان بالأمام. ضج محيطوها بالضيق، ليفسحوا لها ولعيالها مكانا " ص138، 139
تبدو المشهدية دالة على حركة جماعية تخترق النص/ عربة الترام، التي تتوازى وتتناص داخليا مع حركة ولوج المرأة و أبنائها لعربة القطار في نص " الوليمة "، تأكيدا على تتابع الصور المتشابهة في فعاليات الحياة، وتكرارها، ولكن بسمات أخرى تضاف إلى سمات الحالة العامة للهامش، لتختزل قطاعات أخرى من قطاعات الحياة وتشابكاتها، وتقدم الصورة من منظور آخر يتكامل بفعل التراكم لفعاليات الاستلاب والتشظي، والوقوع في حيز الهامش، فتبدو هنا سمة مائزة تطفو على سطح المشهد بدلالة الرغبة في إيجاد مكان للمرأة وأولادها في هذا الكيان المتمادي في سيره في خط مستقيم يتوازى بالطبع مع خط سير الحياة خارج نطاق الحافلة / الترام، فجغرافيا المكان هنا تتوازى أيضا مع الجغرافيا الخارجية للواقع، وهو أيضا يعطي دلالة رفض هذا الهامش ـ بالرغم من كونه هامشا ـ وجود هذه المرأة وأولادها في متنه، والتي تبدو من حركات الضيق والتأفف التي تلِّون وجوه المجاورين لهم في هذا الهامش / عربة الترام. مع الاعتماد ـ دوما ـ على رصد سمات الشخوص التي ترفل في مرحلة / جو نفسي دال على ما يلِّون به الهامش أحوال هذه الأسرة الخارجة من عتمة الحياة الداخلية إلى عتمة الحياة خارج النص، وبما تحمله هذه المرأة على عاتقها في رمز الطفل الذي يعتلي كتفها ،كمعادل موضوعي للهم وتحمل المسئولية، والآخر الممسك بذيل جلبابها المزركش ـ المتواضع ـ واللون الأزرق في مريلة الطفل الثالث؛ بما يشي بحالة اجتماعية متردية، وبما يشير إلى ظاهرة من ظواهر المجتمع المكتظ بسكانه من فئات يستلبها هم العيش ومرارته.
لكن الظاهرة/ الحالة التي يبحر في اتجاهها النص، تتجه نحو معالجة حالة الاعتوار/ الفقد/ الاستلاب المعنوي والمادي الذي تعاني منه هذه المرأة من خلال مأساة أطفالها التي يحاول النص رويدا رويدا ـ بمشهديته ـ إماطة اللثام عنها:
" ظلت سادرة في تحركها بين العبث في الحقيبة وتعديل جلوس الطفل الصغير الذي بكى ونظرها الناهر لوجهه الذي أذعن وصمت، بوقت نطلع الولدين وأصابعهما تشير لأذنيهما بتذمر واضح" ص139
يشير النص هنا إلى مكمن الضعف والعلة التي يعاني منها الأطفال، والوهن الذي يعترض وجودهم على سطح الحياة، وتجعل بينهم وبين صخب هذه الحياة ستار سميك يحجب عنهم ما يتمتع به غيرهم من صخب!!، وفي هذا مفارقة عجيبة يسوقها النص، ليدلل على مدى الاستلاب الذي يعاني منه هؤلاء الأطفال / المستقبل، ومعاناة تلك المرأة واستلابها عناصر أمانها واستقرارها في الحياة، ونظرتها إلى هذا المستقبل الذي لا يلوح منه إلا هذه السمة من عدم التواصل والانعزال عن العالم الخارجي / المجتمع، لكن البدائل التي يطرحها النص / الحالة المفارقة، لمحاولة عبور هذا النفق المظلم/ المتاهة التي احتوت هؤلاء الأطفال، تعمل عمل السحر من خلال هذه الاستعاضة، التي تحول الموقف المضطرب للمرأة وأولادها على نحو خاص، ونحو عام ينطلق من هذا الخاص:
" أخرجت جهازا صغيرا، ملفوفا بسلك بطرفه سماعة أذن. حين وضعتها في أذن الطفل الأول تفتحت مسام الوجه بالفرحة.. ثم فتحت الجهاز بين نظر الفرح وقدوم الصخب... لينتشي الولد الآخر وهي تخرج جهازه، وتضع له السماعة في الأذن... لتنقشع لحظات الترقب الملهوف، وتنزاح غيامات الجهامة عن الوجوه" ص140
تقاوم هنا المرأة / الحالة فعل الاستلاب الذي يحصرها في حيز هذا الهامش من الحياة، في إشارة واضحة إلى تعمق وتجذر روح المقاومة الأسيانة التي تجابه بها المرأة بقوة الخروج من العتمة والإصرار على معانقة الحياة ومعايشتها بروح تحاول الخروج من حيز هذا الهامش ولو بالاستمتاع فقط بصخب الحياة..
***
ربما ارتبط نص " طعام الليل" بتلك النزعة المقاومة لاستلاب الحياة، التي تتطابق إلى حد بعيد مع فلسفة نص " الصخب "، من نفس منطقة الهامش التي تمثلها في كل من النصين، عربة الترام كمرتبط ضمني بفعاليات الحياة الرتيبة من خلال مجتمع أصغر من مجتمع القطار،فربما كان الخواء الذي يسيطر على أجواء النص عنصرا من عناصر الفقد والاندياح في هذا العالم الذي يتمثل في هذا النص في جو ليلي شديد البرودة، التي تنسحب من الواقع الخارجي المحيط، وتعمق قسوة الإحساس بالممارسات الضاغطة على مفردات الحياة الخاصة لهذا النموذج الذي تمثله امرأة نص " طعام الليل" القعيدة التي اخترقت ـ محمولة ـ عربة الترام / النص، والتي ربما تماست مع امرأة النص السابق " قضبان الروح" العمياء ـ أو التي أقعدها العمى عن ممارسة حياتها بشكل طبيعي ـ لكن بروح التمرد التي تحملها المرأة المشلولة في هذا النص تمثل قيمة التغلب على قسوة الاعتياد العاجز بالتعويض الذي يختلف عن تعويض امرأة الصخب لأولادها بسماعات الأذن التي تصلهم بالعالم ولو كان عالما مهمشا، أو جزءً من هامش يلفظه المتن، ويأتي هنا عبر هذه الروح المتماسكة والمقبلة على الحياة من نفس الواقع الذي لا يحد من قوة التهامها للحياة المتاحة لها، بل يزيد من عزمها من خلال هذه المشهدية الدالة أيضا:
" فتحت المرأة الكيس بحذر ورفق شديدين.. أخرجت أرغفة مطوية محشوة بغموس غير واضح فتحت فم الجوع وقضمت بنهم، والطفل يتابع عودة اليد القابضة والتي توقفت قدام الفم الماضغ بصوت عال ومقزز.. تبتلع يختلج الوجه مع العينين الغائبتين والطحن المأخوذ بلذة القضم والابتلاع..." ص145
من خلال هذه الممارسة البشعة لعملية الأكل التي تتعامل بها المرأة مع مفردات الحياة / الطعام ربما بقسوة تعادل عملية الإحساس بالفقد والاستلاب والوقوع تحت تأثير سطوة الهامش الذي يحصرها بدنيا ومعنويا في دائرته حيث لا خروج من أسره، ولا مناص من التعايش مع هذه الحقيقة الواقعة التي ألزمها إياها العجز والعوز..
" قبل توقف الترام بالمحطة التالية. أشارت لأحد الرجال.. شال الساقين المشلولتين.. الظهر المقوس الضام المنحني على صدر ذابل وبطن مشفوط.. وضعها فوق رصيف المحطة.. وتناول الطفل من رجل بالداخل. وضعه إلى جوارها وصعد.. وأغلق الباب، ليواصل الترام زحفه في ظلام آخر .. " ص146
ترتبط هذه النهاية الموفقة للنص مع الدخول في دائرة العتمة التي دخلها نموذج امرأة نص " قضبان الروح " بالعمى المادي الذي سيطر على الأداء الانفعالي الذي لعب عليه النص ليجسد سمات هذا التشظي والاغتراب في متن هامش؛ لتكتمل الدائرة بالعودة للزحف في العتمة الرمزية التي تكتنف فعاليات هذا الهامش الممتد من الحياة المضنية، وما كان بين بداية الدائرة وإحكام غلقها من فعاليات هذا الهامش التي لا تني تتوقف عن لفظ عناصرها، وإقصائهم حتى من الهامش الذي قد تطرد حركته الساعية في الحياة وتزيد، وقد تتباطىء وتتمهل إمعانا في القهر الذي يمارسه هذا الهامش على الواقعين في أسره.
هامش آخر، وليس أخيرا
تلوح من خلال هذه النصوص / النماذج التي تعرضت لها القراءة، تلك العلاقة بين المرأة كحاضر وماض، وكأرضية مشتركة تتسم بالعديد من السمات الضمنية لمعنى الحياة، وبين النموذج الذكوري، الناشيء، المتكرر في شخصية الولد الصغير الذي تتكيء المرأة العمياء عليه في نص " قضبان الروح"، والولد المشارك لأمه في محاولة التماس الظل في نموذج " ظل باب "، والولد حامل علبة ( التورتة ) في نص "الوليمة"، والولد ( المبتسر) في صوره المتعددة في نص " طوق الصخب"، والولد المحروم الملازم للمرأة الكسيحة في نص" طعام الليل "، لتشكل هذه المجموعة من الأولاد / المستقبل، دائرة من الحيرة، ومن هامش جديد ربما كان أكبر وأكثر اتساعا، يتقاطع بشكل كبير مع هامش المرأة في متن هذه المجموعة، ومتن هامش الحياة، ليطرح هذا الوجود سؤال الكتابة والنص، الكوني المُلِح الذي من المفترض البحث عنه في نهاية قراءة كل عمل أدبي جدير بالقراءة والبحث، والذي قد يتمحور حول / يختزل في علامة استفهام كبيرة تسبقها العديد من المساحات الفارغة والنقاط المتفرقة، والذي ربما كان استشرافا لما سوف يكون عليه مستقبل / حال هذه النماذج من الأطفال الذكور / الهامشيين الجدد؟
ـــــــــ
* الكتاب: مدن وضواحي ( مجموعة قصصية)
* الكاتب: أحمد محمد حميدة
* الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ سلسلة " إشراقات جديدة "
أحضان ملوثة.. رؤية نقدية لرواية الغجر
أبو نصير عثمان
مقدمة:كتبت الرواية عام 1987م، وطبعت عام 1995م فى مائة وواحد وخمسين صفحة من القطع المتوسط، تروى العلاقة الجدلية بين القيادات الأمنية وبعض المجرمين السابقين الموسومين بطباع الغجر فى فترة ما قبل عام 1952م، فيبسطون ملكيتهم الزائفة على أرض باكوس بالإسكندرية، الخاوية، مقابل إمداد عملاء السلطة بالوشايات والرشاوى والأموال الملوثة من تجارة المخدرات والسرقات والإتاوات. وينقسم المجرمون إلى زعماء (أقطاب) لا ينالهم أى عقاب جنائى، وصبيان (مساعدين) يتحملون أوزار السجن والفقر والجهل والمرض.
الشكل الروائى: تقليدى يحتوى على بداية ووسط ونهاية.
· لغة الحكى فصحى مبسطة تتخللها بعض العامية، سهلة الإدارك، واضحة المرامى.
· قسمت الرواية إلى اثنى عشر فصلا معنونا، مما سهل المتابعة، ويسر الإقناع.
· الحوار بين الشخوص عمق تميزهم، ووثق تنوعهم بين فطرى ومخدوع ومنتهز.
· برزت دلال (دودى- دو) امرأة الحلم كشخصية محفزة للخيال ومثيرة للرمز وطلقة للدلالة (التفسير) ومنها مصر، الحضن المشتهى من القاص والدانى والقريب والغريب، الموفر للدفء والأمان والمتعة والهناء والسرور.
· أفلح السارد العليم (الراوى) فى إقناع المتلقى بنقاء سريرته وسط بيئة ملوثة بكافة أنواع الجرائم، حاصلا على التعويض النفسى فى الكتابة عنها روائيا.
· تاريخ أرض الفولى- باكوس- الإسكندرية يوحى بأن وقائع السرد حقيقية، مع تطعيمها بالخيال الفنى المحقق للمتعة وللدهشة فى آن.
· لم يوضح السرد المهنة الحقيقية للراوى، التى يقتات منها، وأفاض فى وصف عشقه للكتب والدفاتر وكتابة الأرواق، مما عزز صدق اعتقاد باقى الشخوص بأنه مرشد (مخبر) للشرطة، ويشاركهم ذات الرأى معظم القراء.
· طوال فترة السرد التى استغرقت عدة سنوات لم يأت الراوى على ذكر زيارة واحدة أو اتصال بأى طريقة بين كاتبه القاطن وسط المجرمين وأسرته؛ زوجته وابنه، القاطنة فى مدينة أخرى خارج الإسكندرية.
المحتوى الروائى:
· ص76 يوجد وصف شيق لملامح وطباع الغجر مع منازلهم المؤقتة (الصفيح) والدائمة (الطوبية).
· ص77 نجد شخوص الرواية الذين "حركوا الحياة فى سبيل البقاء والنقاء" وهم: الوافدون والعامة ثم تجار المخدرات والسرقات وعملاء الإنجليز والسلطة.
· ص84 الوشاة: "بيتى العالى الواقف كالجبل. إنهم يجندون الحثالة لمراقبة الأثرياء. نأكل عيشنا مغموسا بالقطران (بترول الخليج: الذين هاجروا طلبا للمال ثم عادوا به إلى مصر).
· ص91 "يرشقون نظراتهم بظهرى، فتتعثر خطواتى" أفراد العصابة يشكون فى الراوى كواشى.
· ص98 "تخيلتها كوردة فوق عودها الشائك" الراوى يتحدث عن معشوقته دلال.
· ص108 "ينهشون لحمك بلا رادع" من مشاعر الراوى تجاه دلال المغتصبة من العصابة.
· ص140 دلال تصف زوجها بأنه فاقد الرجولة كما تصرح للراوى برأى العصابة فى وشايته ضدهم للشرطة.
· ص141وص149 دلال تنقذ الراوى من تخديره وتحميه من انتقام العصابة، تعاطفا معه، فيكافئها بممارسة الحب معها، لكنها تنصحه بالعمل لمصلحة العصابة اتقاء لشرورهم أو الهرب منهم.
· ص150 فى الختام يتصدى أفراد العصابة للراوى، ويشلون حركته، ثم يطوحون بأوراقه (التى يظنونها خطأ محتوية على أسرارهم وخطفاياهم) فى الهواء، فتتبعثر فى كل مكان، ويصل بعضها إلى قدمي الراوى، دلالة على تفريغها من كل معنى أو قيمة أو فائدة له أو لغيره.
· يوجد احتفاء بالمكان: ص5 بوصف باكوس (أرض الفولى) عام 1981م. ص25 ألتصق بهذه الأرض. ص60 أرض "على سيد الفولى الإنجليزى" عُمرت بعد الحرب 1945م بالوافدين مكونة مناطق كوبرى الناموس والسيوف والرأس السوداء.
· يوجد احتفاء بالأنثى: ص25 وجدتنى مشدودا نحو دودى التى تتطلع إلى المرآة بعينين واسعتين، فى وجه أبيض شهى. ص26 دودى امرأة يتنسم القلب ريحها. ص28 طالعنى شق النهدين. ص38 كانوا يرونها فى عيني بجسدها المتوقد عارية. ص39 مثلت قبالتى بجسدها البض. ص50 امرأة، صدر، رأس، لحم نحاسى.. أفرغ فيها الشبق المحبوس. ص82 زهرة هى فى مستنقع آسن.
· يوجد احتفاء بالطبقة الوسطى والدنيا من المجتمع بباكوس: ص39 هم هنا فى السطح فى الكراكيب. ص45 فلاحون بائعون للعرق والصبر، يشعر الفلاح بالجوع. ص46 الغاضبون والعاصون فى الأزقة. ص53 أنا البسيط تحت زمنى المقهور.
ملاحظات: تنتمى الرواية إلى تيار الواقعية الاجتماعية الذى يهتم بعرض المشاكل الإنسانية الفائرة مجتمعيا.
- طول الفارق الزمنى بين كتابة الرواية عام 1987م ومناقشتها عام 2010م لم يقلل من بهائها ورونقها، فما طرح من مشاكل وأحداث لم يختف من المجتمع بل تفاقم وتعدد وتنوع وتعقد، مما يحفز على مواصلة السرد والإبداع مواكبة لنبض الشخوص ومتطلبات الوقائع الأدبية المحققة للدهشة وللتساؤل والتفكير الإيجابى.
- رغم عشق الراوى للمرأة دلال إلا أن مشاعر الشك تحيط بها، إذ يعتقد أنها جاسوسة من الأقطاب ضده لمعرفة أحواله ونقلها كاملة إليهم وإلى الشرطة المتحالفة معهم، وذلك فى ص144و146و149 (دلال تصف الراوى بالشيطان والعصابة عيال تلعب بالنار).
- ص148 تباع أرض الفولى من الإنجليز والسلطة المتحالفة معهم إلى جد الأقطاب الذى أوصى ورثته بعدم ترك الأرض لغيرهم لأنها تحقق منفعة كبيرة لهم.
- ص150 يفشل الراوى فى الهروب بأوراقه بعيدا عن عيون الأقطاب، وينتابه الشعور باقتراب قتلهم له، فيرجوهم ضمه إليهم طلبا للحياة معهم على هواهم، ويدلل على إخلاصه لهم بقذف أوراقه عاليا فتتساقط فوق رؤوسهم وبين أقدامهم، وفى هذا انتصار مؤقت للشر على الخير، كان على الراوى أن يتجنبه بالبحث عن مخرج آخر يسود فيه الخير مهما كانت التضحيات.
- يوجد بالسرد تضخيم للذات الساردة لإثبات طهارتها وسط بيئة ملوثة، وقدراتها الحسية (الجنسية) مع دلال وسط زمرة من اللصوص والمدمنين، ثم مماسة فعل الكتابة المتسامية وسط طوفان الفقر والجهل والمرض، فالآخرون يرتكبون الفواحش كافة بينما الراوى يخلد إلى نفسه للكتابة عن ظروفهم وبؤسهم ودوافعهم الإجرامية، ولم ينقص السارد سوى أن يجمعهم لحلقات الوعظ والإرشاد إلى الطريق القويم الطاهر من الشرور والآثام، وفى نفس الوقت يستطيب الراوى مضاجعة دلال بدعوى الحب والذكورية..!!
- ص119 يوجد تناص مع رواية "الأم" لمكسيم جوركى بتناظر تراتيب التفتيش لدرك الحكومة عن منشورات سياسية فى القرية الروسية، وعن مخدرات فى أرض الفولى/باكوس، مع تماثل بشاعة مفردات التفتيش وشراسة القائمين بها.
- ص121 ظهرت كراهية الفئات الشعبية للطبقات الحاكمة بسبب غلاء أسعار كل شئ وطرح مواد تموينية فاسدة فى الأسواق.
- ص130و133 الراوى يستنفر مشاعر التمرد والثورة لدى نفوس الصبيان والصغار ضد أباطرتهم تجار المخدرات والمسروقات المدعومين من السلطات الحكومية الفاسدة المستشرية فوق أرصفة الجمارك والموانئ وأبواب التهريب.
- فى السنوات التى تلت 1987م لم يتدن الفساد فى باكوس وغيرها من بقاع مصر بل تلون وتنوع وتعدد وتخفى حتى ليصعب على العين الفاحصة التفرقة بين الفاسد والطاهر فى كافة ربوع مصر.
العبـق الفنـي.. وشوارع أحمد حميدة
الشربيني المهندس
المحـاكاة ومرحلة التحضير الذهني للعمـل الأدبي ، ثم مرحلة التلقائية الإبداعية ، والتقـاط الجزيئات المادية الملموسة ـ وإن تناثرت ذراتـها ـ ليعيد الكاتب دورتها حـول لحظات تعبيرها عن المستويات المعنوية في النص ، ثم ترتيب الواقـع وتنسيقه ، وإعـادة صياغته مع توظيف الخصائص الفنية المتاحة في سياق النسيج الأدبي . هي مداخل هامة للتجريب في الأدب ، وهل تتوقف التجربة ونحن أمام كاتب حفر لنفسه طريقا ، وتعددت أعماله الأدبية ..
يقول عنه أ.د. محمد حسن عبد اللـه: (كانت المفاجأة في حجم الشاعرية والجمال ، والجدية الفنية، والفكرية بدرجة تسمح أن نطلق عليه عدة أوصاف ، وهـو قـد استطاع أن ينتزع منطقه الخاص في القصة).
كما يقول أ.شوقي بدر في تعليقه: (لقد كون عالمه الإبداعي في صـبر ومثابرة ، وحاول أن يتلمس الطريق إلي خصوصية تبلورأعماله الإبداعية في فن القصة القصيرة).
للوهلة الأولي تلحظ ومضات قص كاشفة بداية بالنبش في الذاكرة لأحمد حميدة ومرورا بأنشودة القهر، ونلمح معالم حكايات التائهين في شوارع تنـام من العاشرة . ويحكيها الكاتب بطريقة ترتيل نسج الطواقي، وهو عنوان غريب لمجموعة قصصية. لكننا أمام كاتب ـ أسمر اللـون أبيض القلب ـ عشق الحديث الأدبي عن الطبقة التحتية ، ربما نلمح أثر بيئة مسقط رأس الكاتب وهو حي راغب الموغل في الشعبية ، والمفارقة أنه يحمل اسم أحد الباشوات في العهـد الملكي لمصر..
وقد فاح العبـق الفني لعلاقات الشخوص بالواقع الحياتي التحتاني وانتشر في كل شوارع أحمد حميدة وهو المعادل الموضوعي لما تثيره هذه الشخصيات من إدانة مرة لمجتمعها.. ويمكن أن تستشف منها صور حية وهي ثرية بالأحداث ذات الإيقاع البطئ التي يراها بعينين وعدسـات سميكة وقد أدمن ركوب الترام الملول مع زحفه البطئ ورواده المميزين، وغنية أيضـا بالمتناقضات التي تظهرها تصرفات الشخصيات ذات الدلالات الموحية ..
امتلك الكاتب ولا شك أدواته الفنية ، وأجاد توظيفها مع الرؤية من حيث علاقة الشخوص فنيا بالواقع الحياتي المراد توصيله للقـارئ ، وبحيث أصبح لها همومها وحياتها الخاصة ، مؤكدة تلاحمها مع واقـع الحيـاة التحتاني للمجتمع المصري الحديث ، ومؤكـدة في نفس الوقت التـزام الكاتب بواقعـه الاجتماعي ، والجموع الفقـيرة والمسحوقة من أغلبية الشعب ، بدون زعيق ، أو صريخ أو تشنجات مباشرة ، ولكن في أسلوب فني يرمز ولا يفصح، يشكك ولا يجرح، ينبه ولا يغوص، يطرح الأسئلة وعلينا الإجابة سمة للأدب الجيد .
ويأتي السؤال مع الالتزام والذي قد يعطي التمايز للكاتب أو يقيده أم التنوع ..؟
.. وتأتي الخصوصية والشهرة حيث يفرض العمل الجيد نفسه بصرف النظر عن اللون الأدبي .. ولدينا مثال د.يوسف إدريس وتناوله للطبقات الشعبية ، ولعمال التراحيل التي أضفت له شعبية خاصة.. ومحمد عبد الحليم عبد الله ورومانسيته القروية التي ميزته ..
وليس ثمة خلاف حـول اختيار الأديب للإطـار الأدبي الذي يدور معه النص ، ويشكل الشـارع القلب النابض لقصص أحمد حميدة .. وللتواجد فيه مدلول خاص مع الحركة دائما من الشوارع وخلالها وإليها .. كانت الحكايات تتوالي مع يوم الخروج ـ أو نهاية الخدمة ـ وهـو قطعا إلي الشـارع ، ويوم آخـر أيضا كان في القطار المعطل ، وحتي الصعود إلي القـاع، أو البرج كان لإلقاء نفسه إلي الشارع .. وهكذا تعيش معنا ، أو تتأثر بعبق الشوارع، والذي اختاره عنوانا لمجموعته.. والعبق إضافة غريبة للشارع.. لكنه الفن وعجائبه وعلينا أن نبحث لنشعر به .
وتستمر عطاءات الشارع ورائحته الخاصة.. وهو يقابل صديق العمر في الشارع وقد رأه واقفا فوق الرصيف الآخر لمحطة ترام باكوس ..
وقد يتوه البطل في الشارع ، وقد تشابهت الشوارع والبيوت .. ويعيش يومه مع طوق الصخب ، وجوف الترام يبتلعه كل صباح .. وحتي طعام الليل يكون في الترام والتي تتميز بالرتابة مثل حياة هذه الطبقة .
القصص تدور غالبا مع الطـريق الخـاو ، حيث ينسج السكون الرتيب الخدوش بصوت مألوف لترام مزحوم ، يزحف ببطء ، غاديا وعائدا عبر محطات الورديان إلي بطن المدينة .. بينما الجـزء الآخـر منها يظهر عندما يعود الضوء الغارب ، أو يطل الصباح من فتحة بدروم ، وعيـون الجيران السطحيين، تراقب لحظة ولادة ألفاظ تناسب سلوكهم التحتية من فم الطائر المغرد .. إنها الصورة ، أو الجانب السوداوي من حياتهم .. وحتي رحيل الولد جاء بعـد أن تركوا خياله علي الحائط رغم التغلغل الذي سيطر علي تلافيفهم .
وقصته يوم الخروج عن واقعـة بالهيئة التي يعمل حرفي كوابل بها .. والتي بدأ بها المجموعة القصصية موضوع الدراسة، هو يسجل واقعا بعدسة فنان.. يستهلها بهذه الكلمات:
(شعر لأول مرة عبر تاريخه الممتد بعمـر الهيئـة ، أن تلك اللافتـه الصغيرة المستكينة فوق طرف المكتب ، المحفـور بقلبها اسمه الثنائي ولقبه الوظيفي ، تشبه لافتة قبر بلا شاهد..) وتنتهي هكذا: (أعاد الساعي المقلمة وأدوات الكتابة ، ودفـع زجـاج الشباك ، فأزاح الزجاج لافته انحرفت ـ قبلا ـ بفعل إنزال الكرسي جرت علي الأفريز وتهاوت إلي الشارع..) وأعتقد أن توقف القصة عند هذا المشهد كان سيعطي الرمزية المطلوبة للخط العام للمجموعة، والعنوان وحيث الملمح من الشارع وإليه وهو من خارج قصص المجموعة
لكنها هنا انتهت القصة بالجملة التالية: ( .. وتهاوت إلي الشارع ، نظر اليها بلا اهتمام .. ركض بجسده نحو الخارج حتي يلحـق بالقطار) .. وهي التالية مباشرة للجملة السابقة ، وتعطي أيضا دلالة خاصة عن توقف القطار لرجل سقطت لافتته ، بينما يستمر قطار الرجل الآخـر ـ وليس البـديل ـ في مساره والمضمون الفلسفي عن استمرار الحياة.
واختار الفنـان أحمد زاويته المعبرة عن مركز المدير بإزاحة اللافتة أو صاحبها إلي الشارع .. ورغم وحدة الموضوع ، فقـد ركز الكاتب هنا علي اللافتة كرمـز لتواجد الشخصية.
أيضا في قصة التيه تأتي النهاية علي لسان الراوي: (نهض الرجل فجأة .. نظر حوله.. تحرك ببطء المتردد نحـو منتصف التقاطع ..توقف هناك وحده..)
وهي توضح الشكل المألـوف للتائه ، حيث يقف وحيـدا في منتصف المكان وقد تداخلت الاتجاهات من حوله.. وطبعا التوقف رمز الحيرة.. وكالعادة هناك نهاية أخري لجملة تليها علي لسان شخصية أخري: (نظرت .. وعدت إلي البراد والكوبين ..وضعت السكر.. والشاي.. علي الموقـد الكهربي ..متوقعا عودته.. إلا أنني أرسلت نظري إلي التقاطع ، كان قد اختفي).
ونحن نحترم الرؤية الفنية التي يستخرج بها الأديب من المعاني الحياتية ما يريد، أو يحاول أن يضفي عليها معاني جديدة. وهي تستمد وجودها بشكل أو بآخر من التجـربة الشعورية التي يمر بها الأديب.
تضم المجموعة قصص .. يوم الخروج .. الصعود إلي القاع .. التيه .. طوق الصخب .. طعام الليل ..يوم آخر ..الضوء الغارب .. رحيل الولد ..طائر مغرد ..التغلغل .
واذا توقفنا أمام الإهداء نستطيع التقاط بعضا من خيوط النسيج الأدبي ( إلي الشوارع ..وناسها الذين أحبهم أكثر مما يتصورون).
وعودة إلي خيوط النسيج وتراتيل الشوارع الغالبة هنا وفي مجموعات قصصية سابقة.. في قصة "التائهون" لمجموعة تحمل نفس الاسم .. يقول الراوي علي لسان البطل .. .. ماذا في المدينة يا أم الهـوانم .. أناس تائهون يملأون فراغ الشوارع الطويلة المملة..
هكذا ترسم خيوط العمل وحـداته المؤثرة ..إذا كان صوت الشارع يعلو مع كل قصة ، فإن رد الفعل لدي البطل الـراوي هـو الجانب المظلم للشوارع المملة، الذي يجعل منها نقـاط ارتكاز الدلالة ، والمعني في تواصل خاص مع عمليات التداخل والبناء القصصي .
وللشارع معني خاص لدي الطبقات التحتية.. حيث يحمل مضمونا محددا ، فيقولون دا تربية شوارع مثلا لتوضيح أسباب السلوك السئ .. وهناك قصة وفيلم مصري يحمل هـذا الاسم (أولاد الشوارع) ..والسير في الشوارع أو التسكع يمثل نوعا من الفراغ .. وغالبا تعتبر الشوارع ملك مشاع ، أو ملك الحكومة .. حيث تمثل نوعا من الحـرية الخاصة ، أو الانطلاق من الحجرات الضيقة والخانقة إلي الشارع العريض..
ونستمر مع الكاتب لنرصد الدلالات المستنبطة من بطولة الشوارع.. وأين يظهر العبق وكيفية الرصد من تجربة الأديب أحمد حميدة..
وهنا في قصة التيه في دلالة ساخرة يجعل البطل يتـوه عن مسكن ابنته ـ والذي تركه منذ لحظات ليصلي في الجامع ـ ليتوه عن العـودة إلي مسكن الابنة .. الشوارع كلها هنا تبدأ من عند محطة السكة الحديد .
وكل البيوت هنا أبوابها خضراء وقدامها عتب عالي ..
وكل الشـوارع اللي هنا وهناك فيها خردواتيه ..
ربما نلمح تأثيرا للمساكن الشعبية وتوحـدها في الشكل وهي التي بنيت في عهد معروف .. وربما يبدو التوجه السياسي في دلالة الإحـالة إلي المعاش المبكر مع التحول إلي النظام الليبرالي ، أو النظام المختلط .. وأصبح الرجل ـ أو زوج الابنة ـ علي باب اللـه وعلاقة ذلك بالنظام الإشتراكي الذي وظفه ، وأسكنه هنا ، في حجرة فوق سطح.. وفي أي النظامين تاه الرجل..؟ .. هنا يأتي دور البناء الجمالي ، وتوظيفه للدلالات المختلفة.. بعيدا عن المباشرة والتقريرية.
في قصة التغلغل .. يظهر بوضوح إحساس الراوي بمشكلة المثقفين ووجـودهم الذي يشبه خيال المآته .. وينهي الموقف بركل الكتاب رمز الثقافة إلي منتصف الطـريق ، تحت أقـدام الناس والسيارات.. واختار الكاتب شارع النبي دانيال بالإسكندرية ، وحيث أرصفة الكتب الشهيرة علي غرار الأزبكية بالقـاهرة زمان .. في رسالة واضحة المعالم .
وفي نفس القصة .. تشعر بسخطه الواضح علي تواجد ذوي الوجـوه الجيرية، وأصحاب النجمة الداودية .. في رسالة ضـد محـاولات التطبيع ، والذي رصده بصورة مستفزة علي حساب كرامة ذى الزي الأصفر الكالح . وكان دور شارع النبي دانيال واضحا حيث يوجـد المعبد اليهودي بالإسكندرية . وهذا الاختيار أفضل ، فقد كان يمكن أن يكون المكان هو حارة اليهـود بالإسكندرية، وقد كانت ستمثل الجانب الديني ورمزيته فقط ، أما اختيار شارع النبي دانيال فقد كان علي قدر كبيرمن التوفيق، فرمـوزه أكبر، ودلالاته أعمق، من حيث جمعه للإطـار الديني والثقافي للصراع في المنطقة.
في قصة طائر مغـرد .. كانت الدلالة الواضحة عـن معاناة خريجي الجامعات ، والذين تحولوا إلي أسوأ الأعمال وهي مسح الأحذية كقيمة معنوية .. تضخيم الإحساس بوضع الشهادة الجامعية كعلامة بارزة فوق صندوق الأحذية .. والتركيز هنا علي جانب المعاناة للشخصية كخط ارتسمه الكاتب لأعماله، ويري كاتب آخـر أن ينجح ماسح الأحـذية ، ويخرج لسانه للشهادة الجامعية مثلا .
مرة أخري ثراء العطاء الفني الذي يتيح للجميع النظر من زوايا مختلفة .. التوجهات السياسية للأبطال تؤدي إلي التيه أحيانا ، فـدروب الحياة السياسية وعرة وشائكة .. وقد تؤثر المباشرة علي البناء الفني والجمالي .. ويري الناقد محمد محمود عبد الرازق تأثيرا آخر لذلك ويقـول: (ولا يسلم أحمد حميدة من استعمال الرمـوز المستهلكة ، ممثلة هنـا في الكتاب الذي يحمله الراوي أثناء سيره مع صديقه من ميـدان سعد زغلول إلي شـارع النبي دانيال ، وقـد انزلق الكتاب من تحت إبطه ، فركله ركلة دفعت به إلي منتصف الشـارع. وفي السياق ، كان الراوي يتصفح الكتاب أثناء السير، وكان صديقه يحمل كتبا، فمد يده وأغلـق كتاب الراوي فلا فائدة ).. وقد تعطي نهاية القصة في هذا الموقف دلالاتها العميقة .
والوجوه الأولي لزوار المعبد اليهودي بالنبي دانيال، وهي واضحة من النجمة الداودية في سياق النص ، وقد تثاقلت رؤيتهم في عيني الراوي ، وهم يتسكعون بثقة زائدة ، وينفقون الأموال لتبدو البسمة علي وجـوه مألوفي الملامح ورجل الأمن كالح الزي.
ويمكـن الربط المباشر بين القصتين المتتاليتين طائر مغرد والتغلغل حيث ماسح الأحذية الجامعي يرفض أن يصوره الرجل الغريب لإحساسه بمهانة استخدام هذه الصورة ، وبين مهانة مد الأيدي لفلوس الأجانب مقابل التسليم بالذل.. وهنا انحرفت عن التصور السطحي بأن القصة ضد التطبيع، ومثلنا الشعبي يقول بفلوسهم . وبمعني آخر .. أن القصة لا تفرق كثيرا بين الأمريكي أو الروسي أو الإسرائيلي الذي جاء ليشتري البلد وناسها .. فالقصة كما يقول أ.محمد عبد الرازق كابوسية تحيط بلحظة حياتية محبطة لعائلة تعتز بالفقر .
ويبدو أن الكاتب يجد متعة خاصة في عرض الصور البائسة، أو الجانب المظلم لشخصياته لتسير خطوط المأساة كما يرسمها راصـدا من خلال عين واعية مشكلة دود الأرض والمهمشين في الحياة ..
في قصة الصعود الي القاع .. كان الرجل الذي يريد الانتحار ـ هربا من موقف النقل إلي منطقة عمل أخري ـ يواصل الصعود وقد اكتظت الشوارع بالخلق .. والشمس تصعد إلي السماء وتحط فوق البرج .
وهذا الملمح يفسر وضوح درجة من التفكيكية في بعض النصوص ، مع تجريب شكل جديد للغة. وقد أدي ذلك لظهـور خـلل البناء الجمالي للقصة ، وقصورالربط بين الأحداث بطريقة فنية بعيـدا عن المباشرة وطغيان الشعور الشخصي ..
في قصة التغلغل يتضح من التفكيك لمفردات القصـة والأحـداث ـ الحديث الجانبي عن الغـلاء ، وإغـلاق الكتاب ـ أن القصة لا تنبني علي أساس منطقي ، ولا يقيم الكاتب وزنا كبيرا للترابط بين البداية وما يليها حتي الخاتمة.. نلمح ذلك أيضا في قصة الصعود إلي القـاع ـ رغـم دلالة العنـوان والمفارقة بين الصعود والقاع ـ حيث الإيحاء بالربط بين البطولة أمـام العدو والاستسلام الكامل للقـرار الظالم من وجهة نظـره.. ويصـور الفلاش باك بعضها ، وحيث التقدم لإحراز النصر علي العدو ، وبالمقابل يستمر الصعود الي القاع ومحاولة الهروب بالانتحار..
السرد في كلا القصتين لمجموعة من الانطباعات المترامية للبطـل ، وإثبات حالة الشعور بالضيق ، ثم العجز عـن إيجاد مخرج ، ليقذف بالكتاب تحت أقدام الناس والسيارات في قصـة التغلغل ، بينما يستمر في الصعود الدامي، رغم النداءات الإنسانية في القصة الثانية.. وبالقطع لا يكفي كون القصة والأحداث تجري في مكان واحد وهو شارع النبي دانيال في قصة التغلغل، أو نفس المبني في قصة الصعود لإضفاء المنطقية. وتبـدو القصص وكأنها تدور حول محور مفرغ.
ومن الزاوية الأخري نجد أن كاتبنا له دراية باللغـة التحتية تساعـده في ذلك مفردات خاصة وكأنها منحوتة من الواقـع المعيش.. تنتشر بالنص ثم تعـود لتعبر عما يريده .. وهي مزيج من العامية والفصحي .. وهـو يستلهم تراكيبه المعبرة، ودلالاته الموحية ، من خلف زجاج عدسات نظارته السميكة ، وخبرة كبيرة ببيئة أبطاله.
في قصة طائر مغرد ( انفثأ الحنق الكامن ..خرج منه ذراع محمـوم ، مسح أشياء من علي سطح المائدة بيد غضبي ..تطايرت المظاريف ـ التي كان يسجل فيها شكاياته للمسئولين ـ وتناثرت فوق الأرض .) وتبدو ديناميكية الصورة بشكل لافت للأنظار وطريقة عرض ذات جمالية خاصة .. برع الكاتب في التركيز علي الجوانب التي يرسمها بصبر عجيب ، ولكن بدقة عالية..
في قصة الضوء الغارب ( يتزحزح الضوء في غفلة منها ..يتضاءل ، ويكاد يصعد العتبة.. ثقيل هو الجسد .. تحث الخطو بوهن وانحناء ظهر ، يعتدل رويدا وبعد الكثير من التحرك.. غسلت الأواني المركونة ..حمصت كمونا علي النار .. طحنته في الهاون ..ساوت برطمانات صغيرة ..ملح وشطة وكمون فوق رف صغير .. فصصت رأس توم ..قشرته .. وضعته في برطمان .. وصنعت كوبا من الينسون .. حين فرغت ، تقوقعت بركن الأريكة .. ليهيمن الخيال المتوقع علي الرأس ويستبد .. رصدت الضوء الكابي .. وسمعت جلبة بالخارج.. وأثقل النعاس العابر التلافيف فمال الرأس .. سعاله كان يطن في الحنايا..) ..
هل تري معي الضوء وزحزحته ، ورصد الضوء الكابي ، لقصة بعنوان الضوء الغارب .. والتلاعب بالألفاظ .. ورغم نجاحه في تجربة مفردات وجمل لغوية خاصة ، تلاحظ في قصة التيه أن الكلمات مفصولة بنقطتين بدلا من الفاصلة أو الواو (وضعت السكر.. والشاي ).. كما استخدم أساليب مختلفة حيث وضع جملا بين أقواس لفصل الأحداث .. استخدم الفلاش باك بأكثر من طريقة.. في قصة رحيل الولد.. يقول الراوي كان شابا قويا حين سكن الذاكرة.. ويبدأ سرد أحداث الماضي .. بينما في قصة الضوء الغارب ..رصدت الضوء الكابي.. وسمعت جلبة بالخارج ..وأثقل النعاس العابر التلافيف فمال الرأس ..سعاله كان يطن في الحنايا.. ويبدأ التذكر.. ولد يابدوي..
ويستخدم الكاتب أساليب فنية متعددة مثل السخرية المغلفة للسطور ، والمفارقة في العنوان وبين الاستهلال والنهاية في قصة يوم آخر تقرأ .. (غارقين كانوا في صمت غريب ..أشعلت لصديقي سيجارته ، وهو يقول : أرجع للبيت أحسن.. وأسلك البالوعة).
وفي قصة طائر مغرد والذي ينتظر الوظيفة بفارغ الصبر .. تكون النهاية ( انحني علي شهادته. رفعها عن المائدة . مسحها ووضعها فوق السرير، وأقعي ، ناظرا إلي عقب الباب ، منتظرا رسالة .)
والرسالة واضحة من دلالات الانحناء للرجل والرفع والمسح للشهادة ، والوضع علي السرير ـ مكان النوم والموت ـ والانتظار.
والرسالة أو الرسائل التي يريد الكاتب إيصالها أصبحت معروفة .. وهكذا استمتعت بالطواف بين تجارب لها مدلولاتها المتعددة التي تجعل للتجريب معني وهدفا ، وتثري المشهد الأدبي وتبشر بالكثير لكاتب متميز .
دراسة نقدية لمجموعة "عبق الشوارع"
حسنى الجنكورى
تقديم:يباغتنا أحمد حميدة بعنوان المجموعة "عبق الشوارع" ليكشف لنا عن مدى انتمائه لبيئته ومجتمعه بما تحويه من جماد وإنسان لتشكل عالمه الأثير، وليعبر صراحة عن مكنونات ذاته، وأشجانه، وهواجسه، فى عالم بات فيه الإنسان مقهورا، يبوح بالقليل، ويوجعه المسكوت عنه الكثير، ولكن عالم أحمد حميدة الأدبى قد تجاوز معضلة المسكوت عنه باقتحامه بالرمز تارة وبالإسقاط تارة، والمونولوج الداخلى وبوصفه لشخوصه تارة أخرى، حتى يتطور الحدث، ويتجسد المعنى المراد، والفكرة المقصودة، وذلك بعيدا عن المباشرة، والجمل الخبرية، أو الخطابية الزاعقة، ويبدو أنه يتمثل مقولة أرسطو فى (فن الشعر) فى تعريفه ووصفه للفن بأنه "الفن هو إخفاء الفن". هذا ما وضح من بنية السرد سواء الخارجية فى العنوان "عبق الشوارع" ليعطى المعنى دلالات التحام الكاتب بمجتمعه ومفردات هذا المجتمع، وهذا ما يؤكده الإهداء الذى يتصدر المجموعة (إلى الشوارع وناسها.. الذين أحبهم أكثر مما يتصورون) وذلك معبرا عن نفس مفعمة ومشبعة بالمشاعر والأحاسيس، ومشبعة ومهمومة فى ذات الوقت بمعاناة أقرانه ومواطنيه.
وفى الغالب يقدم لنا الكاتب مكنونات نفسه وهمومها مضيفا إليها تجربته الذاتية الواقعية فى أغلب الأحيان، غير متهيب أو خجول من واقعه الذى يتقبله عن طيب خاطر، بحسناته وسيئاته، ملقيا بنفسه فى أحضان مجتمعه، مستمتعا بدفء العواطف الدافئة.
ويعتمد الكاتب أسلوب السرد المباشر، مبتعدا عن التهويمات والتغريب واللا معقول، معمدا على لغة بسيطة لكنها عميقة المعنى، تمس قضايا إنسانية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية.
يوم الخروج: عنوان معبر عن متن النص، هو بمثابة العتبة لمعمار النص وبنيته الداخلية، يدخلنا للحدث مباشرة مستخدما الفعل الماضى. مضمون النص يعبر عن حالة ترك الوظيفة وسقوط الأقنعة الزائفة للمرؤسين تجاه الرئيس المحال للمعاش، تكشف الدوافع والأطماع والمصالح والوقتية، وكأن الكرسى الوظيفى هو الضمير والذى يسكنه روح المدير الذى لا يلبث أن تزهق روحه بالخروج للمعاش وكأنه الموت له، ثم يعود وتسكنه روح جديدة تطلق لها الأبخرة، وتقدم لها القرابين، وتقام لها الشعائر على طريقة (عاش الملك.. مات الملك) من خلال ثلاث شخصيات (المدير المحال للمعاش- السكرتير المتربص بالوظيفة والمكتب- الساعى المتربص بالموظفين لا يعبأ إلا بمصلحته وبموعد القطار ليلحقه) لتتهاوى لافتة المدير المتقاعد، وينظر إليها بلا اهتمام، وركض حتى يلحق بالقطار.
الصعود إلى القاع: القصة تعتمد على المونولوج الداخلى لشعبان (للاسم دلالة حرفية) الذى يتظلم من مديره ليصعد سلم برج الاتصالات مهددا، وتساوره الهواجس والطنون، وليقارن بين عالمه الوظيفى واضطهاده لنقله إلى شرق أو غرب المدينة والتى يرفضها، ويقارنها بزمن آخر وقت أن كان محاربا ومقاتلا فى سبيل الواجب والشرف. يستخدم الكاتب أسلوب المقابلة فى موقفين (مثلا تسلقه خط بارليف مقابل تسلقه برج الاتصالات) ليطور المكابقة وموحيا من الخاص إلى العام، وذلك فى توجهه وتحليله للأوضاع، حيث أن مفردات القصة لها دلالات تُقرأ من بين السطور، بمعنى أن يحكى الكاتب عن حدث أو موقف ويضمر فى عقله معنى حخالفا بعيدا ليصل من المعنى القريب للمعنى البعيد. شعبان فوق البرج يرى الأشياء والمجتمع، محطة ميدان الشهداء خرزة، فعندما يسمو بنفسه فوق البرج تتقزم أمامه كل الأشياء. وفى خاتمة القصة مونولوج داخلى لشعبان يلخص القضية حيث يبكى جمهور الشعب لشعبان وهو يتباكى معهم بكلمات "يبكون عليك يا شعبان.. أنت لا تحب رؤية دموع بنى جلدتك الخشنة، فهم لا يبكون إلا من وطأة قهر مفزع لا يملكون حياله إلا البكاء، أو يفرحون لشئ غاية فى البساطة" السؤال من يكونون؟!
الكاتب يكتب عن تجارب تشعر أنها من واقعه الذاتى أو المهنى، وقد كان صريحا ومباشرا فى سرده عن العمل بالاتصالات، ويظهر ذلك بأكثر من قصة مثل (التغلغل) يقول: "أذكر أننى شاهدت بعضهم فى السنترال. ويبدو أن المواصلات العامة مرتع خصب للإيجاء للكاتب حيث نجد أن الترام والقطار كمكان هو البطل فى أربع قصص هى "طوق الصخب" "طعام الليل" "يوم آخر" "صديقى". وكأنه يتخذ من المواصلات العامة رمزا للمجتمع، وركابه هم أفراد المجتمع، ليبدأ من خلال الموقف السردى عمل الإسقاطات التى تظهر العوار بالمجتمع وسلبياته، وذلك فى ومضات مضيئة وكأنه يضع قضايا المجتمع تحت المجهر ولكن لا يتدخل ليطلب من ذوى الشأن أن يجدوا الحلول، لأنه يدرك أن العمل الأدبى يأبى أن يقدم حلولا للمشاكل، ولكنه يقدم الدهشة والمتعة، ويظهر مشاعر الإنسان وتعاطفه.
طوق النجاة: تتجلى فى حالة القلق التى تثيرها الأم مع أبنائها عند صعودهم للترام، وتأفف من يجلس بجوارها من تحركها وإزعاجها، حتى تهدأ أخيرا بعد أن وضعت سماعتين لولديها بآذانهما، ويحتفظ الكاتب بالمفاجأة حتى آخر لحظة مستخدما عامل التشويق فى القصة مع استعماله للعبارات القصيرة السريعة اللاهثة لتضعنا مع نهاية الحدث "المفاجأة" للولدين الأصمين، وأمعن الكاتب فى الاختصار والتلخيص كما يجب بالقصة القصيرة لتخلو من الترهل، بل هى مثال للتكثيف وإرساء الفكرة فى أقل قدر من العبارات والألفاظ، وهو ما تحقق بالفعل.
طعام الليل: تلخص القصة حالة من الفقر والعجز (الشلل) لامرأة مع ابنها بحالة تشرد حتى يكتمل لديها الحالة بمظاهر الجوع، ليكتمل الثالوث البغيض للتخلف؛ الفقر والجهل والمرض، هل الترام هى اختزال للمجتمع الذى يزحف ببطء، والشارع المظلم والممتد حتى آخره هل يعنى المستقبل المجهول؟! ولم يصعد أحد الترام دلالة على طرد المجتمع للأغراب، أو عن حالة مجتمع مغلق على نفسه لا يرتاده إلا العجزة والفقراء وأصحاب العاهات، كلها إشارات ورموز لها دلالات اجتماعية تفهم من خلال ثنايا النص، وفى آخر القصة ينص على "أغلق الباب ليواصل الترام زحفه إلى ظلام آخر" ترى ما الظلام الآخر المقصود؟!
يوم آخر: فحوى القصة ومضمونها فى تعطيل مصالح الجماهير، وهدر الزمن بالمواصلات العامة، وحالة من العجز لعدم القدرة على تغيير الواقع المرفوض التى تنتهى بحالة انسحاب البشر، وتعميق ثقافة اللامبالاة، والإحساس بالتضاؤل، ففى تعبير الكاتب (بالإنتاج ترتقى الأمم.. أقفلت المذياع، أكملت فطورى) عبارة تؤكد عدم الثقة فى الواقع، والتشكك فى النوايا. تعبير آخر (دخلت فى حذائى) يعبر عن مقدار التضاؤل والإحساس بالعجز. (قاعدون على القضبان.. متقابلون ومتفرقون.. يتطلعون إلى الفضاء المترامى آملين فى تحرك القطار) إنه قطار المجتمع المعطل الذى يحمل بداخله المواطنين، والتى أجهضت إرادتهم بفعل فاعل!! لينكفئ المواطن على حاله ليقول أحدهما:
- ارجع أحسن إلى البيت.. وأسلك البالوعة
ويرد الآخر:
- بكم كيلو البرتقال؟
وضاع الهدف الكبير ليتشظى لأهداف مبعثرة لا تهم إلا أصحابها!
صديقى: هذا الصديق الصنو الذى هو صورة من صاحبه، كلاهما يرى نفسه فى الآخر، وكلاهما يعيش المأساة (صديقه أنا الذى أدخل بدله القطار، وصديقى هو الذى كثيرا ما كنت ألمحه، أرتمى فى أحضانه، أو يلمحنى هو، يباغتنى ثم يضمنى إلى صدره بقوة نتوحد به) حتى تنتهى القصة بتساوى الأقدار سواء البصير أو الضرير (غير عابئين بقطارينا اللذين رحلا دوننا) هل هو قطار العمر المقصود بكليهما؟ ليتبقى فقط الدموع التى تحمل الندم على ما تخبئه الأقدار وحوادث الدهر.
التغلغل: القصة تذخر بالصور والإسقاطات السياسية والتاريخية، والتشكيك فى التاريخ والماضى التليد بعد أن اعتراه الإهمال عن قصد وبفعل فاعل، ويظهر ذلك فى رموزه، فى طغيان الوجود للوجوه الجيرية ويقول: "كانوا يتغلغلون بالرأس.. ويكبرون.. ونجومهم الداودية موزعة بالأركان" وقد قسم الوجوه التى يراها إلى ثلاثة أنواع، وجوه جيرية يعتلون بصرى؛ يقصد يحجبون عنى البصر والبصيرة- ووجوه مألوفة الملامح بمستوى عينه؛ هل المستوى المقصود هو القيمة أو المقصود الألفة والمودة والحب للذين يحبهم الكاتب أكثر مما يتصورون- الوجوه الثالثة مألوفو الوجوه ذوو الوجوه الجيرية، آثروا السير على استحياء إلى جوار جدران البيوت؛ المواطن العادى المطحون. الوجوه الجيرية هم الأجانب الذين يتوجس البطل/الكاتب منهم الخيفة والارتياب، حتى أنه ليركض مع صديقه نحو أعماق المدينة ليتوه عن الوجوه الجيرية. ويتساءل "أين تكون مدينتى؟!" إنه يسأل عن الهوية التى غرقت فى طغيان وجودهم ليقول "فقد تفاقموا بحيث يصعب الانعتاق من حصارهم" هنا ينبه إلى الخطر الدائم. وأرى أن الأرقام الواردة فى النص لها دلالات وإسقاطات دينية مثل خمس مرايل مدرسية، ويعقبها "نزل من التاكسى أربعة رجال وجوههم جيرية وامرأتان عاريتان حتى المنتصف" ليكون المجموع ستة أطراف (أيضا رمز دينى يرتبط بالنجمة الداودية المذكورة بالنص. ونتمعن فى صورة السائق أو قائد المركبة الذى يمنحه أحدهم نقودا، ابتسم الرجل بسرور كبير، مؤكد أخذ أجرا أكثر مما كان يتوقع، وذلك للوصول إلى المعبد (بدون تعليق). ويختتم النص عند جندى حراسة المعبد بعبارات لها دلالات ومعانى عميقة تحتاج التأمل مليا "كانوا فى زهو عن تواجده المفاجئ، نظر أحدهم إليه ثم تابع الحديث والتطلع إلى قبة المعبد القديم" تنحنح الجندى (رمز الانتصار المنسى) لتتجلى لهم قدرته على التواجد. والكتاب هو المعادل الموضوعى للتاريخ والانتماء والحضارة التى سقطت بفعل الضيق والحنق من الأوضاع، وقد يعنى سقوط الكتاب سقوط العقل!!
نظرة على كتابات أحمد حميدة
حنان سعيد
التحليق فى أفق كتابات أحمد حميدة فى وعورة صعود جبل والكتابة عنه عسيرة بلاشك كاستغوار باطن الأرض للتنقيب عن منجم مـــا، فكتابة أحمد حميدة لا تعطى نفسها بسهولة لقارئها فهو لابد أن يكون قارئا من نوع خاص يجيد مراودة النص وخضخضته لفض مغاليقه، ويحتاج لقراءته أكثر من مرة.
وأحمد حميدة لا يكتب عن الإسكندرية التى نعرفها، فللإسكندرية ثغر باسم وتغريدة صبوح تقابل به غربائها ومريديها، فيتلقفهم طريق الكورنيش يغشاهم سحرها المغناج.. وحوانيتها العامرة وغوايتها الساحرة.. ويمتشق قدها الفارع بنعومة يتمطى لجوار البحر، بينما يعرف مسحوقوها ومطحونوها وجها آخر مختلف مختلف عن ذلك الأسفلتى الأسمنتى الأملس.. وجه خشن قبيح.. مظلم مشوه.. جاف.. هذا الوجه يجيد حميدة تسلقه وسبر أغواره، والنفاذ لمفازاته، فتلك براعته.. فهو بحق سيد الشوارع التحتية، وملك المقاهى الشعبية المنسية، والبيوت المصهورة فى بوتقة الفقر والفاقة، والجدران الحائلة وعمدة الحوارى الساقطة من على خرائط المدينة العامرة ومن حساباتها، وفارس الأزقة والأرصفة والليل والطرقات الموحشة والمنبوذين والمسحوقين.. هذا هو عالم حميدة، فهو لا يطارده ولا يسعى وراءه، فالقصص تسقط فى جعبته من تلقاء نفسها.. عن طيب خاطر.. تاركة له القياد، واثقة من أمانته، فتبوح له بأسرارها التى تضن بها على غيره، قد يظفر بها فى حافلة نقل عامة.. ميكروباص.. ترام.. أتوبيس.. يقفز بها بخفه فهد متربصا فى هدوء، راصدا فريسته، إلى أن تسقط عفوا أو عمدا.. فهى إما ذلك الغريب الراقد بجواره فى وسيلة النقل.. الكريه.. المتاخم.. المتطفل.. المرذول.. الذى يتحول فى نهاية القصة لهذا "الوافد" البغيض.. الجاثم على أنفاس الجسد العربى.. أو هؤلاء الراقدون بجواره الناعسون.. الصامتون.. "صمت الغفوة" المغيبون.. التائهون.. لايعرفون الشهر العربى ولا يدركون التقويم العربى، أو هذا "الولد الصغير" المنطرح على القضبان الذى ربما مات هاربا من أهله أو جائعا.. والذى بعد تفتيشه لم يعثر على هويته.. هذا الولد الذى منه آلاف النسل والولدان.. أو ذاك المتملص من ثمن التذكرة وووو....
حتى عندما يختار المكان الخطأ الفندق الأنيق أو القاعة الكبيرة ذات الإضاءة المتلألئة يهرب إلى أضأل كائن.. ربما كان جرسونا، ربما كان طفلا ضالا يعوى فى الموسيقى التصويرية للمشهد كما فى "صوت المطر والريح".
المكان دائما سيد العمل فهو إما "تل الزبالة" أو "السجن" "الدكان" "الشارع" "الرصيف".. يغزل أحمد حميدة ببراعة شديدة، وبأدواته المحكمة، وبأمانة شديدة يطرح أشد قضايا الوطن التهابا ووطأة، وأعمقها تأثيرا، يفجره من خلال الحدث المتنامى خلال النص، وربما لا يكون الحدث المطروح على المستوى الواقعى هو المقصود بعينه لكنه التكأة التى يستند إليها حميدة ليفجر تساؤله، أو محطة الإقلاع للقضية التى سيطرحها.. كل ذلك بتأن لا يفقد القارىء شغف المتابعة، ومن خلال شخوصه البسطاء الذين هم عامة الشعب الذين يتخبطون فى قاع المعاناة والألم، والذين هم فى النهاية المجتمع بأسره والأمة بأسرها، فيصبح النص محملا دائما بالهم العام الذى يؤرق كل كاتب صادق.
عن أحمد حميدة ومجموعته "ظل باب"
رشاد بلالقرأت للكاتب أحمد حميدة عددا من قصصه القصيرة، منشورة فى جريدة الأهرام، ذلك قبل أن أراه. وقد رسخ اسمه فى ذهنى حينئذ، ثم التقيت به بعد ذلك، وبسرعة اقتربت منه. وقد لمست فى شخصيته الإنسانية صفات من الصدق والجدية والموضوعية، واستمعت إليه ناقدا فى بعض الندوات، ولاحظت صراحته فى النقد للكتاب حتى ولو كانت له علاقات طيبة مع بعضهم أو بعضهن.
وقد أصدر أول أعماله الإبداعية وهو مجموعته القصصية "النبش فى الذاكرة" عام 1981م، ثم توالت أعماله الأدبية، وله تسع مجموعات قصصية وخمس روايات.
وفى مجموعته ظل باب الصادرة عام 2000م تتجلى خصائص الكاتب أحمد حميدة افبداعية، فهو يكتب عما يشاهده فى يومه، عما يراه فى الشوارع والمركبات.
فمثلا قصة ظل باب والتى تحمل المجموعة اسمها؛ نرى القصة مكتوبة بضمير المتكلم، وأحداثها تجرى ما بين سوق الجمعة والقطار، والكاتب يحكى عن امرأة اشترت بابا قديما، ومعها ابنها الصبى، وظل القاص يتابع المرأة فى مشوارها ومعاناتها فى حمل الباب، ثم تشدد مفتش التذاكر فى المحطة، وبالكاد سمح لها بالركوب دون قطع تذكرة طرد للباب لأنها ليس معها أية نقود، لكن مفتش القطار كان أشد قسوة حين أنزلها هى وابنها والباب فى محطة سيدى جابر لتسليمها لنقطة الشرطة.
وفى قصة الوافد وهى أولى قصص المجموعة، نجد أن القصة أيضا مكتوبة بضمير المتكلم، وأحداثها تجرى فى الترام ما بين القاص وبين أحد الركاب، دون أن يتبادلا كلمة واحدة، لكن مرة بعد مرة تزايد هذا النفور حتى يصير متبادلا، بحيث أنهما ركبا مرة متجاورين وحاول كل أن يزحزح الآخر من مكانه. ونفور الكاتب من هذا الراكب أيضا فى قصته ولد صغير وهى بدورها مكتوبة بضمير المتكلم، وحكايتها عن صبى ممن يركبون أسطح القطارات، وقد وصل إلى محطة الوصول ميتا، والقاص يتساءل عن المكان الذى مات فيه الصبى ويذكر محطات بنها وطنطا وكفر الزيات وبركة السبع ودمنهور وسيدى جابر.
وفى قصته فقدان الحواس، وهى مثل ما سبق كتبت بضمير المتكلم ومكانها داخل قطار، وبطل القصة متهرب من قطع تذكرة القطار وقيمتها ربع جنيه بالشرود المفتعل، مع ملاحظة الآخرين، ويرى امرأة ورجلا يجلسان أمامه وسط الزحام الشديد، وعند اقتراب مفتش التذاكر ينزلان من الباب، وحين يهم القطار بالمسير يركبان من الباب الآخر.
وفى قصة صمت الغفوة يصف الكاتب القطار ويبدأ القصة بقوله: "تمايل القطار كسكير عربيد يترنح، منبعج الجوف، محشور بأحشائه بشر مرهقون.."
وعلى هذا المنوال باقى قصص المجموعة والتى تتكون من اثنتى عشرة قصة وفيها خصائص الكاتب أحمد حميدة، فهو يكتب كما قلت عما يراه فى يومه، أو فى مواصلاته، وفى سيره فى الطريق، فقصته فى الترام، وغيرها فى القطار، وغيرها فى سوق الجمعة.
وأحمد حميدة كما عرفت منه قرأ عددا كبيرا من الأعمال الإبداعية من قصص وروايات عربية وأخرى أجنبية مترجمة، واستوعب الفن القصصى جيدا، كما أن كثرة قراءاته قد أكسبته لغة عربية ممازة يعبر بها فى سلاسة ويسر.
وإن كان فى رواياته الأخيرة قد استعمل لغة غليظة بها شئ من القبح، ولعله تعمد ذلك إذ يكتب رواياته هذه عن المهمشين والعشوائيين، وأنا كنت صارحته بأنه كان يمكنه أن يعبر عن هذه الفئة بلغة غير التى كتب بها، لكنه إغراقا فى الواقعية الاجتماعية عمد إلى هذه اللغة فى الحوارات، مع مقدرته على غيرها.
وهو يكتب عما جربه بنفسه وعاشه، ولذا فعنصر الصدق الفنى فى أعماله ظاهر بوضوح.
وقد تعهد نفسه منذ علم نفسه بنفسه القراءة والكتابة، ووجد موهبته الأدبية تلح عليه، أن يوفر لنفسه متطلبات هذه الموهبة، بالإضافة إلى ما يتسم به من دقة الملاحظة والفراسة، وبالفعل وصل إلى درجة كبيرة من البراعة والإتقان فى أعماله، وخصوصا فى القصة القصيرة.
قراءة فى رواية أشلاء بؤرة العشاق للروائى أحمد حميدة
سهير شكرى
الغلاف: مناسب للموضوع فيصور عمال تراحيل منحني الرؤوس يسوقهم ملاحظ بعصا كالحيوانات.
المكان: حى من أحياء الإسكندرية أو أى مكان يشبهه فى الفقر والجهل وما أكثر هذه الأحياء المختنقة كما وصفها الكاتب.
لا شئ مستور، الكل مفضوح، حيث يشعر الإنسان أنه أقل مرتبة من الحيوانات الضالة فى الشوارع، صور منازلهم كالمقابر، كهوف مظلمة لا يرون النور إلا فى العراء، أطفالهم تعيش على ما يستخرجون من أكوام الزبالة فى مأكلهم وملبسهم وألعابهم، يحيط بهم العفن والأوساخ والروائح الكريهة من كل أنحاء المكان.
رجالهم ليس لهم نخوة، طحنهم الفقر والقهر وطمع الكبار فى أرزاقهم ونسائهم، ينهشون أعراض بعضهم بعضا، نساؤهم يستجدين طعامهم وطعام أزواجهن وأطفالهن ببيع أجسادهن. يقهر القوى فيهم الضعيف، وهكذا القاهر مقهور، حيث المناخ يشبه الغابة، لا ضابط ولا رابط ولا أخلاق. نوافذهم مخلوعة الأضلاف، أبوابهم مفتوحة، أجسادهم مستباحة، يعملون أعمالا هامشية لا تشبع من جوع.
صور ممزقة عبارة عن أشلاء مبعثرة فى كل مكان، وما الأشلاء إلا أشلاء أحياء مبعثرين معذبين، نفوسهم تئن من الألم، ضحكاتهم صراخ، يعيشون الوهم وفى الحقيقة هم أموات، وسخريتهم وضحكهم إنما تؤكد شر البلية ما يضحك، مجتمع ممزق يبحث عمن يلملم أشلاءه، وجاء هذا العمل الروائى صارخا ناقدا، وإن كنت لا أستسيغ ألفاظه الخاجة الجارحة المنفرة، وإن كان البعض يقول إنها لغة الشخصيات التى يقدمها العمل.
قراءة انطباعية فى المجموعة القصصية "تراتيل نسج الطواقى"
د.عبد البارى خطاب
فى البداية يأخذنا الكاتب إلى قصة "الضيوف" حيث تبدأ "بتلقى الباب القرعات .... " وكأننا فى مسرحية عبثية تدور أحداثها داخل البيت العربى , حيث يدخل الضيف " بابتسامته الفزعة الزائفة ..." يطلب اللجوء خوفا من عاصفة قادمة..
تسير بنا الأحداث الهوينا لنتعرف على سكان البيت , الاب المتشبث بالمقعد , تفكك الأبناء واختلافاتهم "لابس الحرير – الجائع – الباقى نيام , وهم كثير .." ثم الابن "القمىء" داخل إطار مع الأم على الحائط , وهنا الإسقاط السياسى والاجتماعى بذكاء من الكاتب , فهو قمىء لأنه معارض , ومعلق فى الإطار لكونه مطلوب للزينة .... والنساء أيضا غير فاعلة فى هذا البيت..
تتطور الأحداث لتتصاعد فى عنف من الضيف , تصل لحد إعدام الابن الاكبر شنقا – دون إبداء الأسباب– ويتم تغيير نمط الحياة فى البيت بالقوة , ويحوله الضيف إلى فندق يستقبل فيه الضيوف .....
والأب متشبث بالمقعد .... ينتظر قدوم " فرج " الذى لم يأت....
تنتهى المسرحية " القصة " بصورة " فرج " " بالرصيف المقابل قاعدا هو ... متطلعا بعيون نصف نائمة إلى الحركة الدائبة فى الفندق الجديد" .
ينتقل معنا الكاتب إلى قصته الثانية " القيظ والعنفوان " وكأننا نشاهد فيلما سينمائيا يبدأ من النهاية , "أخيرا أيها المأفون .. أجدك ... وأنهى بك مهمتى".
وتعود بنا الأحداث لهذا النقابى الذى ظل طوال – الفيلم – رافعا ذراعه الأيمن إلى أعلى ضاما قبضته.. ونفهم من سياق الأحداث وتطورها أنه يرفع ذراعه فى وجه شركة المياه الغازية التى تسيطر على المدينة وعلى كل ما ومن فيها , ونستمع إلى النقابى يقول:"... أسمعكم يا سادة عصرى ... تلقون على التهمة دون جناية ... واذا جئت أجادلكم فى شىء... قلتم عنى ... مجنون أحمق ..." وتستمر الأحداث متتالية ومتشعبة فى شوارع المدينة حيث القيظ الحارق ... كما تستمر داخل نفوس الشخوص والأغانى الشعبية وعنفوان السلطة ... حتى يصل بنا إلى النهاية – البداية - وكأن الكاتب أراد بوضع تلك القصة بعد قصته الأولى أن نتابع معه السبب والنتيجة.. وإن كان مسرح الأحداث مختلفا فى القصتين.
ثم يمسك الكاتب بتلابيب إنسانيتنا فى قصته الثالثة "أهل الخندق" ليزج بنا داخل تفاصيل مأساة إنسانية دائمة ومستمرة , حين يسقط منزل قديم لأسرة متهالكة ماديا واجتماعيا , ومحاولات السكان الموت داخل المنزل خوفا من الموت كل يوم فى الشوارع ودهاليز الحكومة.
لقد استطاع الكاتب بحرفية عالية لفت الأنظار للتناقض الفاضح بين شرائح المجتمع "فى المسيرة.. تواصلت فيهم أبدان الناس ... مارقين بحلى الذهب ... لابسى الثعالب والخراف ... والعيون الملونة ... وميازيب الدخان ... قاوموا التواصل ... ليتداخلوا فى كل هؤلاء ...فى رؤسهم الجهمة التى جابت دور السينما وملصقات العرى".
ثم ينتقل بنا الكاتب لاستراحة ترفيهية فى قصته "أنشودة القهر" من خلال رحلة داخل ترام مدينة الإسكندرية مارا بأحيائها الشعبية.. لنكتشف بعد انتهاء القصة أنها لم تكن استراحة ولا ترفيه ... كان طبق فول يجمع كل طوائف الشعب فى أغنية بسيطة "إن خلص الفول أنا مش مسؤل" وكأنه فنان الشعب السيد درويش يتغنى لأوجاع الناس ومشاكلهم التى طالت حتى "طبق الفول".
وأخيرا نسبح مع الكاتب فى بحر من التراتيل فى قصته "تراتيل نسج الطواقى" ومن خلالها نتعايش مع النملة والدودة وزرايب الجاموس الملاصقة للمبانى والكلب الضال الجائع ومشاركة الطفل الضال الجائع له لقمة "يمضغ منها قضمة.. يقدمها لحلق الكلب المفتوح.." , ونذهب معه إلى حديقة الحيوان وتحديدا عند جبلاية القرود .... وهناك تخرج الحكمة سلسة هينة فى كلمات تبدو غير مترابطة ... تسبب الحيرة والارتباك ... ولكنك تؤكد معه قوله: "...أرفض أن أكون قردا ... ولن أكونه ... يريدون تلوين مؤخرتى.. أرفض ... وسلسلتى الفقرية ...أن امنح ذيلا ذهبيا.."
ويستمر التحريض الذكى على الرفض "وأن ألبس الطاقية ... أو أخلع الطاقية ... هذا شأنى ... فلا خطر على رأسى ... ولا مصادرة لما يحوى ... فالذى يحوى قائما فيه ... بغطاء كان أو بدون غطاء.."
وينسج لنا من الطواقى حكايات ذات دلالات عميقة , حين يتحدث عن الطواقى المستوردة " براقة وذهبية.. وهناك صناعة هندية ... وأخرى من بلاد أخرى قابلة للحل والربط وضد الحر وضد الرصاص..." , ليقول دون مواعظ "فهناك من صنع بلادنا... نسيج لا ينفذ منه البرد أو الريح" ويتحسر على شبابنا "شبابنا كانوا طواقى ... فى كل أنحاء المدينة ... تناثرت فى الأركان الطواقى.."
وخلا ذلك يتحرك الكاتب بحرية ما بين البشر والحيوان والطير وكأنه احتوى ما بين السطور كل التراث الشرقى من كليلة ودمنة إلى ألف ليلة , ومن السيد درويش إلى بيرم التونسى وأحمد حميدة.
وكما قال الأستاذ عبد الله هاشم فى تقديمه للمجموعة: ".. يرمز ولا يفصح ... يشكك ولا يجرح ... ينبه ولا يفرض... وإن الرمز واضح بغير غموض كثيف وبدون تسطيح".
أول مرة أرى الأستاذ حميدة!
مروة الحمامصى

أول مرة كنت أرى فيها الأستاذ حميده كان في صيف عام 2001م , حينما طلب منه أستاذنا الدكتور أحمد صبرة أن يتحدث معنا عن تجربته في الكتابة، وذلك في إطار عمل ورشة القصة بقصر التذوق، وكنا وقتها في مرحلة كنا فيها أحوج ما نكون إلى مقابلة المبدعين والاحتكاك بهم وسماع آرائهم وجها لوجه بعيدا عن السطور والأحبار .
وقد نبهنا أستاذنا د.أحمد صبرة قبل مقابلة الأستاذ حميده – أكثر من مرة – أنه أول كاتب سكندري تطبع له مكتبة الأسرة، وتجلى ذلك في "عبق الشوارع"، وكان من رأيه –في ذلك الوقت– أن الأستاذ حميدة فاز بقصب السبق، كما أن مكتبة الأسرة لابد أنها اختارت العمل لجودته، وتحدث عن تجربة حميدة مع المهمشين والبسطاء وكتاباته عنهم .
ثم حدث اللقاء واستمعنا وأنصتنا للأستاذ حميدة، وكان مازال بعضنا في مرحلة بداية البداية، واكتشفنا عالما غريبا، ونحن من تعودنا على التعبير عن أنفسنا أو التحدث بلسان المثقفين والصفوة، نعم هناك ناس بسطاء لابد من التعبير عنهم، ناس لا تشغلهم الاتجاهات اليساسية ولا أي توجهات أخرى اختلف عليها المثقفون. ناس يعيشون وهمهم الأكبر أن يعيشوا يومهم كما كتب لهم، منهم الصالح ومنهم الطالح. وقد حكى لنا الأستاذ حميدة عن عالم البسطاء، وما زال عالقا في ذهني تجربته مع حي الظاهرية وقطارها، وحكايات ركابه، وقد رأى أنه وسيلة المواصلات الوحيدة لذلك الحي، وكنت أستمع لهذه الحكاية الغريبة بالنسبة لي وأنا مندهشة جد ا.
وقد طرح علينا الأستاذ حميدة المعادلة أو المعضلة الكبرى، ألا وهي من أين يستقي الكاتب موضوعاته الأساسية: من تجاربه الشخصية، من الناس، من الكتب الأخرى؟
ثم أجاب في سلاسة تثبت أنه حل المعادلة الصعبة ودمج المزيج لينهل الكاتب من الثلاثة معا.
يومها ما زلت أذكر جلسة ونظرة أستاذنا د.أحمد صبره لنا -وقد استضاف كثيراً من كتابنا السكندريين إلا أنه ما زال عالقا في ذهني لقاء الأستاذ أحمد حميدة والأستاذ مصطفى نصر.
وكأن لسان حاله يقول لنا ا
نظروا إلى هؤلاء المبدعين وسيروا على خطاهم.
دراسة نقدية فى قصص : المبدع " أحمد محمد حميدة " "قضبان الروح"

منى عارف
المقدمة :لفتت كتابات الأستاذ أحمد حميدة إليها الأنظار.. ابتداءا من : النبش فى الذاكرة – التائهون – الهجرة إلى الأرض – شوارع تنام من العاشرة – الليل والأصوات – ظل باب – عبق الشوارع - تراتيل نسج الطواقى – مدن وضواحى – قضبان الروح – الفجر – حراس الليل – سوق الرجال – أشلاء بؤرة العشاق – وغيرها.
امتلك المبدع قلما متميزا وحازت قصصه ورواياته قبول واستحسان الكثيرين من المبدعين والنقاد .. وذلك لبساطة لغتها، وجرأتها فى تناول القضايا الاجتماعية والسياسية والوطنية فى المجتمع المصرى..
ورغم سعة الإنتاج الروائى والقصص فإنه لم يسع أبدا إلى النقاد وحدث معه العكس تماما.. سعت الأضواء إليه.. ولولا ابتعاده عن القاهرة.. بسبب ظروف عمله ووجوده الدائم فى الإسكندرية كان سيصبح له شأن آخر.. وحظيت رغم ذلك أعماله بالاهتمام والتقدير.. والمتابعة على مر سنوات طويلة، وتألق اسمه فى نادى القصة وفى إصدارات كتابات جديدة ، وجدير بالذكر أنه من الكتاب القلائل الذين تناقش أعمالهم دائما وأبدا فى معرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام.. وتم نشر العديد من أعماله فى جريدة الأهرام.. وهو كاتب له طبيعة خاصة فى اختيار موضوعاته وفى طريقة توالى الفترة الزمنية المعالجة فى اختيار موضوعاته وفى طريقة المعالجة فى النص الواحد .. وكذلك تطورات شخوصه الروائية .. وتلك الأسلوبية المتغيرة والثابته على مجمل أعماله من الأسلوب التقريرى والمباشر إلى اللغة الروائية الفنية، وذلك التوازن المقصود بين السرد والحوار..
نراه أحيانا متمردا على واقعه ونراه أحيانا أخرى يستسلم للواقع ويعترف به.. ويتحول من الأمل والشجاعة والإقدام إلى الاستسلام المؤقت، والصبر على الشدائد وعظيم الأمور..
وتملك قصصه حقائق مؤثرة ترجع إلى مدرسة الواقعية والتى من آن لآخر تسبح فوق الخيال والحب والرومانسية دون أن تتخلى شخوصه عن الإرادة القوية والرأى الحر المستقل..
يبدأ دائما فى التفكير فى مكافحة عيوب المجتمع ، وفى العقد النفسية والتى يعانيها الناس ، ويسجل دراسة صادقة وجرئية فى قصصة وهذه جرأة تحتاج لكاتب – اتجه بكل قوة إلى شحذ فكره ، وبدأ فى تثقيف ذاته بقراءة الآداب العالمية – وكان لهذا الاطلاع أثر الكبير فى تكنيكه القصصى.. وأيضا شكلت الأحداث السياسية نضجا فكريا، وأخذ أدبه يتجه اتجاها جديدا .. فيه ثورة وانقلاب نتيجة التقاليد البالية والتفسيرات الاجتماعية القديمة..
اعتمدت بعض رواياته على المشهد الجنسى.. وتفسير ذلك أنه ربما أراد أن يخرج من حصار المخفى عنه فى الكتابه إلى كشف الواقع بكل صوره المعاشة .. ولا يقتصر على سلوكيات متحفظة أو حدود ضيقة أو مفاهيم محددة، "لا يمكن عزل فكرة عن أخرى" .. كما قال فيلاريت دى شال: "لاشئ يحيا منعزلا ... فالانعزال الحقيقى هو الموت".
إن ذلك الإيغال الهادئ والدءوب فى أعماق الذات الإنسانية عبر تموجاتها الدائمة بين الصخب والاسترخاء ... بين التمرد والانصياع ليدل على أن هذا الكاتب مزج بين واقعه وكتاباته ، التى اتسمت بالدقة والشمول .. بادئا بالمقارنة والتحليل ، ورصد الملامح والمتغيرات اليومية.
هذا المبدع يستحق مساحة نقدية كبيرة ومتميزة ، لأنه بكل بساطة لم يغير جلده على الورق، بل نقل بصدق واقعة واستحق التميز والتفرد بكل جدارة...
أولا: جاء العنوان: الذى يحمل المضمون العام للمجموعة القصصية "قضبان الروح" عنوانا، مثيرا ومشوقا لجذب انتباه القارئ .. وكان المفتاح الهام للدخول إلى عتبات القص.
تعرفنا من خلاله على الجو العام الذى تدور حوله الأحداث وأيضا الأفكار التى دعا إليها الكاتب ولغتة المحلية .. وقد جاءت اللغة هنا سلاحا آخر من أسلحة كاتب عرف عنه البساطة والدقة ، والسلاسة فى الحكى ، وكانت البداية هى فكرة قصة العزلة .. وهى فى حقيقة الأمر المؤشر للفكرة العامة لهذه المجموعة القصصية.
امتلك الأستاذ حميدة فى تلك المجموعة أدواته جيدا.. خيال واسع ، وقدرة تصويرية وتخيلية ، أضافت ترابطا ما بين قصة وأخرى ، فجاءت وحدة المضمون ، وأصبح يصور لنا أحداثا يومية ، بما تعج به الحياة من أحداث واقعة فى حياة الإنسان ، وهى بحد ذاتها أعمق من تصور الخيال ذاته.
قدم لنا القاص طريقة السرد المباشر ، بحيث جاءت الأحداث فى صيغة ضمير الغائب.. وتتيح هذه الطريقة الحرية للكاتب لكى يحلل شخصياته وأفعالها تحليلا دقيقا وعميقا.
وجاءت المجموعة القصصية لكل واحدة تكمل المعنى ، وفى كل مرة تدفعنا براعة الاستهلال إلى المضى قدما فى قراءة قصة وراء الأخرى وأعطى فرصة لشخصيات أعماله أن تتحدث بلغتها: الأم القلقة، والزوجة الحائرة ، ومن هنا جاءت اللغة قريبة من لغة الشخصية لكى تحقق شيئا من المنطقية الفنية ، مما أوصلنا إلى براعة التماسك فى هذا العمل القصصى المدهش ..
وجاءت شخوصه معبرة عن صورة من صور الحياة البشرية وكان عنصر الإقناع عنصرا من عناصر الإضافة على العمل ودليلا على أهميته..
قضبان الروح : مجموعة قصصيه من الحجم المتوسط .. من إصدارات كتابات جديدة ، يبلغ عدد قصصها 12 قصة منفصلة ومتصلة فى آن واحد..
كيف حدث ذلك ....؟
يطالعنا فيها المبدع بنماذج إنسانية – تسكنها الهواجس والظنون ، والمخاوف ... تمر من أمامنا ، ولكن بريشته المغموسة فى قلب الوجع .. يكشفها ..
أى قضبان هى؟ أى حواجز تفصلنا ؟ نحتمى خلفها ، وننفصل نحن أيضا عنها ... عن كل تلك العيون التى تراقبنا فى صمت مقلق وتبعد عنها .. لحظات هم آتية لا محالة هل هى عزلة الأم بسبب صمم ظل يلازمها ... أم وجودها المتداعى فى ظل بيت من بيوت أبنائها.. أو وقت تعودها المختار فوق الأريكة ؟ ص11، ص12
وتظل كما هى أغلال الوحدة المتفاقمة التى تثقب القلب لينزف حنانه مقتا وقنوطا .. لا تكفيها مكالماتهم المتتالية المتعاقبة ، المتسلسة فى أعقاب نهار أزف هو الآخر على الرحيل .. والنفس تتثاقل مع مرور الوقت وتبنى خفقات القلب الواهى ، جدارا من العزلة وأى عزلة ؟!!
نجده يسحبنا معه ..ننسل وراءه .. حيث تلك البنايات العتيقة ، حيث الأزقة المعتمة ، التى يخترق صمتها ، ويداهم سكون ليلها : قدوم زائر الليل يسبقه دخان كثيف أبيض ، طيب الرائحة يظهر كشبح أو ظل ، حامل الصفارة والمبخرة.
" جمال الدولى" يحمل دلوه كل ليلة .. الملآن بالبويه الخضراء .. يملأ جدران المدينة بكتاباته المفحمة بالمرارة ، وتعتبر أغرب صيحة ثورة على الأوضاع المزرية التى أصبحنا عليها: "فلسطين تتآكل" "إسرائيل مرض مزمن يجسد العروبة" ... يذكر الناس المارين ، البسطاء ، الحكومة بأن هناك من يرى الأشياء بمنظور مختلف ، وأن رد فعله سيكون الاستياء والغضب وعدم التواكل عن التعبير عن كل ما يشعر به أى مار والغريب أن كتاباته فوق الجدران العالية ، وفى فراغات براويز الكبارى ، أسفل الشرفات ، يتم محوها باللون الأسود تارة ، تاركة الحوائط مشوهه سافرة ، شاهد علينا وعليه ، تشهد علينا لو يوما أغفلنا ، وتعود الكتابات للظهور مرة أخرى كأنه يتحدى هؤلاء المجهولين الذين يقتفون أثره ونقوشه ، ويمحونها متعمدين. صار شبحا أو طائر مزعج هوائى .. متسيب مجهول .. يخترق ليل الغافلين المستقر يطوح المبخرة بيده .. دائرا .. يتكاثف الدخان حوله ..كمن يوارى نفسه بداخله خوفا من أشكالنا الواقفة التى تنظر بصمت غريب .. ص28
أى حواجز تفصله عنا.. أم نحن الذين انفصلنا ، قد يكون العقل زينة والإحساس نعمة .. وقد يكون أيضا نقمة، ويفسر ذلك بكل وضوح كاتب له ميزانه الخاص فى تقدير الأمور واستشرافها ، يحكى لنا عن هذا المجنون المحاصر الداخل فى كبسولة ، والذى تقبع نواة فى القلب والعقل أصعب وأكثر إشكالية ، ولنا فى ذلك المثال.
" جمال الدولى " (الإسكندرانى الجدع) خير دليل على وعى عقل المجنون واستبصاره بالوضع السياسى والحياتى فى واطنه المعاش ، جمال الدولى ملأ حوائط وجدران الاسكندرية بشعاراته الرافعه راية العصيان للبطالة التى يعيشها وكتب أيضا (جمال الدولى خير من يمثلكم فى البرلمان وفى ملاعب كرة القدم) تحول الرجل من مشجع لنادى الاتحاد السكندرى إلى مرشح للبرلمان ، وصول جمال إلى تلك النقطة الغامضة ما بين العبقرية والجنون كان 1999م ، لتتحول أزمات نادى الاتحاد والوطن متداخلة فى رأسه ووعيه ، وصار اسمه أشهر من النار على العلم بطول مدينة الاسكندرية وعرضها.
ما هذا الكاتب المبدع الذى استطاع أن يلتقط تلك الفكرة ويصوغها ويحولها أمامنا إلى قصة مبنية على شخوص بعينها . استطاع الأستاذ أحمد حميدة ذلك ، وكون فى لحظة نقطة فريدة تحمل فى تساؤلاتها إجابات محذوفة ، وكلها أيضا تحمل كل الدلالات على إصابة المجتمع بهذا الانفصام فى كل سلوكياته فأصبح الكاتب محللا نفسيا لعصره.
تأثر حرب الحوائط : أعمق القصص السياسية – التى تذهب إلى عمق المأساة – وحجم القضبان التى تعوق كل مسيرة نحو الحرية – حتى عناوين القصص تشير بما يجيش فى صدر كاتب واع بما حوله، يستخدم قلمه سلاحا .. وأحيانا .. مصباحا ، كاشفا عورات مجتمع بأكمله يختفى تحت تآكل سقف يكاد يحميه من الغزو .. والاحتلال .. والاستغلال بكل شواهده – قصة طريفة بسيطة عن رجل يعيش فى منزل ودخل عنوة فيه وتسلل إليه فأر – فقرر إحضار قطة لمطاردته والتخلص منه : أى منهما المتخفى ... ؟ المطارد أم الساكن؟ المقيم أم الزائر؟يتوج رأس المجموعه القصصية التى تتكون كما سبق أن ذكرنا من 12 قصة قصيرة متوالية ... تتبع خطا دراميا واحدا .. قصته بعنوان المجموعه "قضبان الروح" التى لا يسعنى سوى أن أتوقف أمامها كمشهد حياتى فريد ، تم رصده بشكل إنسانى من الطراز الرفيع ، الوصف عند الكاتب أحمد حميده ، ينحت معه ملامح خلفية ورهافة حس الكاتب الذى استخدم تعبيرات فى غاية الدقة ، أحسن فيها التحليل الداخلى للنفوس الإنسانية ، كأنه طبيب علم نفس الطراز الرفيع والوصف عنده يتجه من ملامح الشخصية إلى عواملها الداخلية.. كأنه يمسك فى يده آلة تصوير دقيقة ، اللغة ترتفع من مرتبة الوصف السلبى إلى الوصف الحركى ... فى شاعرية ودفء .. يحاول أن يفك طلاسم أبجدية النفس.. وذلك الشئ الغامض المسمى باللهاث اللانهائى اليومى ، فى أروقة مكان يصدف دائما أن يكون محطة قطار أو رصيف يعج بالمسافرين أو النازحين ، وكأنه بتلك الملاحظات الدقيقة مسرحه الخاص .... وتأتي شخوصه لتزين العرض ... بل وتبهرنا بتلك المفردات اليومية وعدم البوح ... والترقب ... أم عمياء يصجها طفلها الصغير ، وسط المارة في قطار من قطارات الضواحي ، يكون كشافا لها ، ومنارتها حتى يحدث ما لم يكن في الحسبان أو الذي كنا نخشاه أن يحدث، هي تلك النداهة الآسرة تحضنا على السير ورائها امتلكت قلم المبدع هي نداهة الكتابة ... التي تحمل كل مفردات الشجن والأسى.
"هو العين .. والبصر.." "عكاز النهار" "مؤنس الليل" "معلق بالتلافيف والأصابع وديعة دائما بيده ... مستسلمة باطمئنان جميل .. مبصر هو وصغير.."
يلهو هو هناك بين أبدان البشر يذهب ويجئ ، ولكن في هذه المرة لا يعود .. تغتاله القضبان .. تمزقه إربا .. والأم لا يفتأ صوتها يعلو بالنداء ... كان يحس بشعاع استشعارها السمعي الرهيف .. يسعى إليه .. يحيط به .. يغمره .. فلا يتباعد ..
تنبسط قسمات الوجه المنصت بإصغاء مرهف .. إلى انتباه مصحوب بابتسامة حنو ... مأخوذة بأنة واقف بالجوار في ظل صمت مغزول لحظة التلاقي الحنون
" انت جيت يا حسن ... ؟ "
كانت تشعر بريح أنفاسه تتردد بانتشاء المدرك لفراسة أنف يشم رائحته يبتهج ويعدو .... يشدهما لبعضهما .. خيط مجهول يتجاذبان أطرافه .. مهما تباعدت بهما المسافات ، تعاقبه أن غاب:
" اقعد يا حسن كفاك لعب يا حسن ... النهار طويل قدامك
النهار قرب يروح يا امه...."
جمل من هذا النوع تجعلنا نقف أمامها طويلا .. لم تكتب سهوا ولا فجأة، كتبت بعناية فائقة ، بقلم يرتعش ألما ... يشعر الحالة، يتقمصها ، يحكي نفس اللغة ، لا تعيبها اختلاط العامية بالفصحى ... بل أفادت النص .. اللغة ترفع النص .. وفي هذه الحالة أبدعت نصا موازيا خلاقا ...
خيط رقيق شائك يربط تلك القصة بغيرها ، وقد يكون معظم ابطال وشخصيات القصص بدون اسم .. ولكن الا هذه ، يفرض اسم البطل ذاته يجعلنا نتذكره في كل سطر " يا واد اقعد نورنى " كل ما تقول " اتنور .. لا تبعد يا حسن " ... " ولد يا حسن " .. ثم ما لا يقل عن 20 نداءا .. فسطر اسمه للأبد في قلب القارئ ، وترك لنا خيالا مراوغا ، يأتينا كلما اقتربنا من قضبان القطار او حتى وقفنا على محطة رصيف فأي مكان في العالم سيكون حسن موجود في الذاكرة دائما " لعل صوتا يأتي من بعيد يطمئن القلب " ص 60
الكاتب لا يستطيع الإختباء بذاته ، وراء صفحات كتابه بل تظهر بوضوح ثقافتهه المتنوعة العميقة ، التي كانت دليل في خلال مشواره الأدبي على تفرده ، وصار قلمه مدافعا عن البسطاء اينما كانوا .. وهو ما يتفق ايضا مع مبادئه الشخصية ، وانتمائه الواضح لمرحلة الإشتراكية التي قادها الزعيم الراحل " جمال عبد الناصر " واصبح يؤمن مثل ابطال قصصه بالعدالة الإجتماعية ، ويؤمن بحق المواطن الفقير ان يمتلك جزء من الأرض التي يعيش عليها .
كم هو رائع ذلك الوصف في فجر المتاهة .. يعد الكاتب مسرحه بشكل لم يحدث من قبل " لا يزال الليل بتوسد الميدان ، بستبيح الأعين الساهرة ، حوانيت الفاكهة .. ودكاكين الأكل .. المقاهي ومقاعدها الفارغة ..ترقب ... خطو بعض المارة ، اجرجر قدمي ، منتشيا بالرحيل عبر تمسك الليل بالبقاء وقدوم الفجر .. صالة تذاكر تحتويتي "
غريب يتلمس صحبة في قطار .. يتلمس دفء ما .. يقول للبطل ما يشعر به برغم انه لا يعرفه .. " انا مطمئن معك .. انت راجل طيب " فيرد عليه " امك مضطرب جدا .. وخائف " انا مقتول ومطارد .. كل الناس تطاردني .. امي العجوز .. اخوتي .. اطفالي .. زوجتي .. يعطيهم كل ما يملكه ويقضي بقية الشهر مفلسا
اليست هذه حالة اغلب الناس ... !!؟
مما لا شك فيه ان اليأس زائد الفقر يدفع الناس الى الهرب والرحيل من ارض الواقع المعاش ربما الى واقع اخر يشعرون فيه براحة النفس " على الواحد منا ان يجد نفسه "
يعرض الكاتب علينا ربما حالة تشبه الاف الحالات لكن في اي حيز من الصفحات وبأي شكل ..
هذا عمل مبدع اراد ان يرسم اهاته ، فجعل القارئ دون ان يدري يدرف الدمع ...
ماء القصب :-
فوق رصيف احز ، قطار ضواحي ، بعد يوم عمل شاق يحمل فلاحا فقيرا اعواد القصب مارة من محطة الى اخرى ، حتى الى محطة الخواء ، ويتم اعتقاله وسحبه الى مركز الشرطة فتروى النفوس الجائعة بماء القصب .
انتظار ذلك الذي لا يجئ عبر مشاهدة دقيقة خلف زجاج محل الحلاقة ، ديالوج منفصل ومتصل في ان واحد .. الحلاق يحكي عن شئ والزبون يتابع بعينيه امرأة تتحرك ذهابا وايابا في انتظار شخص ما ..
الحوار يطرح علينا قضية اخرى من قضايا الحصار وحالة جديدة تصدمنا .. احيانا تلك اللفة الدارجة ، وتلك العبارات المنتقاه بسلاسة تسبب لنا نوع من التشويش على الحدث .
وجع الدماغ :-
وهي قصة قصيرة تدق ناقوس الخطر عن الإستسلام ورحلة وحدة موحشة ، لا بطل فيها الا رتابة الساعات والايام واليأس والقنوط والكسل ، وعدم القدرة على الخروج من دائرة الصمت والهذيان ...
في اطلالة وفية :-
لا ندري لاول وهلة هل هي حقا سيدة تدعى وفية ، ام هى صفة لتلك الوجه الني تطل خلف النوافذ والشبابيك الموصدة .. والأيدي التي تعلق ملابس الغسيل البيضاء على الحبال ..
كانت حالة اخرى من حالات الرتحال في النفس الإنسانية وشواهدها في لحظات فرحها وحزنها .. رصد لحالة جار وجارة يكتشف في نهاية الأمر ان ما يربطهما هو حالة نادرة من حالات الوفاء ..
الزلزال :-
مجموعة متتالية من القصص القصيرة ، اي زلزال هذا الذي يحرك سكون المشاعر .. ويغير حقائق الصور .. ويكتشف الأكاذيب وزهو الجيران وتفاخرهم ، في مناظرة وتواصل للحظة انفصال فارقة ، وقوة علاقة الاب باابنه ، وتماسك فطرى يتضح عند الشدائد ..
ظلال العشق : فى الظلال علاقه واهيه بين زوج و زوجة يتجادلان فى الطريق العام .. ولا يستطيعان فى نهائة الامر الانفصال عن بعضهم البعض ، حتى ولو اعلان كل منهما للاخر عن استياءه ورغبة فى الخلاص منه .. وزهقه من حياتهم ، تجدهما فى نهاية الامر معا
" حين لمحته قادما ... اشاحت بوجها بعيدا ولم تجد مناصا من انتظاره ... ولم تكن تعرف ذلك الاتوبيس المؤدى للمأذون ، تلاقى الظلان ... رغم كل شئ ... "
واخيرا يطالعنا بعبقرية فذه بقصة " قيد الليل والنهار " على ليسان حمار عربة لنقل بضائع الفلاحين من حين ، وفاكهة وخضار الى السوق من محطة قطار ينتظر كل يوم امامها هو وصاحب العربة ...
ذكرنا وبقوة بمذكرات حمار للكاتبة الكونية دوسيجور ... ومذكرات حمار لكاتب الساخر القدير أحمد رجب ، بالرغم من ان البشر لايقدرونه حق قدره ذلك الحيوان شديد الذكاء ، الذى دائما وابدا ما يقف بجانب صاحبه ، يشاركه شقائه وسعادته حتى عندما يزجون به فى السجن ( صاحب العربه ) نجده واقفا فى الزقاق الجانبى له ...
وكان شخصيته ذلك الحيوان ، موضوعا اثيرا لكتابات الفلاسفه والادباء .. مثل حمار بوريدان ... وحمار الحكيم .. وحمار العزيز لغونترغراس... وحمار جحا الشهير ...
الحمار فى تلك القصة يتحمل ويفهم " حمار صغير حنون يدرك مسالك الطرق ، يتفادى المطبات ، وقضبان الترام "
هكذا يصفه صاحبه ... يربت عليه وياتى له بقشر البطيخ ويتحدث معه " بكرة تفرج ... وتأكل فول ... اصبر "
يسمع صاحبه ولا يدرى اي منهما معنا لذلك الفرج المنتظر الذى سيأتى غدا ... لسنوات تعاقيت تخللتها ليل نهار دونما انتظار لذلك الفرج، اله شكل ، لون .. طعم ؟
النهاية
واخيرا تداخل القصص والافكار ، لم يشكل انفصال فى الحكى ، وكان لكل واحده منها طابعها الذى يميزها عن الاخر ، والرابط لتلك الهواجس التى شكلت حاجزا نفسيا بينها وبين الاخرين فجاء عنوان المجموعة مكملا للنصوص كلها
هذه المجموعه قدمه فكرة فى المقام الاول وهى فكرة الاغتراب والانغلاق والعيش خلف حواجز نفسية احيانا وحواجز اجتماعية احيانا اخرى ...
ووجة نظر لكاتب صادق لم يمرر شئ من احداث حياة امامه تدل على غزارة الاحاسيس والمعلومات ، والتجارب التى تمكن داخل المبدع وملاحظاته العديد والتى بلورتها موهبة بأسلوب ادبى مكثف ... وايضا درايته الواسعة بالطبيعة البشرية ، التى استطاع ان يسجلها بحس عميق كل تلك الاسباب مجمعة جعلت من هذا العمل الادبى المتفرد عملا فنيا ادبيا له قيمته ،
ووضعت كاتب هذه المجموعة فى قائمة اكبر الكتاب المحاصرين فى عالمنا العربى ، ولاتقل ابدا مجموعاته العديدة عن الكتاب الواقعين ، مثل تشيكوف و ديستوفيكىو بلزاك ، جودة و اقتدار ...

مجموعة "قضبان الروح" للأديب أحمد حميدة
د.نادية البرعى
حين نقرأ للأديب الكبير أحمد حميدة نجده يكتب بحرفية شديدة، فهو يحسن اختيار الفكرة والجملة والكلمات المعبرة التى توضع فى مكانها الصحيح، وتصاغ صياغة أدبية محترمة. فهو فى قصة العزلة نجده يخترق مشاعر امرأة مسنة، تعبت فى تربية أبنائها ولا تنتظر منهم (أولاد وبنات) إلا الاتصال التليفونى اليومى، والتليفون هو صلتها بالعالم الخارجى، وحين ينبهها ابنها الذى يقيم معها إلى عدم ضغط زر التليفون الأسفل يوضح لها السبب، ويدفعها حب الاستطلاع إلى ضغط هذا الزر، فتنقطع صلتها بالعالم كلية، وربما إلى الموت، وهو يصف بدقة شديدة الأفكار التى تدور برأس المرأة وحتى طريقة جلستها فى انتظار رنين التليفون، حتى أنها تضع أذنها على الحلة التى وضع لها ابنها التليفون بداخلها، تتشوق إلى سماع صوت البنات والأولاد والإحساس بأنها ما زالت على قيد الحياةن والأنس بهم.
أما قصة حرب الحوائط فهى فى ظاهرها قصة ساخرة، لكنها تضج بالحزن والمأساوية، فالشاب الذى يظنه الجميع مخبولا هو فى حقيقته مسجون سياسى أو معتقل فى الماضى، تعرض للتعذيب والمهانة، وإهدار الكرامة، حتى أصبح يحارب من سجنوه وعذبوه بكتابة الشعارات المضادة والمعارضة لهم فقط على الحوائط، والكاتب يصف المكان والزمان بدقة حتى يشعر القارئ بمدى سخرية هذا المسكين المعذب ممن سجنوه وأمعنوا فى تعذيبه وستئصال رجولته.
وفى قصة تآكل بيت نجد أن الرجل الوحيد يحارب فأرا تمسكن فى بيته واحتله وكبر وتوحش، وفشل فى قتله أو إخراجه من شقته، حتى بعد أن أحضر القطة التى انصرفت للراحة والطعام والشراب وللقط الذكر المتسلل عبر باب الشقة، حتى أنها تحمل ولا تعبأ بالفأر المتمركز فى الشقة، وربما من الممكن أن نعتبر هذه قصة رمزية تعبر عن المحتل الذى يستحوذ على كل شئ فى بلد احتله واستولى على مقدراته وثرواته، وبدلا من محاولة إخراجه أو مقاومته بشتى سبل المقاومة، تركت له البلد ليفعل فيها وبها ما يشاء، ونعتبر هذا ضد المقاومة وضد حركات التحرر، فبدلا من تكرار محاولة قتل الفأر أو طرده، ترك له الرجل الشقة وفر هاربا، نعيب فقط الإطالة والاستطراد والتكرار والتضخيم فى وصف هذا الفأر ووسائله البدائية فى سبيل البقاء فى هذه الشقة، والفوضى العارمة التى تسبب فيها، واستكانة القطة فى سبيل العيش فى هدوء بدون أن تشعر بوجود هذا الفأر الوحشى، فهل هذه إشارة لاستكانة الشعوب لمستعبديها؟!
أما فى قصة قضبان الروح والتى يحمل الكتاب عنوانها نجد أن الأم الكفيفة التى تعتبر ابنها هو عينيها فترى من خلاله –بوصفه- كل ما حولها، حتى التغيرات التى فُعلت فى قضبان القطار ومحطته، وكأن قطار الحياة يمضى بها، تستقله كل يوم طوال النهار ليكسب الطفل قوت يومه ويومها، فهو روحها التى تنتقل بها وتحيا بها عبر القضبان، وهى حين تفقده لا تعرف أنه قتل تحت عجلات القطار، فكأنها تعيش وتبحث عبر قضبان الجهل عن روحها، فهى قصة رائعة بحق، ونموذج لحياة الكثير من البؤساء.
فى قصة فجر المتاهة يثير الكاتب الريبة والشك فى نفس القارئ من خلال الشخصية دائمة التساؤل، وهى شخصية الرجل الذى قام يقطع تذكرة للرجل الآخر الهارب، فهو لا يعرف أنه هرب من الأسرة والمجتمع والتزاماته واحتياجاته هو نفسه كمواطن مطحون، وهو يرفض أن تكون تذكرته معه، وكأن هذه التذكرة تربطه بالرجل الآخر الذى يحاول التملص منه حتى أنه يتساءل: "أهو معى.. أم أنا الذى معه؟" هذا التساؤل يجعلنا نشعر أن مجتمع المطحونين كله مع بعضه حتى وإن اختلفت المعاناة، وكأن الرجل الآخر أصبح أسيرا للرجل الهارب، فكلاهما يهرب أحدهما من مشكلاته، والآخر يريد أن يستأثر بصحبته، لكنه فى نهاية القصة ربما لا يعترف بينه وبين نفسه أن الهارب قفز من النافذة، فظل يتساءل ويبحث "وكنت أدور بعينى.. أدور".
فى قصة ماء التعصب يتعرض رجل بسيط للظلم والنصب والاستيلاء على ما فى يده بطريقة غير مباشرة، فهم يتهمونه بسرقة القصب مع أنه اشتراه، ويستولى بعضهم على جزء منه، ثم يستولى الباقون على الجزء الآخر، واللصوص جنود، فكأن السلطة ليست فى حماية الشعب ولا خدمته، لكنها فى سبيل اضطهاده وسرقته، ثم يوضع الرجل فى غرفة الحجز ويستولى الصول والجنود الذين معه على كل القصب الذى يتحول فى النهاية إلى قمامة ونفايات بشرية، ولا يعبأ أى أحد بالرجل المحبوس، يكفى أن تزاول ما تريده السلطة من متعة وتلذذ بما استولوا عليه حتى أن صوت تقشير القصب يبعث البهجة فى نفس الصول الذى من المفترض أنه يحمى حقوق الآخرين بدلا من الاستيلاء عليها لنفسه!!
أما فى محطة الخواء فنجد الرجل العجوز يجلس بين يدي الحلاق وهو يفكر فى المرأة المنتظرة إياه فى محطة القطار، ويأخذنا ذهابا وإيابا بينه وبين محطة القطار والمرأة المنتظرة، ويسهب فى وصف مجموعات من البشر حتى نتخيل حركتهم وتنقلاتهم مع التبادل بينها وبين حركة الحلاق والحوار الدائر بينه وبين الرجل، وحوار المرأة مع نفسها، صورة رائعة لما يجرى فى الحياة من تناقضات.
أما فى باقى قصص المجموعة فإننا نجد التعبيرات الذكية المكتوبة بدقة تعبير وتصوير، ففى قصة وقع بالدماغ "توقف بغتة وأنصت لوقع آخر.. أهو الصدى برأسى؟ وعاود الحك.. وتوقف بغتة وأنصت إن كان الصدى برأسه فعلا.. لكن للصمت صوت ينبعث فى الدماغ.. زحف فوق التجاويف.. دق يتباعد ويدنو".
فى قصة ظلال العشق "وهى إلى جانبه بثوبها الأسود الطويل، تجرف تراب الأرض بحافته وخفها القديم، تراود ظله بظلها القريب، تحاول الدخول فيه، الامتزاج به..".
وهكذا؛ نجد كاتبا متمرسا فى الكتابة، يعرف مداخل القارئ، يدفعه للتفكير والتخيل، يعطيه من خيالاته وتصوراته، يعبر عما يراه وينفعل به من نماذج مكانية وبشرية وزمنية، يطرق أبواب التشبيهات والتورية، يصنع من البسطاء نماذج حية لكتاباته، فكأنك تراها وتسمع أصواتها وتتعايش معها.
كاتب متميز، يصنع من الكلمات البسيطة ألوانا متميزة من الفن والأدب. 





 

جوركى الإسكندرية يغادر فى هدوء تام :   رمزي بهي الدين 
· أحمد حميدة .. ذلك النحَّات الماهر .. صديق البُسَطاء والغلابة والمُهَمْشين 0
· حباه الله عين كاميرا وذاكرة فوتوغرافية , فاستغل ذلك فى نقل حيوات هؤلاء الناس على الورق 0
· معظم شخوص قصصه ورواياته , هى لأشخاص لا نراهم إلا فى أحياء وحوارى الإسكندرية وعلى شواطئها .. !
      
      عرفته , من خلال كتاباته وأعماله الإبداعية , قبل أن أقابله واختلط به وأصادقه , وقبل أن أتعرَّف على عالمه الإبداعىَّ العجيب .. أذكر أنني منذ سبع سنوات تقريباً , كنت أسير بشوارع القاهرة , وعلى أحد أرصفة الكتب القديمة بشارع رمسيس , وقفتُ أُقلَّب فى الكتب والمجلات وأقرأ عناوينها وأتصَّفح بعضها , فوقعت يدىّ على عدد قديم من مجلة دار الأُدَباء , وكان ذلك العدد مخصصاً لإبداعات كُتَّاب الإسكندرية , وفى الحقيقة أننى تلقفت العدد بشغف شديد وكأننى عثرت على كَنزٍ ثَمين .. لم أنتظر حتى أعود إلى البيت , وعلى مقهى بشارع الإسعاف , جلست لأتصفح العدد ... والحقيقة أن أول الأسماء التى لفتت انتباهى , كان اسم "أحمد محمد حميدة" وقصته (ظل باب) التى كانت منشورة بذلك العدد , وما إن شَرَعْتُ فى قراءة القصة , حتى أخذتنى سطورها واستغرقتنى , فلم أرفع عينىّ عن القراءة , إلى أن انتهيت منها ولم تكن قصيرة بالمعنى المعروف , فقد كانت أكثر من سَبْع صفحات تقريباً ... ولم أكن قد قرأت لـ " حميدة " أى أعمال من قبل , وإن كنت قد سمعت عنه .. أدركت منذ ذلك اليوم أننى أمام كاتب كبير , جدير بالاحترام والاهتمام معاً , وأحسست أيضاً أن هناك وشائج خفيَّة تربطنى به , إلى أن جاءت الفرصة الأولى للاقتراب منه , فى العام 2006 م , وكان ذلك من خلال ندوات " قصر التذوق " بسيدى جابر فى صالون الدكتور - العشماوى الشَهرىّ , وعندما تحدثت معه وجدته إنساناً بسيطاً يحمل بين جوانحه الحب والود لجميع البشر وكانت الفرصة الأخرى للاحتكاك المباشر بيننا , من خلال نَدوَّة " نادى القصة " – بقصر ثقافة القبارىّ , التى كان يُشرف عليها , ولقد كان خلال هذه الفترة مثالاً للالتزام والانتظام , يسبق الجميع فى الحضور ولم يتخلفُ يوماً مهما كانت الأسباب .. كنت أذهب إلى الندوة فى موعدها فأجده يجلس على منضدة , يتصفح كتاباً أو مجلة ويدخن سيجارته , التى لم تكن تفارقه , فيقابلنى هاشاً باشاً , ونجلس نتجاذب أطراف الحديث حتى يكتمل الجمع .. سألنى مرة : ( إنت بتكتب إمتى .. ؟) فنظرت إليه مستفسراً :( يعنى إيه ...؟) فرد متبسماً (يعنى الوقت اللى بتكتب فيه ..؟) فضحكت قائلاً : ( ماليش أوقات معينة يا عم أحمد .. أكتب فى أى وقت أنا عايز أكتب فيه ..) فابتسم ابتسامة عريضة من تحت شاربه الكث قائلاً )تمام .. برافو عليك .. الكتابة ملهاش وقت معين .) 0
كان يحرص على حضور معظم الندوات والمؤتمرات واللقاءات , وكان شديد الحرص على حضور نَدوَّة " مُخْتَبر السَّرديَّات " بمكتبة الإسكندرية , والذى كان من أحد المؤسسين له , مع كوكبة من الكُتّّاب والمبدعين والأدباء بالثَغْر / العاصمة الثانية , وكان يحرص على الجلوس فى الصفوف الأولى كالتلميذ النجيب , يسمع ويناقش ويحاور ويُدلى برأيه فى أعمال الكُتَّاب والأدباء , من المصريين والعرب بل والأجانب أحياناً , وكانت آراؤه وأفكاره تترك أثراً كبيراً فى نفوس الحاضرين وأصحاب الأعمال التى تُناقش 0
قرأت أعماله الإبداعية الرائعة : ( أشلاء بؤرة العُشَّاق ) و(سوق الرجال ) و (متاهة الغِربان) وغيرها , فوجدت نفسى أمام نَحَّات ماهر ينحت الكلمات والعبارات والجُمَل بمهارة فائقة : " كان يتحرك , محمولاً على أجنحة اَلمسَّرة والنَّشوَّة البلْهاء , ماشياً بخُيلاء وعلى مهلِ كـــ ( باشا قديم ) , انخلع حديثاً .. ربما بالأمس القريب فقط – وأُحيل – بعد التطهير – إلى الشارع , المقهى , الممر , ليكون ( مرمطون ) بالليل , وعلى أقصى درجة من الشرف المُتعالىّ , ويلفظ الأراذل ويبصقونه فى الصباح , ليعيد لقبه , باشاويته , التى يحس بها وحده , والمخلوع منها عُنوة , ليعيشها داخل روحه فى وقت الغروب " –
" متاهة الغربان " – 2009 0
ومع أن " حميدة " لم يكن يمتلك أى ثقافة أكاديمية , إلا أنه قد اعتمد على نفسه وعلى قراءاته ورؤيته وموهبته التى منحها له المولى عَزّ وجَلّ , فعلَّم نفسه بنفسه , وقرأ لكبار الكُتَّاب والأُدباء العرب والأجانب , وقد كان من أشد المعجبين بكتابات جوجول وموباسان وجوركى وديستوفسكى وساراماجو وغيرهم من كبار المُبدعين 0
كان " حميدة " فى أعماله الإبداعية شغوفاً برصد كل التفاصيل الصغيرة بل والدقيقة والمُحْرِجة أيضاً , كما فى ( أشلاء بؤرة العُشَّاق )  و(سوق الرجال) وغيرهما , فنجده يُعرَّى كل شئ , حتى الصغائر التى قد نترفع عنها , ليجئ أدبه فى النهاية , أَدب مكان وأَدب أشخاص يعيش فى هذا المكان 0
كان " حميدة " يمتلك عين كاميرا وذاكرة فوتوغرافية , وقد ساعده ذلك على نقل كل ما يراه بتفاصيله , على الورق .. كان عاشقاً للقلم والورق .. كان قلمه وورقة هو ثروته الحقيقية .. يجلس بالساعات الطويلة – كما ذكر لى - وسط الكتب والصحف والمجلات ممسكاً بالقلم , يقرأ ويدون ويكتب ملاحظاته وتعليقاته على هوامش الكتب التى يقرأها , ويكتب أفكاره فى أوراق صغيرة , يعود إليها بعد ذلك ليُجمَّعها , لتصبح فى النهاية عملاً إبداعياً جديداً 0
·  النّحَّات الماهر :
حميدة .. ذلك النحَّات الماهر , المبدع , الموهوب , عاشق تراب حوارى وشوارع الإسكندرية وهواء بحرها , وقعدات القهاوى فيها , فلا يوجد حارة أو شارع بالإسكندرية , لا يعرفه أو لا يعرف تاريخه , ولا يوجد شاطئ من شواطئ الثَغْر إلا وله معه حكاية , ولا يوجد مقهى بالثَغْر إلا وجلس فيها عمنا أحمد حميدة .. كان يعرف حوارى وشوارع وأحياء الإسكندرية كما يعرف الطريق إلى بيته .. لم أسأله يوماً عن اسم شارع أو حارة أو حتى زُقَاق إلا وعرفه بل وأعطانى فكرة - قد تكون تاريخية – عن هذا الاسم أو المكان .. كان يتجوَّل بشوارع وحوارى وأسواق الإسكندرية يقرأ اليُفَط والإعلانات على الجُدران , ويرصد أحوال الناس , فى سوق الجمعة وزنقة الستات وسوق ليبيا وغيرها , يستلهم منها أعماله المُبهِرة 0

·  العاشق الدؤوب :
تعلمنا منه أن الأَدب جهاد ومُجاهدة , وعزم وعزيمة , وصبر وعشق ودأب أيضاً , فقد كان المُجاهد والمُثابر والعاشق الدَّؤوب للكلمة , حتى تكتمل فكرته على الورق , ليقدَّم لنا فى النهاية شخوصاً من لحم ودم , فى أماكن قد نمرُ عليها كثيراً , ولا ننتبه لوجودها , إلا عندما نقرأها كما كتبها حميدة .. إن معظم شخوص قصصه ورواياته هى لأشخاص لا نراهم غالباً إلا فى أحياء وحوارى وأسواق الإسكندرية وعلى شواطئها .. والمكان عنده  يفوح دائماً برائحة أحياء وحوارى وشوارع وبحر إسكندرية 0
ولقد جعلنا " حميدة " أيضاً نشعر بالزمان فى أعماله , ككائن حَىّ , يحب ويكره , ينمو ويتطور مع تطور الشخصيات وتطور الطموحات وتطور المكان كذلك 0
حميدة .. ذلك المبدع الرائع , الغارق دائماً فى رائحة السجائر والشاى , كان يدرك أن حياته إنما هى وسط البسطاء والمهمشين والغلابة من البشر , كان يدرك أنه يستلهم منهم الحياة , ربما لأنه كان يدرك أيضاً أن الأمان كل الأمان , وأن الحب كل الحب إنما هو وسط هؤلاء البشر , وأن الابتعاد عن أحضان الغلابة والفقراء , إنما هو الموت كل الموت , مثله فى ذلك مثل السمكة التى تموت إذا خرجت من مياه البحر 0
لقَّبه البعض بـ (جوركى) الإسكندرية , كما شبهه البعض الآخر بكل من العملاقين (خيرى شلبى) و (إبراهيم أصلان) 0
لقد كانت معظم أعمال "حميدة " ومازالت وستبقى , مثيرة للجدل والنقاش , وردود الأفعال المختلفة , فى الوسط الأدبى , ولقد كانت روايته
(سوق الرجال) هى من أكثر أعماله المثيرة للجدل والدهشة معاً 0
لقد عاش " حميدة " الحياة ببراءة الأطفال وطموح الطامحين وحكمة الشيوخ , وكُتِب عليه امتطاء صَهوة المستحيل , ولقد نجح فى ذلك .. ولقد خاض " حميدة " الحياة بالطول وبالعرض , ولم يكن يَستَنْكفُ أن يعيش أو يعمل تحت أى ظرف من الظروف , ورحل فى هدوء تام تاركاً لنا أعمالاً أدبية وإبداعية رائعة , ستظل شاهدة على عظمة مبدع وأديب كبير , امتلك موهبة عظيمة , فسخَّرها لخدمة الأَدب والإِبداع 0
لا أتصور عودتى إلى "مختبر السَّرْديَّات" يوم الثلاثاء , من كل أسبوع , فلا أجدك جالساً فى الصف الأول .. وداعاً أيهما العملاق المحترم 0

*************
"أحمد حميدة".. الصدق على الطريقة القديمة.

محمد الفخرانى.
___________


الصدق، كان أول ما عرفته فى الكاتب الكبير "أحمد حميدة"، الصدق الإنسانى والإبداعى، ثم تأتى بعد ذلك أو معه، الكثير من الصفات الأصيلة التى جعلت منه فى رأيى رجلاً قديمًا، وأقصد قديمًا هنا بمعناها الجميل، معنى الأصالة، هذا الرجل الذى يكتب بطريقة قديمة لم تعد مستعملة الآن إلا فيما ندر، يكتب بدمه، هل تبدو قديمة لهذا الحد؟
"أحمد حميدة" لم يتنازل فى كتابته عن شيئين، أو أنه لم يتعمد ألا يتنازل عنهما، لأنهما أصيلان فى شخصية إبداعه، وطبيعة كتابته: الصدقووأصالةوصيلة والأصالة، كتابته صادقة، أصيلة، لا تشبه أحدًا، ولا تتماس مع كتابات أخرى، رغم أنها عن عالم الهامش الذى تناوله الكثير من الكتّاب، لكن يبقى "لأحمد حميدة" شخصية مختلفة، ونزق خاص، مثلما لبحر الإسكندرية يودًا لا يشبه يود أىّ بحر، كتابته هى سلسلة حقيقية عن الهامش، يشغلها بحلقات متوهجة نابضة.
يكتب "أحمد حميدة" عن نزق الهامش أكثر منه عن عنفه، عن أحلامه أكثر منه عن إحباطاته، عن بساطته أكثر منه عن فقره، عن وجعه أكثر منه عن تعاسته، يكتب عنه بتلك المحبة الكبيرة، التى يدرك أنه يكتب بها، ويريدك أن تعرف أنه يكتب بها، وأن تعرف أيضًا أنه يدرك ذلك عن نفسه وعن طريقته فى الكتابة.
هذا الكاتب الكبير، اختار الإنسان منذ البداية، انحاز للمهمشين، وللكتابة الحقيقية عنهم ولهم، يفرح بأىّ كتابة حقيقية عنهم، كأنها بشكل ما تكمل كتابته، كتب "أحمد حميدة" عن الغجر، عن هامش الإسكندرية، ضواحيها، قطاراتها الداخلية، أسواقها، شوارعها الصغيرة الملأى بالحياة، وهو فى نفس الوقت يكتب عن البسطاء والمهمشين فى أىّ مكان، كتب ذلك كله بلغته الحرّيفة، وأسلوبه الخاص، الذى يسبب النزيف دون أن يجرح، عوالمه ملأى بالبشر وحيواتهم، أحلامهم البسيطة الكبيرة، آلامهم، وأوجاعهم، يلتقط بكتابته البشر المبعثرين بإهمال فى شوارع الحياة، ويجعل منهم متنًا تملؤه التفاصيل الإنسانية الموجعة، يجعل منهم غصن شوك يمرره على قلب الحياة فيجرحه، أو يطعنه به فينزف.
 كل من قرأ "أحمد حميدة" يعرف أنه أمام كاتب كبير، لن أقول أنه لم يحصل على حقه، وإن كان هذا حقيقيًا بالفعل، لن أتوقف عند ذلك، أقول أن كل من قرأه يشعر الصدق والأصالة فى كتابته، وفورًا يعرف أنه يكتب بتلك الطريقة القديمة، بدمه، هى طريقته المفضلة والوحيدة، هل تبدو عنيفة لهذا لحد؟ رقيقة لهذا الحد؟ نعم، وحقيقية.
كأنك تمشى فى البحر على سطح صخرى يجرح قدميك لكنك لا تشعر بذلك، فأنت مستمتع باليود وارتطام الموج بك، وبالقوارب من حولك، والريم الأخضر الذى يداعب قدميك من وقت لآخر، لكنك عندما تخرج للشاطىء، تكتشف جروح قدميك والدم النازف منك، هو لن يدعك تمضى بتلك السهولة، لا بد أن يترك فيك أثرًا قويًا، يشبه دخولك مدينة كاملة من المهمشين، فتخرج محملاً بهذا الشعور الإنسانى الصادق الذى لا يخلو من نزق محبب، وجرح ما.
قال لى فى مقابلة بيننا إنه لا يستطيع التعامل مع الكمبيوتر، ولا يحب استخدامه فى الكتابة، قلت له إن الكمبيوتر يوفر الكثير من الوقت، فقال إنه لا يشعره، يراه باردًا بلا إحساس، وأنه يحب إحساس الورقة والقلم، فى النهاية قلت له أنى رغم استخدامى للكمبيوتر لكنى فى نفس الوقت أحتفظ بجوارى دومًا بقلم وكراس، لأن هناك جملاً وأحاسيسًا لا أستطيع كتابتها مباشرة على الكمبيوتر، لا يمكنها أن تخرج على الشاشة وإنما على الورقة، هناك إحساس لا يخرج إلا مع الورقة والقلم.
هذا الرجل القديم الأصيل مثل لوحة أصلية أصيلة بالأبيض والأسود، واضحة بسيطة وعميقة معًا، لا تملك إلا أن تصدقها وتحبها، تصدقه وتحبه، هو بتلك الطيبة الممزوجة بنزق محبوب، أراه فى الندوات، وهو يدافع بحماس عن الكتابة الحقيقية التى ينحاز إليها بقوة، أحيانًا يبحث لبعض الوقت عن كلمة يعبر بها عما يريد، ربما يقول فى تعليقه عدة جمل عادية، لكنه سيُتبعها بجملة قصيرة فيها كل ما يريد قوله، وأهم ما هو موجود فى الكتابة التى يتحدث عنها، جملة قصيرة يلتقط بها جوهر ما يتحدث عنه.
 "أحمد حميدة"، الذى احتفظ بشخصيته الإنسانية والإبداعية مثل شاطىء قديم أصيل على بحر الإسكندرية، أو شارع من شوارعها العتيقة الحية، فظل مزدحمًا بالبسطاء، وقوارب الصيد الطيبة، والحياة، ظل كبيرًا، صادقًا، وحقيقيًا. 




ليست هناك تعليقات: