بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 14 مايو 2010

الثلاثاء 27 أبريل 2010م.


أصوات قصصية شابة بمختبرالسرديات بمكتبة الإسكندرية
فى محاولة لإلقاء الضوء على المبدعين الواعدين من شباب الحركة الإبداعية بالإسكندرية نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 إبريل ندوة بعنوان "أصوات قصصية شابة" حيث ناقش الأديب خالد السروجى الحائز على جائزة الدولة التشجيعية أعمال بعض الأصوات القصصية الشابة فى الإسكندرية، وهى قصص "لأنك تصل متأخرًا" لإيناس حليم، "طفولة" لشريف محمد أنور، "شهادة وفاة" لمحمد أنيس، "أمور قديمة" لمحمود حسن، "رداء يصلح لجنازات" لهبة خميس. أكد خالد السروجى أن ظهور جيل جديد في كتابة القصة، يعنى أملا جديدا في منجز جديد، حتي ولو كان علي شكل فردي، يتخطي ما أنجزته الأجيال السابقة، إذ يكفي قاص أو اثنان من كل كتيبة صاعدة، فعلي صعيد التراكم سيصبح لدينا حركة قصصية ثرية، فليس مطلوبا أن يبدأ هذا الجيل عملاقا كما بدأ يوسف إدريس، فنحن نقبل التصاعد والاختلاف والبحث عن الصوت الخاص، وأن يتقدم القاص خطوة للأمام مع كل قصة يكتبها. وأشار منير عتيبة مدير المختبر إلى أن القصص التى تمت قراءتها والتعليق عليها فى الندوة تشير إلى أن الجيل الجديد يمتلك ثقافة حقيقية، ومعرفة جيدة بالنوع الأدبى الذى يتعرض له، ويأخذ الأمر بجدية مبشرة. وقدم عتيبة الشكر للأديب الشاب محمد العبادى لمساهمته الفعالة فى الإعداد لهذه الندوة. أثارت الندوة العديد من القضايا الخلافية التى ظلت مفتوحة حيث من الصعب أن تقال الكلمة الأخيرة فيها مثل جدلية الفصحى/العامية فى القصة القصيرة، ومدى ضورة وأهمية الخلفية الثقافية للكاتب عندما يتناول فى عمله القصصى فكرة لها علاقة بأحداث أو أفكار تاريخية، وهل ماتت القصة القصيرة وأصبح الزمن حقا زمن الرواية فقط؟ وهل للأدب تأثير حقيقى فى المجتمع حاليا ولديه القدرة على تغييره؟
***********************
رداء يصلح لجنازات
قصة: هبة خميس

حُلم آخر هاجمها تلك الليلة، حلم أشعلته هدأة الليل الساكن حولها، والألحان الخارجة من جوقة الصمت المُترددة في الأجواء.
استفاقت من نومها فزعة بأجفان ثقيلة ورأس مشوش، تجاهلت مرآتها وأعدت قهوة صباحاتها السوداء الثقيلة، قعدت تحتسيها في
شرفتها المُطلة على عمائر لّونها السواد وحجب الجمال عنها.
تجاهلت مرآها كلها وركزت على شُرفة بعينها، مَنشر أسود وأحبال وسخة يرفرف عليها رداء أسود طويل مُطرز بورود سوداء، ورود
كبيرة فجة تبتلع الرداء بأكمله تبدو كرقعات من الذباب المتزاحم حول نواة سُكرية.
دائماً هو مُعلق هكذا، يختفي فقط للحظات كل يوم ويعود لأحباله مرة أخرى بحِمل أثقل.
تود لو ترى صاحبته مرة واحدة، وتمضي في تساؤلاتها اليومية:
أهي طويلة بطول الرداء؟ أم قصيرة ترفعه فوق وسطها بحزام تخفيه في طياته مثلما كانت تفعل أمها بقصرها الشديد؟.
عجوز هي ويستريح شعرها الرمادي على أكتافه السوداء؟ أم شابة تُعود نفسها الصبر على مرارة الفقد؟.
مِسكينة هي؟ أم امرأة اعتادت خوض الجنازات برداء فج كندّابة القرية؟.
ستترك أحلامها وهموم عالقة بذكراها دفعة واحدة لترقب الرداء وصاحبته، ستقول لنفسها هو يوم وبعده أعود لتشاغلي الدائم عنه
وعن الشرفة، وفي نهاية اليوم ستقسم على ألا تعود للشرفة، وستزداد الأيام التي تكسر فيها قسمها.
الشرفة أصبحت مهجورة أسودها قاتم والرداء الأسود استحال أسوده لرمادي مُترب.
عندما أدركت أن صاحبته هجرته ونسيت وضعه المُعلق كبندول مُعذب أشاحت بوجهها عنه وعن الشرفة والأيام التي قضتها تنظرها
بردائها الأسود.
لو استبدلت حذائها المسطح بحذاء أعلى ولو ببضع سنتيمترات فقط،
ربما ..
سترى أكياس الزينة الشفافة المُستقرة على أرضية الشرفة المُتربة، أكياس كبيرة منتفخة تحوي كل الألوان داخلها، ألوان فاقعة
ومبهجة تجذب أنظارها لمراقبة تغير درجاتها خلال اليوم، وتنسج من نظراتها عالم لا يوجد للأسود مكان فيه.
قراءة نقدية بقلم الأديب/خالد السروجى
سبق لي أن اطلعت علي قصة لهبة خميس, وأعجبتني, لذلك أبدى بعض ملاحظات على قصتها هذه من منطلق أنها كاتبة تستطيع أن
تكتب قصصا جيدة.
فمن غير الممكن أن أجد في صفحة واحدة هذا الكم الهائل من علامات الاستفهام الصريحة , والمستترة , أغلبها غير مبرر ,
هناك المسحة الإنسانية في الموقف الأساسي للقصة , وكان بإمكان هبة أن تجعلني أكثر تعاطفا مع شخصية القصة بالاستغناء عن
الكم الهائل من علامات الاستفهام , حتي لو اعتبرنا أن القصة برمتها هي علامة استفهام كبيرة.
ربما كان بعض الغموض مبررا . كما أن هناك مناطق فنية ممتعة مثل المرأة التي لا تنظر إلي المرآه , وبالتالي لاتري آثار العمر علي
وجهها , ولا حتي ملابسها ...
ويعود بنا الأمر إلي علامات الاستفهام ليكون كلامي – رغما عني- علامات استفهام ..هل الرداء الأسود يخص ذات المرأة ؟ خاصة
أنها أثناء النظر في البلكونة , فإن البعد في حد ذاته نسبي ..هل هي تري ملابسها شخصيا (رداء الجنازات) والذي يختفي ويعود ,
وهي من يستعمله خاصة وهناك إشارة إلي أمها الميتة؟
استعملت هبة يونس كل الأزمنة في قصتها التي أمامنا ( هاجمها-السكن- الأحلام الخارجة- استفاقت-تجاهلت دائما هو معلق-مثلما كانت امها تفعل بقصرها الشديد-ستقسم –ستترك-ستقول-ستقسم-أدركت)
الواضح من تكرارالمعني أنها تعاني القصر كأمها وهو تكرار ربما يفيد التأكيد , وهذا القصر هو الذي ربما لم يجعلها تري بلكونتها , ورداءها الأسود , إضافة إلي تمنياتها بأنها لو كانت أطول قليلا , وهو ما يفيد قصر مجال الرؤية أمامها.

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 ابريل2010م)
********************
طفولة
قصة: شريف محمد أنور


فى الممر الضيق بين السور الأصفر العالى ، وحمامات المدرسة .. كان يجلس ينظر من خلف جدار الحمامات البعيد ، بحذر شديد، إلى الوجوه البغيضة التى تبحث عن متعتها اليومية فى صباحات المدرسة المملة.
من بعيد يرى الفتى الذى قطع له زر المريلة العلوى بالأمس يقترب منه فيجفل عائداً خلف الجدار يختبئ.
رائحة البول المختلط بطين الحمامات يصيبه بالغثيان، فيعيد ما تبقى من الساندويتش الصغير إلى جيب المريلة.
ينظر إلى الجرح الكبير فى جانب حذائه..
الخياطة المتينة لم تجعله (أحسن مية مرة) من الجديد -كما وعدته أمه- بل حتى إنها لم تشفع له أمام الأوغاد الذين تهكموا عليه ، حتى البدين (الفشلة) الذى يقبع آخر الفصل ضحك كثيراً حين رآه.
خلع الحذاء ووضعه إلى جواره ، رفع سبابة وإبهام يده اليمنى التى يجديد التصويب بها ، وصنع منها مسدسا صغيراً يطلق منه رصاصات خفية على رؤوس الأوغاد.
يصوب نحو (الفشلة) فيسقط..
يصوب نحو الفتى الذى قطع أزرار المريلة .. فيسقط..
على مدرس الحساب الذى ضربه (بسيف المسطرة) عقاباً على الكراس الذى لم يأت .. فيسقط
ويستمر حتى يمتلئ الفناء بجثثهم.
يعيد الحذاء إلى قدمه ، ينظر إلى الدماء التى تسيل بالقرب منه ... ويبتسم.

قراءة نقدية بقلم الأديب/خالد السروجى
فى قصة طفولة لشريف محمد أنور نرى التلميذ الضعيف , يمارس الانتقام الذي لايستطيعه جسديا, باصطناع مسدس وهمي من إصبعه يقتل به أعداءه, لكنه دائما يضرب ويسقط , ويعجز عن فعل شئ , والقصة في مجملها جميلة , لولا بعض الأشياء غير المبررة ,مثل مراقبته للتلاميذ وهم يمارسون متعتهم – يفهم أنها العادة السرية- من خلف ابواب الحمامات, وما من وسيلة لرؤية هذا سوي سماع تأوهات أو وجود كوة في الباب يستطيع عن طريقهما أن يري أو يسمع.

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 ابريل2010م)
***********************
شهادة وفاة
قصة: محمد أنيس

لم تكن خطواته المتثاقلة وهو يتجه عائدا إلى منزله تشكو جسده من عمل شاق قام به, بل كانت زفير ألم أحس به قلبه وصرخ به، فشاطرته قدماه أحزانه بالتثاقل والتباطؤ الملحوظ.
وما أن عاد وأدار مزلاج باب الشقة حتى اتجه مباشرة إلى حجرته وارتمى بلا إرادة على مخدعه..
زفرات وآهات مكبوتة ومكتومة فى صدره استطاعت أن تشق حاجز الصوت ونخترقه، وانطلقت لتعبر عما يجيش به وتخفف مما يحمله.
أخرج من جيبه خاتم الخطوبة الذهبى وظل ينظر إليه ويطيل النظر.. هذه هى الدبلة الرابعة فى حياته التى تعود من يد صاحبتها إلى يده..
يقول فى نفسه لا شك أن العيب فيه .. لا شك أنه فشل فى فهم عقولهن فضلا عن أسر قلوبهن..
قام من سريره ونظر فى المرآة وأطال النظر ... وأخذ يتصنع الابتسام ويتساءل هل ظلى ثقيل عليهن لهذه الدرجة..؟
تحولت الابتسامة إلى ضحكة هستيرية واستدار معها دورة كاملة وكأنه يرقص وأخذ يدور ويدور بطريقة عجيبة. حتى هوى على السرير مرة ثانية وأغمض عينيه التى فاضت بالدموع.. ومع سقوطه النفسي سقط جسده مغشيا عليه فى نوم ليل طويل .
وهنا تسابقت الشياطين والملائكة نحوه تتجاذبانه كل من جهته على طرفى نقيض.. لكن الملائكة وبكل قوتها استعانت بالله فظفرت به وحملته طائرة إلى رؤيا حق هتفت بهاتفها فى قلبه..
قم أيها الفتى، قم واستره قم واقبره ...
لا يرضي الله أن يظل المسكين فى العراء ....
قم أيها الفتى
قم.
سمع الفتى هذه النداءات بأصواتها الهادئة ففزع وانتفض ..
ولطبيعة عمله كطبيب فى مشرحة أدرك للحظة أنها أضغاثه اليومية التى لا يفرق هو فيها بين الحقيقي والمتخفى فى ثوب الكوابيس...
عيناه التى لا تري إلا جثث القتلى والمصابين اعتادت هذه الصور.. وأذنه ألفت مثل هذه النداءات.. فلم يأبه بها ولم يكترث . وهب واقفا والتثاقل والهم ما زالا يقيدانه ويسيطران عليه.
ارتدى ملابسه وفر إلى عمله.. وكأنه يهرب مما حدث له ليلة أمس .
وفى العمل دخل غرفته وارتدى الثوب الأبيض ومارس عمله كالمعتاد بكل نشاط ودقة ..
ولاحظ بعض زملائه خلو يده من خاتم الخطوبة .
فكانوا يسألونه وهو لا يجيب إلا بابتسامته الرقيقة المصطنعة .
ظل الألم يعتصره طوال اليوم حتى أسره الليل دون أن يدرى . فاختار النيل رفيقا له إلى أن وصل إلي بيته..
وفجأة داهمه التفكير فى رؤية الأمس ..
ترى هل هى رؤية صادقة؟
أم هى نزغ من الشيطان؟
ظل فى خواطره يكتب ويشطب ويمحو ويثبت ...
حتى غلبه النوم ..
وجاءه الهاتف ...
اسجد اقترب ... استر قلبك
استر حبك
ادفنه وادفع عنه الألم..
واسجد لله
واقترب
هب قلبك لصاحب القلب ..
وادفع حبك لواهب الحب ..
ولا تنسي أن تقبره ..
لا تنسي أن تدفنه .
انتهى عصره ... واندثرت أيامه ..
ساعات ويرفعه من أوجده ..لا تنسي أن تبحث عنه ...
فقط لتنقذه من العراء ...لتكرمه
فإكرام الميت دفنه.. إكرام الميت دفنه ...
سكن الصوت .. واستيقظ الفتى ... منزعجا منهكا ... والهاتف يصدع فى أذنه وأذان الفجر يتردد.. وخيل إليه أن المؤذن يقول له نفس الكلمات ..
إكرام الميت دفنه ...
مرة ثانيه تراوده نفس النداءات التى لا معنى لها ...
هل هى إشارة من الله حتى أعود اليه ؟ إننى فعلا ابتعدت عنه.
زفر زفرة بحنان المتضرع .... رافعا وجهه للسماء
ربي ...
نطق بها واستيقظت به كل حواس الروح ...
وانطلقت لتحلق بهذا الجسد من الركون للرغبة إلى التحليق فى مراتب القرب وإلى منازل السكينة والاطمئنان..
مرت الأيام والشهور وانقطع عنه وحيه واحتجبت رؤاه.. حتى قابلته هواتفه بحسم وقوة ذات ليلة ..
قم يا فتى وتسلم الشهادة ...
شهادة الوفاة لصاحبك ...
اذا تسلمتها سكن وهدأ ...
اذا تسلمتها بحقها فقد أرحته ..
لم يتمالك الفتى نفسه وهو على سريره ..
وارتعد وهو يري بعينيه الملك ..
ويغمضها ليسمع هاتفه بوضوح ...
خذها وتسلمها ... خذها بحقها ....
صرخ الفتى ولأول مرة ....
من أنت ؟
وما حقها؟
قالها والانفصام عن اليقظة ما زال يسيطر عليه.
قام منتفضا واقفا فى حركة واحدة.. نظر إلى دولاب ملابسه وهو يثاقل ويقاوم ليفتح عينيه. ارتدى بدلته السوداء. وانطلق ليتمم اجراءات الدفن. ويأخذ التصريح وشهادة الوفاة. واختار المنظمة الكبرى مكانا للعزاء . نعم سافر إليها. وفى قلبه مرارة الفراق لصاحبه. ولسان حاله يتمتم فى حداده .....
رحمك الله يا......

قراءة نقدية بقلم الأديب/خالد السروجى
تشير قصة محمد أنيس هذه إلى أهم ما يمتلكه، اللغة الواضحة الطيعة، واهتمامه بالفكرة التى يرغب فى التعبير عنها، وقد تمثلت مشاكل القصة الأساسية فى ميزات الكاتب نفسها، حيث ترك الفكرة واللغة تقودان القصة معطيا لهما دورا أكبر من الدور الذى يجب أن يلعباه فى أى قصة.
لكنه بدأ بمشكلة واقعية , رجل يعمل في المشرحة , وتفسخ خطوبته من جانب واحد , ويمكنني أن أفهم أو أخمن السبب وراء ذلك وهو ربما التشاؤم من جانب الخطيبات من جراء عمله المثير للتشاؤم... وكان بإمكانه أن ياخذ بالقصة منحي آخر غير ما أخذه ... إذا دخل في تهويمات وأحلام ورؤي ذات طابع ديني أخذتني بعيدا وصنعت حاجزا بين ما سبق وما صنع. أخذ من الرؤي العلوية , وهواتف , وملائكة وشياطين , واستعمل ألفاظا قرآنية أو مستوحاة منها , لم أستطع أن أفهم لزومها في القصة , ما حدث أنني انفصلت عن الجزء الأول من القصة , لأدخل في تهويمات لا تخدم القصة بل تحير القارئ ,كان الأمر سيكون أقل وطأة لو استعمل ألفاظا مثل النور والظلمة بدلا من الملائكة والشياطين... في القصة تناقض بين ألفته للهاتف العلوي و فزعه منه , كما أن استعماله للفظ "رؤية "بدلا من رويا" أثار الالتباس أيضا.
ثم يأتي في النهاية ليعود لجزء بعيد تماما عما سبق , إذ يختار المنظمة الكبري لإقامة عزاء أصحابه, والأغلب هي منظمة كالأمم المتحدة...
وينهي قصته بعبارة:
" رحمك الله يا ......"
ويفهم من الفراغ أنها رحمك الله يا وطني , بربطها بما سبق, فنحن هنا أمام ثلاث قصص, لا ترتبط ببعضها برابط.

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 ابريل2010م)
**********************
لأنك تصل متأخرًا
قصة: إيناس حليم

ستُعْلمهم – فجأة- أنك قررت الذهاب إلى يوتوبيا. سيقولون لك والجزع ملء عيونهم: أنك ستكون أضحية هذا العام. ستمط شفتك السفلى وترفع كتفيك بلا اكتراث مرددًا: إن هذا العام سيكون أضحية الجميع. سيخبرك أحدهم - كنوع من إلقاء الذنب عن كاهله- : إذا أردت الوصول إلى هناك فاعلم أنك ستمر بمدينة صغيرة، ذات طقوس غريبة، نهاراتها شاحبة وبيوتها زرقاء غير مسقوفة، شرفاتها واسعة ومصنوعة من العاج.. رجالها يُحنون لِحاهم كل مساء ونساءها تلدن أطفالاً لا يشفون من الحمى أبدًا. ستتجاهل أمرهم جميعًا، وتجمع ما لديك من نقود وتشتري عصيرًا وخبزًا.. مؤونة تكفيك رحلتك. أخبروك أن الرحلة تستغرق سبع ساعات سيرًا على الأقدام، ولأنك لا تحب ارتداء الساعة، ولأنك دومًا تصل متأخرًا، ستبلغ غايتك بعد ضعف الوقت ونفاذ المؤونة، ستقف أمام اللافتة البيضاء المشيرة إلى مدخل المدينة وتُبسمِل، ستُدخل قدمك اليمنى قبل اليسرى وترفع رأسك منهوكًا متأملاً مدينة بلا نهار.
على الدكة الخشبية المواجهة للمدخل، سترى رجلاً يجلس متربعًا، يرتدي جلبابًا أبيض، وجهه شاحب ولحيته مُحناة وزاهية، ملامحه بلا انفعالات، يداه تتحركان ببطء لأعلى ثم لأسفل ولا يتكلم، نظرته طوال الوقت ثابتة، وحزينة.. سيشير لك ويبتسم محافظًا على حركته البطيئة وثبات النظرة. في البداية ستظنه عرضًا مسرحيًا ممن يجولون الشوارع طلبًا للرزق القليل، لكنك سرعان ما ستكتشف أنه مجرد نسخة مكررة من آلاف النسخ التي تسير حولك في كل مكان، حينها ستلعن أصدقائك الذين لم يخبروك بكل شيء وتوقن أنه للمرة الأولى في حياتك ستطأ قدماك وجه مدينة عجيبة، لا يسير في شوارعها ولا يجلس في مقاهيها سوى رجال ذي لِحى محناة وجلابيب بياضها أزهى من المعتاد، كلهم واجمون، لا يتكلمون. النساء لا تتواجدن إلا في الشرفات، تراهم طوال اليوم واقفات تنشرن الغسيل - جلابيب وفساتين بيضاء-، أما الأطفال.. فستستطيع أن تسمع أصداء صراخهم وبكائهم المستمر من خلف الأبواب وجدران البيوت.
ستفكر: ما حاجتهم إلى الشرفات مادامت البيوت غير مسقوفة؟!، وما حاجتهم أصلاً إلى بيوت تسترهم مادامت ثمار معاشراتهم محمومة؟؟
سيرتعش جسدك الضئيل لوهلة ثم تسير متأملاً باحثًا عن فتحة ولوجك إلى المدينة المقصودة.. ستدور في شوارعها سبع ليال متواصلة تبحث عن آخرها، ستكتشف أنك تتجول في مسار دائري مغلق تُسيجه أشجار خروب عالية ومورقة.. حتى الباب الذي دخلت منه قبل قليل.. لن تجده.. ستجد مكانه شجرة خروب قرونه مطروحة حولك في كل مكان. لن تيأس، ستُهدىء من روعك وتستأنس سنجابًا يسكن أحد جذوع الأشجار ليكمل معك باقي الرحلة. بشكل أو بآخر.. ستتقبل الشوارع، المقاهي، الشرفات.. كلها كمسرح للبانتومَيْم.. حتى الحانات التي ستزورها كثيرًا بعد ذلك، ستراها عالمًا متفردًا بذاته. الرجال متربعون على كراسي البار بشكل موحد، يمدون أياديهم إلى الكؤوس يُمسكونها ببطء، يرفعونها إلى أفواههم بضجر ثم يتجرعونها بتمهل شديد، سيبدو لك أنك تلمح سريان الخمر في مريء كل منهم حتى يصل إلى معدته. ستلاحظ ترنح أنصافهم العلوية بمعدل زمني ثابت في نفس الاتجاه.. سيضحكك المشهد، وستثير ضحكتك ارتباكهم وغضبهم.. ستفكر في أن التجارب دومًا ما تثري الحياة، لذا ستقرر أن تتذوق خمر الغرباء بطريقتهم، تقرب الكأس من فمك فتشم رائحة تألفها، تتجرع ما فيه مرة واحدة وتتعجب – إذا كان ما يشربونه هو مجرد عصير خروب، فلماذا إذن يتصنعون السكر؟!-
يومها ستعجبك اللعبة.. ستحاول تعلم لغتهم وإشاراتهم وتلقي على نظرتك بلاهة تشبههم، ولأنك ذكي، ستتعلم كل شيء بسرعة.. كما أنك ستعشق امرأة منهم تبتسم لك يوميًا من خلف حبل الغسيل، ستفعل كل الأشياء كي تتزوجها، وستتزوجها.. ستخلع بنطالك الكتان وقميصك القطني الأخضر وتدفن رفاتهم عند أقرب دكة خشبية، وستحلق شاربك الحميم وترعى لحيتك حتى تنبت كما ستتخلى عن سنجابك وتعيده إلى جحره. ستعاشرها بالطريقة التي علموك ولن تتأفف..
حين تحمل امرأتك بطفل يخصك، سيرهبك الموقف، ستبحث عن أعلى نقطة في المدينة لتنادي الله طفلاً كليما، غير موجوم ولا محموم. ستنتقي أكبر شجرة وتتسلقها وستجد خلفها سورًا حديديًا يوازي علوها. ستقفز فوق السور وتُطل من خلفه لترى مدينة كبيرة نهارها ساطع، بيوتها مسقوفة بالقراميد، ملتصقة التصاقًا مطَمئنًا ومعلقة بين الأرض والسماء بحبال من نور.. في منتصف المدينة سترى بحيرة واسعة يجلس حولها رجال ونساء يلعبون الورق ويصطادون السمك وخلفهم الأطفال منهمكون في الركض وراء الفراشات البيضاء والملونة، وستأتيك النسائم البعيدة حاملة معها رائحة الزيتون النقية التي ستنفذ إلى صدرك نفاذًا حنونًا. رُغمًا عنك ستسقط دمعة ملحية على حافة السور الحديدي، ستتدارك الأمر وتقنع نفسك أنها مفاجأة الضوء الساطع لعينيك التي اعتادت الضوء الرقيق، وستستدير قِبل شجرة الخروب..
عندما تبدأ في الدعوات.. ستكتشف أنك فقدت القدرة نهائيًا على النطق، وبأنك نسيت – تمامًا- أمر مدينتك الفاضلة...

قراءة نقدية بقلم الأديب/خالد السروجى
قصة إيناس حليم لأنك تصل متأخرا لها طابع الجو السحري , تذكرني ولو من بعيد بجو حكايات الف ليلة وليلة ...ولكن القصة لاتكتمل , ولا يصل إلي مدينته الفاضلة, ويفشل.
القصة أيضا تحمل سخرية مبطنة –من الحلم بالمدينة الفاضلة.
القصة مكتوبة بصيغة المستقبل " سيحدث كذا – ستفعل كذا- " والقصة تسير علي هذا المنوال ...حلم/ توقع/ نذيربالفشل / التيه / تحذير ....
وهي أيضا إلي جانب الصيغة التنبؤية, تحتمل أن تكون حديثا من طرف واحد, وحتي خواطر راويتها , وسخطها علي من لايعيش الواقع , ويلجأ إلي الحلم المستحيل.
لكن الكاتبة استخدمت تعبيرين بمعني واحد دون مبرر فني وهما " يوتوبيا-في أول القصة- والمدينة الفاضلة في آخرها"
في النهاية القصة مبشرة بكاتبة واعدة.

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 ابريل2010م)
**************************

جيل حديد..أمل في منجز جديد
بقلم: خالد السروجي


يعني ظهور جيل جديد في كتابة القصة , أمل جديد في منجز جديد , حتي ولو كان علي شكل فردي, يتخطي ما أنجزناه , يكفي من كل كتيبة صاعدة , قاص أو اثنين من كل كتيبة صاعدة , فعلي صعيد التراكم , سيصبح لدينا حركة قصصية ثرية.
ليس مطلوبا ان يبأ هذا الجيل عملاقا كما بدأ يوسف ادريس ,فنحن نقبل التصاعد والاختلاف والبحث عن الصوت الخاص . وان يتقدم القاص خطوة للأمام مع كل قصة يكتبها.
أمامنا من جيلنا الصاعد , خمس قصص,تمثل عينة لهذا الجيل:
وأول ما يلاحظ في اختلافهم عن جيلنا هو الفرق بين المجاهد والعابد. فالمجاهد مهتم بشئون مجتمعه , يعمل علي التغيير . ويحمل الهم العام, أما المتصوف فهو يبحث عن الخلاص الفردي...
أعترف بأنني لست ناقدا محترفا , وهو شئ معروف علي كل حال, ولكننا هنا لا نقل خلاصة تجارب عشرات السنين, وفرت ليقدر من الخبرة لا تصدي لقراءة هذه الأعمال.
الأعمال التي تحت بصري هي قصص:"أمور قديمة" لمحمود حسن," رداء يصلح لجنازات" لهبة خميس", "شهادة وفاة" لمحمد أنيس" , و"طفولة" لشريف محمد أنور, و"لأنك تصل متاخراً" لإيناس حليم.
وأود أن أنوه أولا أن القصة القصيرة هي كائن رقيق , إما استطعت أن تخرج بأعجوبة قصصية أو أن تقتل هذا الكائن الرقيق , والذي هو من أصعب الفنون.
وسنتفق من الآن علي أن القصة هي ما يصلنا منها , لا ما يقصده الكاتب.


(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 ابريل2010م)


ليست هناك تعليقات: