بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 21 مارس 2012

"أحمد حميدة".. الصدق على الطريقة القديمة. محمد الفخرانى.



الصدق، كان أول ما عرفته فى الكاتب الكبير "أحمد حميدة"، الصدق الإنسانى والإبداعى، ثم تأتى بعد ذلك أو معه، الكثير من الصفات الأصيلة التى جعلت منه فى رأيى رجلاً قديمًا، وأقصد قديمًا هنا بمعناها الجميل، معنى الأصالة، هذا الرجل الذى يكتب بطريقة قديمة لم تعد مستعملة الآن إلا فيما ندر، يكتب بدمه، هل تبدو قديمة لهذا الحد؟
"أحمد حميدة" لم يتنازل فى كتابته عن شيئين، أو أنه لم يتعمد ألا يتنازل عنهما، لأنهما أصيلان فى شخصية إبداعه، وطبيعة كتابته: الصدقووأصالةوصيلة والأصالة، كتابته صادقة، أصيلة، لا تشبه أحدًا، ولا تتماس مع كتابات أخرى، رغم أنها عن عالم الهامش الذى تناوله الكثير من الكتّاب، لكن يبقى "لأحمد حميدة" شخصية مختلفة، ونزق خاص، مثلما لبحر الإسكندرية يودًا لا يشبه يود أىّ بحر، كتابته هى سلسلة حقيقية عن الهامش، يشغلها بحلقات متوهجة نابضة.
يكتب "أحمد حميدة" عن نزق الهامش أكثر منه عن عنفه، عن أحلامه أكثر منه عن إحباطاته، عن بساطته أكثر منه عن فقره، عن وجعه أكثر منه عن تعاسته، يكتب عنه بتلك المحبة الكبيرة، التى يدرك أنه يكتب بها، ويريدك أن تعرف أنه يكتب بها، وأن تعرف أيضًا أنه يدرك ذلك عن نفسه وعن طريقته فى الكتابة.
هذا الكاتب الكبير، اختار الإنسان منذ البداية، انحاز للمهمشين، وللكتابة الحقيقية عنهم ولهم، يفرح بأىّ كتابة حقيقية عنهم، كأنها بشكل ما تكمل كتابته، كتب "أحمد حميدة" عن الغجر، عن هامش الإسكندرية، ضواحيها، قطاراتها الداخلية، أسواقها، شوارعها الصغيرة الملأى بالحياة، وهو فى نفس الوقت يكتب عن البسطاء والمهمشين فى أىّ مكان، كتب ذلك كله بلغته الحرّيفة، وأسلوبه الخاص، الذى يسبب النزيف دون أن يجرح، عوالمه ملأى بالبشر وحيواتهم، أحلامهم البسيطة الكبيرة، آلامهم، وأوجاعهم، يلتقط بكتابته البشر المبعثرين بإهمال فى شوارع الحياة، ويجعل منهم متنًا تملؤه التفاصيل الإنسانية الموجعة، يجعل منهم غصن شوك يمرره على قلب الحياة فيجرحه، أو يطعنه به فينزف.
 كل من قرأ "أحمد حميدة" يعرف أنه أمام كاتب كبير، لن أقول أنه لم يحصل على حقه، وإن كان هذا حقيقيًا بالفعل، لن أتوقف عند ذلك، أقول أن كل من قرأه يشعر الصدق والأصالة فى كتابته، وفورًا يعرف أنه يكتب بتلك الطريقة القديمة، بدمه، هى طريقته المفضلة والوحيدة، هل تبدو عنيفة لهذا لحد؟ رقيقة لهذا الحد؟ نعم، وحقيقية.
كأنك تمشى فى البحر على سطح صخرى يجرح قدميك لكنك لا تشعر بذلك، فأنت مستمتع باليود وارتطام الموج بك، وبالقوارب من حولك، والريم الأخضر الذى يداعب قدميك من وقت لآخر، لكنك عندما تخرج للشاطىء، تكتشف جروح قدميك والدم النازف منك، هو لن يدعك تمضى بتلك السهولة، لا بد أن يترك فيك أثرًا قويًا، يشبه دخولك مدينة كاملة من المهمشين، فتخرج محملاً بهذا الشعور الإنسانى الصادق الذى لا يخلو من نزق محبب، وجرح ما.
قال لى فى مقابلة بيننا إنه لا يستطيع التعامل مع الكمبيوتر، ولا يحب استخدامه فى الكتابة، قلت له إن الكمبيوتر يوفر الكثير من الوقت، فقال إنه لا يشعره، يراه باردًا بلا إحساس، وأنه يحب إحساس الورقة والقلم، فى النهاية قلت له أنى رغم استخدامى للكمبيوتر لكنى فى نفس الوقت أحتفظ بجوارى دومًا بقلم وكراس، لأن هناك جملاً وأحاسيسًا لا أستطيع كتابتها مباشرة على الكمبيوتر، لا يمكنها أن تخرج على الشاشة وإنما على الورقة، هناك إحساس لا يخرج إلا مع الورقة والقلم.
هذا الرجل القديم الأصيل مثل لوحة أصلية أصيلة بالأبيض والأسود، واضحة بسيطة وعميقة معًا، لا تملك إلا أن تصدقها وتحبها، تصدقه وتحبه، هو بتلك الطيبة الممزوجة بنزق محبوب، أراه فى الندوات، وهو يدافع بحماس عن الكتابة الحقيقية التى ينحاز إليها بقوة، أحيانًا يبحث لبعض الوقت عن كلمة يعبر بها عما يريد، ربما يقول فى تعليقه عدة جمل عادية، لكنه سيُتبعها بجملة قصيرة فيها كل ما يريد قوله، وأهم ما هو موجود فى الكتابة التى يتحدث عنها، جملة قصيرة يلتقط بها جوهر ما يتحدث عنه.
 "أحمد حميدة"، الذى احتفظ بشخصيته الإنسانية والإبداعية مثل شاطىء قديم أصيل على بحر الإسكندرية، أو شارع من شوارعها العتيقة الحية، فظل مزدحمًا بالبسطاء، وقوارب الصيد الطيبة، والحياة، ظل كبيرًا، صادقًا، وحقيقيًا.

ليست هناك تعليقات: