بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 19 أغسطس 2010

18 أغسطس 2010م.

في ندوة عكاشة والدراما السكندرية المجهولة:

أدباء الدراما يطالبون باهتمام القائمين على جوائز الدولة التشجيعية

الإسكندرية في 18 أغسطس – أوصى المشاركون في ندوة "أسامة أنور عكاشة والدراما السكندرية المجهولة" التي نظمها مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، الذي يشرف عليه الأديب منير عتيبة، أمس الثلاثاء بضرورة اهتمام جوائز الدولة التشجيعية بكتّاب الدراما لأنهم لا يقلون إبداعًا أو أهمية عن كتّاب الرواية والقصة، مشيرين إلى أنه عوضًا عن حجب بعض جوائز الدولة أحيانًا في مجال القصة والرواية يمكن أن تقدم لمبدع من كتاب الدراما الإذاعية أو التلفزيونية.

ونوّه الدكتور إسماعيل الشيخة؛ رئيس القناة الخامسة، إلى وجود حالة واحدة لم تتكرر حتى الآن حصل فيها الأديب يوسف عز الدين عيسى على جائزة الدولة التشجيعية عام 1973 عن تأليفه لمسلسل إذاعي، متسائلاً: "لماذا لم تتكرر هذه الجوائز؟".
وكان الشيخة قد بدأ الحديث عن أنواع الكتابة والوسائط التي تقدم من خلالها، مؤكدًا أن اتحاد كتاب مصر ما زال قاصرًا حتى الآن؛ حيث يضع ضمن شروطه لانتساب العضو للاتحاد وجود كتابين مطبوعين، بينما لم يعترف حتى الآن بأي وسيط آخر للكتابة.
وروى الشيخة أنه التقى أسامة أنور عكاشة عدة مرات أثناء إعداده لرسالة الدكتوراه وتعرف على كثير من جوانب حياته؛ فعكاشة بدأ بكتابة القصة القصيرة وطبع مجموعة قصصية وزع نسخها على أصدقائه، وعندما تحولت قصة من المجموعة إلى سهرة تلفزيونية لفت نظره عدد الجماهير التي شاهدتها ورد الفعل الإيجابي، فقرر أن يحول مساره إلى الدراما، ومن ثم أصبح نجم الشباك الأول في الدراما التلفزيونية.
وأضاف أن عكاشة اهتم بقضايا مصر وهموم المواطن، وعرض لتحالف قوى الفساد ومحاولتهم السيطرة على المثقفين، كما أنه اهتم بقضية مياه النيل في مسلسل "ما زال النيل يجري"، كما أنه كان جريئًا وصريحًا عندما كان يقتبس أي فكرة فيكتب ذلك على "التتر"، دون أن يرى أن ذلك يقلل من مكانته الفنية.

من جانبها، أكدت فيفيان محمود؛ السينارست والمخرجة الإذاعية، أن أسامة أنور عكاشة كان أحد أهم المؤلفين وكتّاب السيناريو للدراما المصرية التليفزيونية والمسرحية والإذاعية والسينمائية، وإن كانت الدراما التليفزيونية هي التي احتلت مكانة بارزة في سيرته الفنية وكانت الأكثر متابعة في مصر والعالم العربي؛ مثل: الراية البيضاء، وخماسية ليالي الحلمية، وأرابيسك، وعصفور النار، وزيزينيا بجزأيها، وقال البحر، وامرأة من زمن الحب، وضمير أبله حكمت، والمصراوية.

وأوضحت فيفيان أن عكاشة كان له بصمة أيضًا في مجال الدراما الإذاعية؛ إذ لا يعلم الكثيرون أنه بدأ حياته الفنية كمؤلف إذاعي مع المخرج حسني غنيم من خلال برنامج "من القاتل" قبل أن يتجه إلى الدراما التلفزيونية ويشتهر من خلالها، لافتة إلى أنه كمؤلف إذاعي لم يكن بنفس المستوى والقوة التي كان عليها كمؤلف للدراما التلفزيونية.

وأشارت إلى أن المرتكز الرئيسي لأعمال أسامة أنور عكاشة يدور حول الإصرار على قول الحق وعدم الخوف مهما كان رد الفعل والتأكيد على أن الفرد ليس بمأمن وحده بل قوته تأتي من أهله وأنه على كل شخص أن يتصدى للظلم ويحاربه بكافة أشكاله.
وقالت إنه يحسب لعكاشة أنه تصدى ودافع عن المؤلف الدرامي ورد له الاعتبار في زمن أصبح فيه الممثل النجم هو من له الكلمة الأولى والأخيرة، إلا أن اسم أسامة أنور عكاشة كان كفيلاً بإخضاع النجوم للعمل معه مثل فاتن حمامة، ومحمود مرسي، وسميرة أحمد، وغيرهم. كما أنه كان أيضًا سببًا في صنع نجومية الكثير من الممثلين مثل صلاح السعدني، ويحيى الفخراني، وممدوح عبد العليم، وخالد زكي، ولوسي.

ولفتت إلى أن قدرته ككاتب أدت به إلى نقل الحارة المصرية إلى الشاشة الفضية والوقوف على تفاصيل البنية الاجتماعية للحارة بتطورها التاريخي؛ بحيث استحق عن جدارة لقب "نجيب محفوظ الشاشة"، مضيفة أنه كان عاشقًا للإسكندرية رغم أنه ينتمي لمحافظة كفر الشيخ؛ حيث ارتبط بمدينة الثغر إبداعيًا وأنجز فيها معظم أعماله.

وفي سياق متصل، عرض كاتب السينارست محمد الدخاخني في كلمته لمحات عن أسامة أنور عكاشة وتناول الهجوم الذي تعرض له عكاشة عندما تكلم بسوء في حق الصحابي عمرو بن العاص قائلا إنه لا يستحق أن يمجد في عمل درامي من تأليفه، مشيرًا إلى أن عكاشة أصر على رأيه رغم اعتراض النقاد وقال: "هوه لما يكون دا رأينا في عمرو بن العاص أبقى خرجت عن الإسلام أو أنكرت ما هو معلوم من الدين؟".

وأضاف الدخاخني أن عكاشة كان ممن يؤمنون بقيمة ومكانة مصر فعمل على إظهار الشخصية المصرية وكثيرًا ما انتصر لمبادئ الديمقراطية والمواطنة والعلمانية وعُرف عنه أنه ناصري التوجه اشتراكي المذهب وكان له مقال أسبوعي بجريدة الأهرام؛ حيث طالب في إحدى مقالاته بحل جامعة الدول العربية مع إنشاء "كومنولث" للدول الناطقة باللغة العربية مبني على التعاون الاقتصادي.

الأربعاء، 18 أغسطس 2010

الثلاثاء 10 أغسطس 2010م.




الرواية الأنجلو أمريكية فى مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية




في ندوة الثلاثاء الموافق10 أغسطس نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية ندوة حول "أحدث اتجاهات الرواية الآن.. الرواية الإنجلو أمريكية نموذجا" تحدث فيها الدكتور جمال التلاوى أمين عام مؤتمر أدباء مصر. قدمها الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر



وقد تحدث فيها الدكتور جمال التلاوي عن الرواية الأنجلوأمريكية , وعن مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة . وعن الاتجاهات الجديدة في الرواية , وقد رأى فيها أن ليس كل ماهوكان حداثيا نعتبره الآن حداثي بل أصبح تقليديا مع مرور الوقت .

وقد تحدث عن سبع مصطلحات للواقعية : اختص منها ثلاثة بالحديث وهم : super fiction " meta fiction " , تراسل الأنواع الأدبية , electronic novel .

ونوجز لكم حديثه باختصار شديد ونبدأه برواية الميتا فيزيقا أو meta fiction التي تتناول قصة القصة , ومن كتابها جون بارث وهو ناقد وروائي أمريكي بدأ هذا الاتجاه منذ منتصف السبعينات , وهو يدرس الآن في جامعة هارفارد . ويعتمد هذا الأسلوب على كسر الايهام باواقعية والعودة الى الحدوتة حيث القصة تكون البطل . والكاتب من حقه أن يتدخل ليشرح القصة , مثال لذلك رواية " حدث في مدينة الملاهي " .

فعلى سبيل المثال عندما يتحدث الكاتب عن تخرجه يضع صورة لشهادة ميلاده , واذا تحدث عن بيته يضع صورته , وهكذا .

وهذا النوع يساعد على عرض وجهة نظر الكاتب , وهناك ايضا قصة قصيرة بعنوان " سيرة ذاتية " يسيطر عليها ضمير الأنا فتبدأ بعبارة لا تصدقوا هذه الأحداث , لأنها مايعرضه الراوي ويروي أحداثا مختلفة , فيعطي فرصة للقارئ أن يكون له دور في الأحداث , ولكن هذا النوع أصبح تقليديا بعد أن وضعت له قاعدة .

وقد سبق تلك التجارب تجربة طه حسين في الثلاثينات عندما كتب " جنةالحيوان " , وقبلها كانت ألف ليلة وليلة الشهيرة التي أساسها " قصة داخل قصة " . وهذا ما يلفت النظر الى نقصنا في البحث والتنظير لابداعاتنا .

النوع الثاني : تراسل الأنواع الأدبية , حيث يخرج العمل الأدبي من حدوده , ويأخذ من الأجناس الأدبية الأخرى .

ومثال له رواية " فيكرانت سيث " البوابة الذهبية , وهو أمريكي من أصل هندي . وقد كتب اتلك الرواية شعرا , عام 1985م, ولم تجد تلك الرواية القبول من الناس وهي مجموعة من السونيتات , والسونيتا هو مصطلح موسيقى , فقدم سيث الرواية عبارة عن قصائد .

القصيدة مكونة من 14 بيت ولها تقسيم محدد وقافية محددة , تختلف من فصل لآخر – ويعتبر هذا مرهقا جدا للكاتب – وقد تكونت تلك الرواية من 960 سونيتا , فأصبحت الرواية تحتوي على وحدات شعرية مستقلة , ولكنها في المجمل وحدات سردية متكاملة .

وقد زاد من صعوبة الرواية وعدم الاقبال عليها , أنها تضمنت مصطلحات عن الحاسب الآلي في وقت لم ينتشر فيه استخدام الحاسب الآلي .

وهذا الاتجاه في الكتابة " تراسل الأنواع الأدبية " يعبر عن كل الأحداث المحيطة : اجتماعية , اقتصادية , سياسية , ...

وقد رأى الدكتور التلاوي أن التجريب لايبدأ الا عند معرفة كل القواعد والكلاسيكيات , ثم نبدأ بالخروج عليها والتجريب , وضرب مثالا لذل قصيدة النثر التي ربما تقع الأجيال الجديدة فخا في هذا الأسلوب , فتكتب قصائد غير معروفة , وغير موزونة لاتنتمي للشعر .

وأسلوب تراسل الأنواع كتبه من المصريين : لويس عوض وادوار الخراط , توفيق الحكيم – في بنك القلق وان لم يستمر فيه - جمال التلاوي " تكوينات الدم والتراب " .

أما أحدث الاساليب الثلاثة تجريبا فهو e-novel أو electronic novel وهو مصطلح مازالت ترجمته غير دقيقة مثل الرواية الرقمية أو الرواية التشعبية , وله نمطين :

1* نص رواية مفتوح , حيث توضع بداية للنص في مدونة ثم تترك للاضافات من زوار المدونة فيصبح النص غير منتهي ومتغير .

2* الواية التشعبية وهو نص يكتبه صاحبه فقط , ويقدم كما هو مكتمل . السرد فيه ليس كتابيا فقط وانما هو اخراج أقرب الى سيناريو فظه اتجاه به صور وصورمتحركة وخرائط وموسيقى ووثائق .

ونتيجة لهذا الاتجاه الجديد ظهر اتجاه نقدي مواكب له , حيث لا يصلح هذا الاتجاه للنقد الورقي العادي والناقد لابد أن تكون له علاقة جيدة بالتكنولوجيا الرقمية الحديثة .

اصبح النص مصدر معرفي يساوي مابين ماهو أدبي وما هو غير أدبي , وأصبح المضمون يتقدم على الشكل الأدبي مثل نقد الثلاثينات , والآن أصبح الجزء المعلوماتي أهم من الجزء السردي .







السبت، 7 أغسطس 2010

27 يوليو2010م




ملــف الأديب أحمد أبو خنيجر
مبدع الجنوب


إعداد/ منير عتيبة


أحمد أبو خنيجر.. مبدع الجنوب
منير عتيبة

أحمد أبو خنيجر.. سيرة ذاتية



الرواية، الكتابة: تأملات شخصية
أحمد أبو خنيجر


الأبواب السرية المتشابهة
أحمد أبو خنيجر


البناء المعمارى والجمالى لرواية
"خور الجمّال" لأحمد أبو خنيجر
محمد محمود الفخرانى


إيقاعات متفردة على هامش رواية "العمة أخت الرجال" للكاتب : أحمد أبو خنيجر
منى عارف

أحمد أبو خنيجر.. مبدع الجنوب

أحمد أبو خنيجر واحد من أهم كتاب جيل الوسط فى مصر، ينتمى بالميلاد والإبداع إلى صعيد مصر، حصل على عدد كبير من الجوائز أهمها جائزة الدولة التشجيعية وجائزة ساويرس فى الرواية، يكتب الرواية والقصة والمسرح والسيناريو والدراسات الشعبية، وهذا الملف والندوة التى ينظمها المختبر بالمكتبة اليوم حول إبداع أحمد أبو خنيجر بمثابة تكريم للجنوب المبدع فى شخص كاتب متميز الإبداع.
فى إبداع أحمد ابو خنيجر وهج من نوع خاص لا يملك توليفته المميزة إلا هو، فهو معجون بتراب الجنوب وتراثه، ناسه وعاداته، أفكاره وطرائق معيشته، العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى تحكم الجنوب، الحالات النفسية التى تميز ناس الجنوب، وهو يقدم كل هذا فى إطار فنى حداثى، يتفاعل بإيجابية مع أحدث تطورات النظرية الأدبية والإبداعية، ويضع رواياته فى منطقة متوهجة من واقعية سحرية خاصة به، مصرية، صعيدية، يمتلك لغة قادرة على إثارة الحلم والمخيلة والوصول بالقارئ إلى أقصى درجات التفاعل والمتعة.
كاتب لديه ما يقوله، ويعرف كيف يقوله.
يستحق أحمد أبو خنيجر الكثير والكثير جدا، وأرى أنه لم ينل بعض حقه حتى الآن.

منير عتيبة- المشرف على مختبر السرديات


أحمد أبو خنيجر.. سيرة ذاتية
الاسم: أحمد إبراهيم حامد محمد أبو خنيجر.
الاسم الأدبي: أحمد أبو خنيجر.
تاريخ الميلاد: 27 مارس 1967 أسوان – مصر.
المؤهل: بكالوريوس علوم- مايو 1988.
و دبلوم عام في التربية- مايو1993م.
عضو اتحاد الكتاب المصري.
قاص و روائي و كاتب للمسرح و الدراسات في الأدب الشعبي.
شارك في العديد من المؤتمرات و الاحتفالات الأدبية.
كتب المقال الشهري بمجلة الهلال العريقة، تحت عنوان شعبيات.
الجوائز و التكريم:-
حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عن رواية: نجع السلعوة 2003.
- تكريم من قبل المؤتمر العام لأدباء مصر في الفيوم 2001م.
- جائزة أخبار الأدب عن قصة" غواية الشر الجميل"- المركز الثاني1994م.
- جائزة هيئة قصور الثقافة عن قصة "جر الرباب" – المركز الأول1998م.
- جائزة مؤسسة اقرأ الخيرية عن قصة" حد الخوص" المركز الأول 1999م.
- جائزة هيئة قصور الثقافة للنص المسرحي" ياسين" 2001م.
- جائزة نادي القصة للرواية: العمة أخت الرجال- مخطوط- 2006م.
- جائزة ساويرس في الرواية للشباب- مركز أول- عن رواية العمة أخت الرجال 2007م.
- كتبت دراسات أدبية و نقدية عن الأعمال الأدبية بأقلام: د.على الراعي، إبراهيم فتحي، د. صبري حافظ، د.عبير سلامة، د. أيمن بكر، سيد الوكيل، د. محمد عبد السلام... و غيرهم.
- تم اختياره ضمن عشرين كاتبا مصريا يشكلون الكتابة الجديدة في مصر من قبل المركز الفرنسي بالقاهرة 2004م.
- تم اختياره ضمن مجموعة من الكتاب في العالم العربي في إطار مشروع مداد للتعريف بالأدب العربي الحديث بمعهد جوته الألماني2005م.
- سافر لفرنسا بدعوة من مركز الكتاب الوطني في باريس- نوفمبر 2008 و ذلك للمشاركة ضمن فعاليات التظاهرة الثقافية" الجميلات الغريبات" بصحبة الروائي جمال الغيطاني، لتمثيل الأدب العربي، مع ثماني عشر كاتبا من مختلف أنحاء العالم.
- ترجمت بعض الأعمال والنصوص للإنجليزية والفرنسية والألمانية.
المؤلفات:-
أولا المجموعات القصصية
- حديث خاص عن الجدة- هيئة قصور الثقافة- إبداعات- القاهرة 1995م.
- غواية الشر الجميل- جماعة سوبك- أسوان- 1998م.
- غواية الشر الجميل –ط2- دار ملامح القاهرة- يناير 2009.
- جر الرباب – الهيئة العامة للكتاب- إشراقات أدبية- القاهرة 2001م.
- مساحة للموت– الهيئة العامة للكتاب- كتابات جديدة - القاهرة2003م.
- مساحة للموت – الهيئة العامة للكتاب – مكتبة الأسرة- القاهرة 2004.
ثانيا الروايات:-
- نجع السلعوة –الهيئة العامة لقصور الثقافة-أصوات أدبية-القاهرة 2000م.
- نجع السلعوة – ط2- الحضارة للنشر- القاهرة- 2007م.
- فتنة الصحراء – دار ميريت- القاهرة 2004م.
- العمة أخت الرجال – الحضارة للنشر-طبعتان- القاهرة 2006م.
- العمة أخت الرجال – ط3- الهيئة العامة للكتاب- مكتبة الأسرة 2008م.
- حرخوف أمير أسوان- رولية للطلائع- دار الهلال- القاهرة- 2008م.
- خور الجمَّال – دار الهلال- القاهرة 2008م. " تم أختيار الرواية من أفضل الأعمال الروائية الصادرة في نفس العام، في استفتاء جريدة الأخبار، للأستاذ/ مصطفي عبد الله

ثالثا المسرح:-
- ياسين –دليل النصوص المسرحية(9)- هيئة قصور الثقافة-القاهرة2002.
- كرم النخل – تحت الطبع.
- أبو زيد لما غرب- تحت الطبع.
- هد الحيل – تحت الطبع
- غابة الأمان و السلام – نص مسرحي للأطفال – تحت الطبع.
- ود السماك و الغراب – نص مسرحي للأطفال – تحت الطبع.
- العنب للذئب – نص مسرحي للأطفال – تحت الطبع.
رابعا الدراسات الشعبية:-
- الطرق الصوفية في أسون- الصندوق الاجتماعي للتنمية-أسوان1999.
- كان ياما كان-دراسة في الحكاية الشعبية-هيئة قصور الثقافة-أسوان 2004.
- رقصة الكف- دراسة في الممارسة الشعبية- تحت الطبع.
- في رحاب الصحراء، مدد يا شاذلي، دراسة في المكان و الطقوس، قيد الطبع.
خامسا العروض:-
- غابة الأمان و السلام – فرقة أطفال أسوان المسرحية 1997م.
- ود السماك و الغراب _ فرقة أطفال أسوان المسرحية 1999م.
- ياسين – فرقة كوم أمبو المسرحية 2002م.
- ياسين – فرق ساحل سليم المسرحية بأسيوط 2005م.
- هد الحيل- فرقة كوم امبو 2010
- بيوت الجبل – سيناريو فيلم تسجيلي – إنتاج القناة الثامنة من إخراج: على المريخي 2003م. و قد حصل الفيلم على الجائزة الفضية لمهرجان الإذاعة و التليفزيون 2006م.
العنوان البريدي: جمهورية مصر العربية- أسوان- قصر ثقافة أسوان.
رقم الهاتف: موبايل: 0127242201 مصر
البريد الإلكتروني: abokhnegar@yahoo.com


الرواية، الكتابة: تأملات شخصية
شهادة: أحمد أبو خنيجر

أن تكون عاشقا، هذا معناه ببساطة، أن تؤمن بالخرافة، و لديك من القوة اللازمة لتحمل كل ضربات الحب الموجعة، و الإحباطات المتتالية التي سيقوم الهوى بإنتاجها، ربما و كثيرا لن تحتاج إلي ذلك التعقل الهادئ الذي يتيح لك الفرصة كي تراجع مواقفك، أو تفكر بالانسحاب عندما تزداد الخسائر، لكنك و بالعناد اللازم لن تفكر سوى بالنقلة التالية، متناسيا كل الإخفاقات السابقة.
بالمثل كما قيل: لا يمكن نزول البحر مرتين، و في رواية: النهر. فإما الماء تغير و غادر موضعه، أو أن أجسادنا ذاتها تغيرت، فكيف يمكننا أن نكرر ذاتنا بعد مرور الزمن الذي يسمنا بعلاماته الواضحة و القاسية، و بغض النظر عن المواضعات الإنسانية و هشاشتها القاتلة، فهل نحن نحن؟ كما كنا من لحظات.
و أيضا العشاق لا يصدقون سوى أنفسهم، و مشاعرهم، و مهما قيل، و مهما حاول الآخرون تقديم العون و النصيحة، التي تكون صافية و بلا غرض في أحيان كثيرة، لكن لا يمكن الاعتماد في أمور تخص العشق على أحد، لأن هذا الأحد ببساطة هو خارج التجربة، و غير مدرك لكافة أبعادها، إن القدر الذي يشق دروبا مختلفة للبشر، هو من يجعل التجارب مختلفة، حتى و أن بدت في ظاهرها متكررة، لكن في عمقها الأصيل هي بالتأكيد شديدة التباين و الاختلاف، و جديرة بمعاركة محكاتها القاتلة، و الباهظة التكاليف، مهما كان الأداء، و النتائج المترتبة عليه.
في الفن كما في الحياة، لا يمكن التقدم إلا عبر الحب، أو العاطفة النقيض: الكره. انظر مثلا لكل الأفعال العظيمة، يعنى إيه عظيمة دي؟ ستجد دائما من يقف خلفها، لكن العاطفة وحدها غير كافية لإخراج الأفعال من حيز التصورات و الأماني إلي الواقع الفعلي، إن ذلك بالتأكيد يحتاج إلى القوة و الصرامة و الانضباط الشديد، ببساطة المجهود الجبار لتصبح الأحلام واقعا، نحن نعرف أن الحلم يبقى حلما مادمنا تحت الأغطية نياما، و لكي نحققه علينا أن نستيقظ أولا، و نرمى من فوق البدن المتكاسل أردية الدفء و الخمول اللذيذ، ثم نخطو بجدية بالغة نحو تحقيق ما حلمنا به.
هل أتحدث في باب الأحاجي و الألغاز؟! أم أن الأمر واضح، و لا يحتاج إلى عناء الشرح و التفسير، إن العشق يا سادة هنا، يخص الفن، الأدب، الكتابة، لكن دعونا نبدأ بداية مختلفة، أقصد أكثر بساطة و تحديدا.
البداية، تبدأ بسؤال قديم، لكنه صالح دائما، ربما يجب تحريكه قليلا باتجاه ما نحن بصدده الآن، بالطبع الرواية؛ السؤال حول الكتابة، و دوافعها و طرقها الغامضة، و التي لا ندرك بالتحديد متي قادتنا نحو الفخ، معذرة؟ نحو الفن. أعتقد أن أجابتنا على هذا السؤال ستكون متبدلة دوما، كل واحد حسب حالته، لكن و قد علقنا بالفعل، إذن علينا تحريك الفرس نحو المربع الثالث، أي الرواية، لماذا؟ و متى؟ و كيف؟.
سيظل السؤال دائما مربكا و محرجا لي، ليس بوصفه دالا على قلة الذوق و الأدب، لكن بوصفه مطالبا بدقة و تحديد و وضوح، كلها بالتأكد تقع خارج نطاق الأدب و الفن، لأن ما يمكن تسميته بتحديد الطريق، لا يمكن أن يخضع للشروط ذاتها التي يخضع لها التخطيط لشراء حذاء مثلا.
كنت أحاول في مرات كثيرة أن أوحي بإجابة منطقية، تعتمد على التسلسل و التطور الطبيعي للأشياء، فإذا كنت قد بدأت بكتابة القصة القصيرة، فالمنطق يحتم وفقا لسنن التطور، أن أذهب إلي كتابة الرواية، و كأنما الأمر يحتوي على منطقية قابلة للتصديق، كنت في هذا الوقت أحاول أن أدعم إجابتي ببعض الثقل و العمق و الفلسفة، إن أمكن، و ذلك بقول: أن العالم كان من حولي واسعا و عميقا و معقدا، و لا أستطيع الإمساك بكليته، و كانت القصة، كحل، تقدم لي جزئيات هذا العالم كي يتم تأملها و الإلمام بتفاصيلها، و تفاصيل العالم المتشتت من حولي، و كانت القصة القصيرة هي الحل العبقري لجمع هذا الشتات.
أو قد تكون الإجابة من نوع: الشباب، و الحركة السريعة، العجولة، ربما الملل، و عدم وجود حوافز الاستقرار، هو ما دفع في البداية نحو القصة القصيرة؛ ربما توجد إجابة ثالثة و رابعة، لكن بقيل من التبصر سنجد أن كل ما سبق ذكره، و أن بدا صحيحا، ما يزال قائما حتى الآن، فلا تم القبض على تفاصيل العالم، و لم تجمع أشلاؤه كما فعلت إيزيس، لا الملل رحل، بل هو قائم و مكثف؛ أما الاستقرار، إذا حدث؛ ثم كيف يمكن الإجابة على حتة التطور، و بعض الكتاب بدءوا بكتابة الرواية، دون القصة في البداية، إلي ماذا تطوروا؟!
الآن و بعد ثلاثة روايات، و رابعة أعمل فيها، لا أقدر على تحديد إجابة كاملة و قاطعة، لكن الملاحظة الجديرة بالتأمل هي أن كتابة القصة القصيرة تباعدت، لكن الحنين إليها ما يزال طاغيا؛ في أحيان كثيرة أكون جاهزا لكتابة قصة، ثم تبدأ المراوغات، و إقناع النفس أنه يمكن كتابة هذه القصة ضمن الرواية التي أعمل فيها، و صدقوني هذا لا يحدث إلا نادرا.
قبل أن أبدأ العمل في "نجع السلعوة " كنت جربت عددا لا بأس به من روايات ستظل حبيسة أوراقها، كنت أصل للمنتصف، أو أقارب من الانتهاء من المسودة الأولى، ثم أفقد اهتمامي كلية بها، و ذلك لأسباب تتكشف أثناء الكتابة، فمثلا، بينما كنت أوشك على الانتهاء من الفصل قبل الأخير من رواية"حجر على ماء"، توقفت، ذلك أني وجدت نفسي مخلصا لكتابة الستينيات، نفس همومها و نزواتها و ضرباتها الموجعة، و للمفاهيم الثقافية ذاتها، فألقيت القلم، و كان علىّ أن أبدأ في عمل جديد.
في كل مرة يكون الخوف و الحذر و القلق، هم من يؤجلون البداية، لكن ما أن أنطلق حتى يأخذني الاندفاع إلي مداه الأقصى، و هذا أيضا لا يمكن التعويل عليه، لأن الشك، الملل واقفان و متربصان على بعد خطوة.
"نجع السلعوة" كانت بداية مختلفة، و بعد العمل على عدة مسودات، و هذا غير مقلق لي، و هو ما سوف يتكرر في الروايات التالية: فتنة الصحراء، العمة أخت الرجال، و أخيرا خور الجمَّال التي أعمل عليها الآن.
إن الفضيلة الأساسية التي تحتاجها الرواية في ظني، هي الصبر، و طولة البال، و الإنصات الجيد لهمس الأصوات الخافتة، و التمعن الكافي في الرسائل غير المعلنة، إن الظل، الظلال، أجدر بالتأمل من الوضوح التام للأشياء التي تُكّون الظلال، ذلك أن الظلال هي ما تصنع الحكاية، و تكسبها القدر اللازم من الدقة و المصداقية للظن بحدوثها.
سيكون مهما هنا أن أقول، و هو رأي مشكوك فيه، بالطبع، أن ما نكتبه ليس ما نراه، أو حتى عشناه، أو سمعناه، كما هو في واقعه؛ لكننا نكتب تصورنا عن الذي حدث، أي في ظلاله المتضاعفة.
لم أدرك، أو لم أكون أعلم مصائر الشخصيات: سعاد و القلام، أو الغريب في نجع السلعوة حين بدأت، و الحال نفسه مع العمة و العجبان عثمان، و الجمل و الجمّال الصغير الذي تُرك وحيدا داخل وادي الحيات، في الأعمال التالية؛ فقط كنت أبدأ من مشهد، أو رائحة، أو جملة عابرة، أو تصور مراوغ، لكنه كاف كي يجبرني على البدء، و مهما حاولت المراوغة، في الختام علىّ التسليم، و الوقوع في العشق، دون إرادة، أو إدارة، فقط علىّ تحمل كل العقبات و النتائج، السؤال الآن: هل دائما يكون العاشق مدفوعاً بتحقيق أربه من المعشوق، أو أن ما يسيطر عليه هي الرغبة في البقاء في حالة العشق ذاتها، دون أن يكون المعشوق هدفه الدائم و الوحيد؛ هي لفتة بسيطة ترتد بعدها شخصا مختلفا، معبأ بالطاقة اللازمة و الجرأة للإمساك بالقلم و كواجهة الورق الأبيض.
المسودة الأولي هي الركيزة الأساسية التي ينبني عليها العمل، هنا محاولة للكشف عن هذا الغامض، و الخبيء، و الذي غالبا لا تستطيع هذه الكتابة الوصول إليه، لكنها كافية كي تحدد الطرق و المناطق المناسبة للحفر و التنقيب، و قد تكشف المسودة الأولى أن ما تم البحث عنه مجرد تراب تحت التراب، و لا يحتاج كل هذا العناء، كثيرا ما نرمى بالشباك في البحر و تعود خاوية، أو بأشياء قديمة، هي لأناس آخرين، و قد علاها الصدأ و التآكل، ليس هذا سيئا، لأنه سيفيدنا في التجارب القادمة، إذ عبر الخبرة، يمكن تحديد مناطق الصيد بدقة و مهارة أشد؛ تبقى إذن المسودة الأولى دليل حاسم على إنجاز جزء كبير من العمل، لكنه ليس العمل الأساسي و النهائي، فما يزال الشوط بعيدا، و الدرب أكثر وعورة و خطورة.
تأتي مشورة الأصدقاء من الكتاب و غيرهم، و من الخبرة السابقة، و الوعي و الشك الدائم، و التأمل الملازم للعمل، الخطوة التالية التي تسبق الشروع في المسودة الثانية، حقيقة لا أقدر أن أحدد عدد المسودات، كل حالة و ظرفها الخاص، فقط علىّ أن أقول أن هذه المسودات قبل النهائية لا يمكن تقديمها للأصدقاء لقراءتها، لكن المناقشة تكون غالبا نظريا حول الموضوع، أو المناطق الشائكة التي تحتاج لإنارات خارجية، لكن نسخة القراءة التي سيقوم الأصدقاء بالتعليق عليها، هي المسودة قبل النهائية، و هي التي تحصل على نسبة عالية من رضائي الفني، و بعد تجميع مختلف الآراء و الاستماع لجميع المناقشات، بالإضافة للمراجعة الذاتية القاسية و المدققة، أجلس للعمل في المسودة النهائية، و التي يمكن أن تصبح كتابا في يوم من الأيام.
في المسودات المتتالية، يتم العمل على اللغة، التكنيك، الرؤية، هناك هاجس غامض يقود العاشق تجاه ديار المعشوق، الكائن في نهاية المتاهة، و التي على العاشق أن يقطعها بقوة يقينه الذاتي، و بأن الحبيب ما يزال بانتظاره، أو لعله محبوس، سجين، و في انتظار من يفك وثاقه، كي ينطلقا في رحاب الكون.
حين رأيت الكتب لأول مرة، كبيرة و ضخمة، و كنت طفلا بالابتدائي، و لم أكن قد رأيت من قبل سوى كتب المدرسة، و كان والدي قد بني لنا بيتا جديدا، و هناك أخرج الكتب التي كانت مركونة عند الجدة، والدته، هالني الحجم و دقة حجم الكتابة، و لون الورق و الأغلفة، و لما كبرت قليلا و أخذتني القراءة في سكتها، تولد بداخلي سؤال ما يزال عصيا على الإجابة حتى الآن، و السؤال: هل يكون الكاتب على علم بآخر كلمة سوف يكتبها حين يشرع في بدء الكتابة، مثلا هل نجيب محفوظ حين بدأ الثلاثية، هل كان يدرك جملته الأخيرة التي سوف ينهى بها هذا السفر الجليل؟ أو حتى يوسف إدريس، عندما كتب أقصر قصصه كان يعرف؟ و هل حضراتكم تعرفون، و هل أنا؟!.
يعول كثير من الكتاب على تثبيت ما تم اكتسابه أثناء العمل، كاللغة و التكنيك، و بعض الشخصيات، و الأحداث، ظنا بأن ذلك هو ما يدعم أسلوب الكتاب، و الذي عليه أن يتميز به، لكل كاتب أسلوب، هكذا تقول إحدى الحكم الأدبية، لكن في ظني أن الكاتب ذاته هو الأسلوب، و كما أشرنا في البداية، لا يمكن النزول إلى البحر مرتين، فكيف إذن يمكن استخدام نفس اللغة، بذات الطريقة، و نفس طرق السرد و المجازات، حتى التكنيك عند الشروع في عمل تالي، إن القيمة الأساسية للأدب و الفن، و التي يتم التأكيد عليها دوما، هي قيمة الانحراف، الانحراف عما هو سائد، عما تم اكتسابه من خبرات سابقة.
كيف يمكن الوقوع في شرك العشق الجديد، بنفس حيل العشق السابقة، إن المتاهة التي تغلبنا عليها قبلا، ستكون أكثر إحكاما و إلغازا منها عن المرة السابقة، إن المتابع لما قمت به في السلعوة و من بعدها فتنة الصحراء و العمة أخت الرجال، أو حتى في القصص القصيرة، تجاوزا، لن يستطيع أن يلمح ذلك المسمى عبثا بالأسلوب، حسب المفهوم القديم، لأنه و في كل مرة، يوجد شيء جديد و مختلف، أيضا لا يمكن الجزم بأيهما أفضل، لكن في ظني أن الخوف من المغامرة هو ما يجعلنا نسلك الطريق القديم، بينما حولنا متسع هائل، و أفق مفتوح على تجريب لا نهائي؛ في استطاعة المتاهة أن تحجب عنا الحبيب، و لن نستطيع الوصول إليه، إذا نحن سلكنا في كل مرة نفس الدرب.
و مهما قيل من أراء و رسم خرائط لعبور المتاهة، أقصد الرواية بالطبع، سيظل هذا توجها نظريا، خارجا عن كل التصورات التي تخص الكاتب ذاته، فعليه أن يقدس أولا معرفته الذاتية، و يثمنها بموضوعية بحتة، حتى لا يقع في عبء التضخم الذي قد يوقعه في البئر الكائن بقلب المتاهة، لأنه حتما سيسلك الدرب الخاطئ.
سيبقى العمل اليومي و المداومة لهما الفضل الأول لإنجاز أي عمل، مهما بدا صغيرا و تافها، إن فضيلة الصبر تحتاج كثافة العمل و دقته، و الصرامة القاسية التي لا يمكن التفريط فيها، هذا إن كنا جادين في سعينا لعبور متاهتنا الشخصية للوصول لذلك المعشوق المراوغ، كي نتمكن في الختام من الغناء في رحاب الكون: أنا لحبيبي و حبيبي لي.


الأبواب السرية المتشابهة
شهادة: أحمد أبو خنيجر

كان شيخى مولعا بضرب الأمثلة و الأحاجى، و يطيب له كثيرا أن يضللنى، يقول أول بوابات الاختبار الملاحظة، و الدقة المتناهية فى الكشف عن الخبئ، و ضرب لى مثلا فقال على سبيل المجاز: العين بوابة الروح، و أيضا مرآة الجسد. و لما لم أحر جوابا، أو أنطق بكلمة، تحرزا من شباك يخيطها ليوقعنى فى أحابيلها، ابتسم و قال: كل الرغائب تبدأ من عندها، لكن تنبه أيها الغافل، فعند لحظة الفعل ستغمض جفونها، متبرئة منك، تاركة الأمر تحت رحمة الجنون. و صمت قليلا قبل أن يستدرك: الحواس الأخرى بوابات بصفات أخرى، لكن الأكثر مراوغة هى العين؛ ثم اوقفنى قدام المدينة و جلس هو فوق ربوة عالية مشرفا على الطريق الذي يقود نحو الأبواب المتشابهة، يتشعب الطريق تحت قدميه، و ينقسم بقدر عدد الأبواب، و هو واقف عند أصل الطريق، لا يمكن العبور إلا من خلاله: سبعة طرق، تنتهى بسبعة أبواب متطابقة، نفس الحجم و اللون و الزخرفة و المتراس. ستة منها زائفة، و واحد هو المقصود، و الذى من خلاله يمكن المرور للمدينة العامرة.
أقف بحيرتى و قلقى مواجها الطرق الزائفة، و بسمة شيخى، أحاول الاقتراب من الأبواب أتفحصها جيدا، محاولا معرفة أين يكمن الزيف؟ فى مرات كثيرة أخطئ و أختار الطريق الزائف، فتكون النتيجة مروعة، أظل أدور في فلك المتاهة التى كشف لى الباب عنها، دون أن يسمح لى بدخول المدينة، فقط ألف و أدور و أنا أتلقى الضربات و الكلمات الجارحة و الهازئة، و الأقسى من ذلك نظرة شيخى الصامتة، و التى أرى فيها تحسره على تعليمه لى، و الذى أضعته هباءً مندفعا وراء رغبة غير الرغبة الحقيقية فى الدخول للمدينة و التعرف عليها بحق و متعة نادرة، يمكن أحكى كثيرا عن المدن التى نجحت فى الدخول إليها، لكن المقام الآن يقع تحت أسوار المدينة، فى السفح، حيث الطرق المتشابهة و التى تقود بدورها لأبواب متطابقة، و لا مجال للخطأ أمامى، و إلا تعرضت للطرد و القطع، و إعادة المحاولة، و هو ما يكلف روحى الضعيفة الكثير، فتضعف قواى، و تفتر همتى، مما يدفعنى فى كثير من الأحيان للعودة خائبا نحو ديارى، و أنا أتخايل فقر روحها و عدم جدارتها بالإقامة فيها، لحظتها يغدو العذاب مضاعفا، و مهما كانت قوة النسيان، إلا أن الحنين و الرغبة فى المغامرة تجعلانى معلقا على الأعراف، الحدود، لا أنا هنا، و لا أنا هناك، يارحمة الجنون، هل يمكن تحمل هذا العذاب؟
فى بداية مصاحبتى للشيخى أوصانى بالصبر و طول البال، و عدم التعجل، و الوضوح و الدفة، و أن أستمع كثيرأ لصوت المدينة التى أرغب الولوج إليها، أقترب منها، كى أتعرف على روحها، عمقها، و ألا أقع تحت سطوة بهرجتها و مفاتنها المغوية، قال: للمدن غوايات، و ألاعيب تجريها على من يرغبون الدخول، تختبر قوة أرواحهم و جدارتهم بأن تسمح لهم بالدخول. و أضاف بأسى: الكثيرون يقعون تحت ظلال بهرجتها، فتتركهم فى ألوانها يعمهون، و فيما حسبوه جوهرها يختلفون، و هى منصرفة عنهم تحيط روحها بصدفة صلبة لا يمكن لهم النفاذ منها.
يساعدنى المشى الكثير على تصفية أفكارى، و محاولة عزل الأبوب الزائفة، فى تلك الفترة أكون موجودا فى السفح، تحت أسوار المدينة، و غير موجود أيضا، فالكثيرون الذين يروننى فى تلك اللحظات، يقسمون أنهم توقفوا لإلقاء التحية، أو الاطمئنان على الأحوال، أو الاستفسار عن شيء ما، لكنى أعبرهم دون أن أعيرهم أي انتباه، يتحدثون بغضب لى او لمن يحكون لهم، و كيف أنى صرت متكبرا، مادمت موعود بدخول المدنية، و أنا على الجانب الأخر أقسم بانى لم أرهم، الآن لا أجادل، و أدخل فى حوار عقيم، فقد عرفت من شيخى مؤخرا، أنه عندما أسير متفكرا في الطرق الضالة التى تقود إلى الطرف الثانى من المدينة، خرابها و ألوانها و بهرجتها، كى أتفادى كل هذا، لا يبقى في ادراكى سوى المدينة بروحها الصافية، فلا يدخل من يمر أمامى بحيز ادركى، قال: ما هو موجود أمامهم جسدك فقط، أما روحك و عقلك تحاول التواصل مع روح المدينة، و محاولة التقاط الذبذبات الدقيقة التى لن يشعر بها سواك.
أبواب تتكشف عن الحسد و الضغينة و الرغبة الجارحة فى الانتقام، و أبواب تسيطر عليها الغريزة و القسوة، و يبقى باب واحد و الذي يملك كل تلك الخصال الرذيلة إلا أنه يصفيها و يضعها فى سياقها المحدد، بعيدا عن الفجاجة و المظهرية، الكل مندغم في وحدة تكشف عن جوهر المدينة، في تجلياتها المتعددة: فجورها و تقواها، صدقها و كذبها، شجاعتها و تخاذلها، لهوها و تأملها، أحزانها و قوة أفراحها، شياطينها و ملائكتها، أمراضها و قوة يقينها، بنات حورها وأولادها المخلدون.
يقول شيخى: فى البداية كانت المدن، و لحماية أسرارها من الانتهاك، بنيت المحارة، أقصد الأسوار، و زودت الأسوار بالأبواب المتشابهة، لمنع كل من هب و دب بالتجول داخل أروقتها، اذهب لأبوابها و تحدث إليها و استمع منها، منها كلها، دون أن تستثنى واحدا، فقط كن حريصا على كشف الخداع و الشراك الوهمية، فإن تلك الأبواب تكون أكثر مهارة فى الإقناع و التأثير. و سألنى سؤالا و لم يتنظر إجابتى عليه، قال: من يحمى روحك من التردى فى المتاهة؟ و أكمل: أمامك المدينة بأبوابها المدهشة و المتطابقة، فاذهب إليها و تعرف على ذاتك. و فارقنى فبل أن أرد ، وحيدا أواجه مدينتى بكل أبوابها الملغزة.
فقط ما أحتاجه هو الوقت و صفاء الذهن و الروح لالتقاط النغمة الصحيحة لترقص روحى معانقة روح المدينة، روح النص، لأضع قدمى على الطريق الذي يقودنى نحو الباب الوحيد الذى سيدخلنى لعمق المدينة، هل كنت واضحا بما يكفى، أم كان غموضى جارحا؟


البناء المعمارى والجمالى لرواية
"خور الجمّال" لأحمد أبو خنيجر
بقلم: محمد محمود الفخرانى

مما لا ريب فيه أن رواية "الفانتازيا" هى أحدث الاتجاهات، ومن هنا –وبعد أن صار لها رصيد لا بأس به- جاءت أهمية رصد ملامحها وإنجازاتها على المستوى الجمالى والفكرى. وإذا اتسمت مثل هذه الأعمال بالتعقيد نظرا للمزج بين الواقع والخيال، واقترانها بفكرة التحول من الماضى إلى المستقبل التى تستلزم من جانب آخر الاقتران بالوعى وبـ"الإنسان" فى صراعه مع الطبيعة، كما أن اقتران الحياة العربية حتى العصر العباسى الثانى بـ"الامتداد الصحراوى" الواسع جعل "مساحة الفعل شاسعة ومسكونة بالتأمل بحيث بدا العنصر البشرى مذابا فيها" ثانويا إزاءها كما يقول محسن جاسم الموسوى فى دراسته عن خصوصية الرواية العربية [مجلة فصول، المجلد الثانى عشر، العدد الأول، ربيع1993] ويظهر ذلك جليا فى الطابع العام الذى تسمه هذه الأعمال التى تحفل بنوع من تلخيص الأحداث المستقبلة، ولكن هذه التقنية ترتبط بما أسماه تدورف "عقد القدر المكتوب" كما تقول سيزا قاسم، وهذه التقنية تعتمد على تداخل الأزمنة وتتنافى مع فكرة التشويق التى تُكون العمود الفقرى للنصوص التقليدية التى تسير قدما نحو الإجابة على السؤال "ثم ماذا؟" [د.سيزا قاسم، بناء الرواية، ص65] وهو طابع يميل إلى إعلاء قوانين الأجداد وقيمهم على قوانين الرأسمالية والمنفعية وألوهية السلطان واهتزاز البنية الأخلاقية، ومن ثم وجدت شخوص هذه النصوص فى حالة صراع غير متكافئ فامتزجت أهواؤهم بالسخرية من أمر الوجود فى ذاته، ويبدو فى صراعهم كأنهم فى قبضة قوى بعيدة تدفعهم لغاية مجهولة، وقوة الدفع فى تجارب الشخوص الأربعة فى رواية "خور الجمّال" لأحمد أبو خنيجر؛ الجمّال، وبنت الراعى، والثعبان، والفتى بدر، تنبئ أنهم جميعا مستلبون، هاربون، أهل الكهف هربوا إلى كهفهم، إلى الماضى، أما هؤلاء فهم هاربون إلى خور فى الصحراء، ملئ بالحلفاء والعاقول وأشجار السنط والخروع والثعابين والطريش، هم جميعا رافضون كجماعة السفينة فى رواية جبرا إبراهيم جبرا، ولكنهم لا يكتفون بالرفض، إنهم هاربون رغم قسوة الصحراء التى تمثل المستقبل، هاربون إلى فعل ما.
ومثل هذه النصوص تحتاج إلى الاستلهام الدقيق للمكان والزمان، ففى المشهد الافتتاحى للرواية "حلقة من رجال وسطها حية، حلقة يضربها الخوف والقلق والتوتر، والقلق يجعلها غير مستوية منبعجة كأنما يلفها إعصار جعل القبضات على العصى والفئوس مضطربة متشنجة. القلق رهف حركاتهم" ص7. همهمات غامضة تنبعث لا يمكن تبين نبرها بوضوح، همهمة خافتة تأخذ سمت الزئير البادى فى التشكل. طول الحية أكبر مما تخيلوا عندما قتلوا وليفها مصادفة. الأب سمع صرخة ابنه، أفلت المحراث من يده، جرى ناحيته وهو يرفع عصا الجريد التى يسوط بها البقرتين، البقرتان وقفتا لما أفلت الأب المحراث، وأدارتا رأسيهما تجاه الفتى المكوم فوق الأرض المحروثة، كان الأب والابن واقفين مذهولين فوق الجسر لما وقف الجيران وبأيديهم العصى والفئوس، وجدوا الثعبان ممددا لم توقظه صرخة الفتى الوجلة، وبدون إمهال ارتفعت العصى وعملت فعلها، حدث كل هذا قبل أن ينتبه أحد، لا الثعبان المطمئن فى رقدته، ولا الأب الغارق فى ذكرى قديمة. جرى كل هذا فى غياب الجد (الجمّال الأكبر). قتل الثعبان أنزل بحياتهم لعنة الخور، فهم يدركون من الحكايا القديمة أن الحية تطالب بالانتقام وعلى نحو مهين، فهى كما تقول التوارة "أحيل جميع حيوانات البرية التى عملها الرب الإله" تكوين 3:1.
وقد صدر الكاتب هذه الآية فى بداية الفصل "وما كان لآدم أن يأمن الحشرة كهذه ويستجيب لحواء لما قالت له: دعها تؤنس وحدتى". وحينما ضيق الجيران الذين هبوا لنجدة الصبى الحصار على الحية التى كانت منتصبة بنصف جسدها كجذع شجرة سنط، اندفع رجل بدا كأعمى أو مجذوب ضربه الوصال فى قلب حضره طاهر وأخذ يلملم جسدها حتى لم يعد باديا جسده من تحتها، إلا ساقيه الرفيعتين وهو يكاد ينكفئ لولا الحية التى استخدمت ذنبها كعصا تساعده على الاستناد وتمنعه من الانكفاء. هؤلاء الغرباء الذين قتلوا الوليف برائحتهم المميزة كان الجد وابنه يدرك أن هبتهم لم تكن سوى ذريعة للسيطرة على غنائم الخور المغبر الذى تحول بفعل الجهد إلى شئ جميل عاطفى له نصيب من فرح مقيم وشجن لا يريم، أما وقد دخلوه فقد ذابت أصداؤه التى ترزح تحت عبء العرق واللعنة والخبث والموت، وتحت عبء الأسطورة والماضى كلاهما يمثلان القاعدة التى ينطلق منها أحمد أبو خنيجر بوعى حاد لينشئ رواية جيلية أو رواية نهرية تسير بخط تصاعدى من المنبع إلى المصب، نستبين من خلالها الجيل الجديد الذى لا يعرف طريقه ولكنه يندفع بعيدا عن ماضيه بعد أن تشوهت روحه بالإحساس بالخطر وأسس من فرط التصاقه بالآباء واستسلم للدعة وللتأملات المجردة.
ويقع الفصل الأول على مستوى التنفيذ الروائى فى الماضى البعيد، فالجد عبد الله الذى تزوج من بنت الراعى كان هو الفتى عبد الله الذى صاحب القافلة استجابة لأبيه حتى لا يصبح عبدا لأرض تتملكه "غفلة الابن الموكل إليه حراسة الماء جعلت القافلة كلها عرضة للهلاك فى دروب الصحراء المضلة". كانت المهمة التى أوكلها الأب السائر فى مقدمة القافلة المتمهلة لابنه حراسة جمل الماء، مهمة لا تعب فيها إلا أنها تنمى حس التيقظ وتجلو انتباه الحواس" ص23. والذى جرى أن جمل الماء لحظ شرود الغلام" ص25. فأراد أن يستريح من عمله فمال نحو نبتة جرته إلى أخرى، ولما أفاق الغلام من حلمه كان جمل الماء قد اختفى، وأدرك سيد القافلة أن القافلة كلها عرضة للهلاك، واختلى سيد القافلة بابنه على شط النهر، وبعيدا عن الرجال والابن يدرك أنها اللحظة المناسبة للهلاك. حول الأب عينيه بعيدا عن الظلام راح بهما للنهر وقرر ترك الغلام مع الناقة التى جبر الرجال ساقها قائلا: لن نقدر على تركها وحدها بالخور يجب أن يبقى معها أحد، واحد منى، لن آمن لأى واحد من الرجال. أنت ابنى وهذا مالك، ستبقى أنت والناقة وقاعودك الصغير. وكأن حشرجة أصابت حلقه فأخذ يتنحنح، وتقدم حتى وقف على حد الماء، ومد يده وراح يغرف من النهر، يبلل يبس حلقه. والابن كمن سرقت روحه، شاهد نفسه وحيدا والناقة والقاعود والخور، لا شئ حوله سوى دموعه وإداركه الحاد بفداحة العقاب، وكبر الغلام وتزوج بنت الراعى، ابنة فوزى الراعى الذى كان يرعى أغنامه القليلة بجوار الخور، لم ينتبه حين سمع صوت أحد خرافه بالخور، فأسرع إليه فأصابته لعنة الخور، ومات بعد أسبوع متأثرا بما جرى بالخور، وبعد ذلك حلت لعنة النار، تشتعل النار فى البلدة فى أى وقت دونما سبب، وما أن يفلح الرجال فى إخماد النار حتى يروها وقد هبت فى مكان آخر، وسمى هذا العام بعام النار، ساعتها نزل رجل غريب بالبلدة كأنما جاء على قدر، كان غامضا متسربلا بالسواد، لم يكن له اسم لكن البلدة عرفته على أ،ه مغربى. الرجل توصل إلى اتفاق مؤداه عودة الجن إلى الخور، ويبقى أهل البلدة فى بلدهم، لا يتخطى واحد منهم حدود الآخر وإلا عادت اللعنة، والفتى الذى تزوج وأنجب وأصبح الجد العجوز، كان عليه هو الآخر أن يرحل ليحتل المشهد صبى آخر يصبح جدا، وليتأكد أن كل من يخرج من رأس الخور لا يعود، قالها المغربى بهدوء ص99. كان على الجد أن يجد الرجل الذى حمل الحية عليه أن يجد حيته، عليه أن يعيدها، هى أمانة، تميمة المكان لا يمكن للحور أن يحيا بدونها. "ولما رحلت الحية كان كل شئ ثابت، الرجال والحية، والريح، وأوراق الشجر، خفقة الماء فى الجرف، وكأنما انقطعت الحياة فجأة، وما عاد بمقدور أحد دفعها للتحرك والتنفس" ص87.
إن عالم أبو خنيجر يغرينا كما أغرانا عالم (اليوكنا باتا وفا) لوليم فوكنر باعتباره رمزا لعالم أكبر وراءه لم يعد مصرعه نتيجة للصراع حول الغنيمة فحسب، بل نتيجة للصراع المعنوى نتيجة حتمية للفوضى السائدة فى زمننا. إن عالم الصحراء عند الروائى مزيجا من المحبة والتعاطف والاشمئزاز. أما ما وراء السطور فقد ينظر إليها من زاوية الانحلال الاجتماعى لأمة ينتهك عرضها فى رابعة النهار، وهذا عين ما أحدث تأثيرا تراجيديا وتهكميا فى آن "ولأن الرواية صاحبت الإنسان على الدوام وبإخلاص منذ سرفانتس أو مع بداية الأزمنة الحديثة فقد سيطر "هوى المعرفة" على حد قول كونديرا هذا الهوى الذى يعتبره "هوسرل" جوهر الروحانية الأوروبية الذى يضع عالم الحياة تحت إنارة مستمرة، بهذا المعنى نفهم كونديرا وشارك هيرمان بروخ عندما كان يكرر وبلا هوادة: اكتشاف ما يمكن للرواية وحدها دون سواها أن تكتشفه، هو ذا ما يؤلف مبرر وجود الرواية، إن الرواية التى لا تكتشف جزءً من الوجود ما يزال مجهولا هى رواية لا أخلاقية، إن المعرفة هى أخلاق الرواية الوحيدة". هوى المعرفة سيطر بلغة تحس وتشم وتلمس على أجواء هذه الرواية الجيلية التى حملت الكثير من المشاهد التصويرية وبتراتبية تدل على معايشة الكاتب لأحداثه، كما تضمنت مشاهد تراثية:
وعائشة التى خلعت جلبابها الملون بنقط حمراء وصفراء وبان لحمها المتفجر فى القميص الضيق الشفاف، تعلقت به لما رأت هروب الجمل وما كان بقدرته الانتظار، فربما مر والده الآنن كان والده قد حدد علامة عودته، الغروب، فجرى، حاولت أن تقبض على قميصه من الخلف لكنه زاغ منها. ص76. وفى هذا المشهد تضمين لقصة زليخة مع يوسف.
أنزل حُق المعسل، رجع وجلس، فتح الحُق وبأصابع مدربة راح يعجن المعسل ويفركه وهو يصب عليه قطرات قليلة من الشاى، ثم شال منه ووضعه فوق الحجر، مسح أصابعه اللزجة بالتراب، أغلق الحُق وأعاده لمكانه، ومن الراكيه تناول جمرات متوهجة وعلى المعسل وضعها، وشد نفسا طويلا، مسك كوب الشاى بيد وبالأخرى حمل الجوزة. هذه معرفية تراتبية لا يمكن إغفال قدرة الكاتب على إبراز تفاصيلها. إن لحظة الكشف الدرامى وهى الخاصة بالرجل الذى حمل الحية خارج الخور كان الجد يقول وبلغة شاعرية إن الخور والحية جزء واحد لا يمكن لأحدهما الانفصال عن الآخر، هى واحدة من مفرداته وهو جزء من كلها، بيتها الدائم.
وربط الزمن بين كائنات الخور من الشجرة للصخور والأرض وماء النهر القريب والجمل والناقة والجمّال وبنت الراعى والهواء والنبات والشمس والقمر والسماء، كل هذا مهدد بالزوال إن هى غادرت الخور، هى الأصل، والباقى تنويعات منها كأنما هى هاجس من عمق ضمائر الكل لا يمكنها المغادرة.
وجاءت النهاية مجازية تتفق والاستهلالية بموت الجد ورحيل الجد وتولى الحفيد مقاليد أمور الخور لتؤكد دائرية الرواية، وبعودة سيد قافلة أخرى وبها غلام مشرد للحظات وأضاع هو الآخر جمل الماء، وعلى الفتى الذى أصبح الجد العجوز أن يرحل إلى رحاب الصحراء قبل أن ينتهى الآذان.
ويبدو أن دلالة النهاية كانت من الأهمية بمكان، ذلك فمع الشر توجد هناك دوما إمكانية الخير، ولتؤكد دائرية الحياة التى تدفعهم لغاية مجهولة لا يفهمونها.

إيقاعات متفردة على هامش رواية "العمة أخت الرجال "
للكاتب : أحمد أبو خنيجر
بقلم: منى عارف


حصل الكاتب المصرى المتميز "أحمد أبو خنيجر" على جائزة ساويرس لكتاب الشباب عام 2006 عن روايته "العمة أخت الرجال".
بشجاعة فائقة تأتى روايـة الأجيـال هذه ... لتحكى قيام عائلة كبيرة وانهيارها ... صعودهـا وهبوطها ... ومصائر الأجيال حين زرعت بذرة الشر فأخذت تتاجر فى العبيد الذين تقتلعهم من بين أهلهم وذويهم وتأتى لتقيدهم فى الزرائب خوفا من الهرب ، وهذا الجد الشكاك الموسوس بقدرة العين على فلق الحجر ... ولإيمانه بذلك قرر أن يبنى بيته بعيدا عن القرية ... عند أطرافها ... حيث يمكنه الولوج والخروج إلى الصحراء ... بعيدا عن أعين أهل القرية التى لا تفعل شيئا حسب نظرته إلا عد الداخل والخارج من العبيد والإبل ...
إننا نكاد نسمع الضمير الفنى لكاتبها الصادق والشجاع وهو يواجهنا بالحقائق فى صورة أحد شخصيات الرواية يقول:
"الكتابة تحتاج إلى شجاعة كما الحياة تماما ... ويبدو أنك أوقفت حياتك للفرجة دون الخوض فى معركتها ... "
لقد اتخذ المؤلف من الجنوب المصرى مسرحا لأحداث روايته بما يحمل هذا الجنوب من عبق التاريخ ... والدين والحكمة... والفن الشعبى وأساطير الصحراء ... والجداريات الشعبية المرسومة على البيوت والتى جعلها الكاتب معادلا لما يعتمل بنفس أشخاص الرواية ... بمقدرة فائقة وبحس شفاف:
"ها هو عيد يتنبه على الرسم القديم لسيدة تجلس فوق المصلاة ... تلف السيدة طرحة خضراء تشع من ملامحها الراضية وعيناها تنظر من بعيد كأنما تتطلع لشىء غامض ... لكن روح السيدة تبدو عارفة به مما يجعها راضية بهذا القدر... الآن يدرك أن هذه النظرة لم تكن من خياله لقد شاهد هذه النظرة الطافحة بالبشر والرضى فوق وجه السيدة حينما عادوا من منزل عثمان أخيها بعد أن خطبت ابنته زينب لابنها سعيد".
"هو يعرف الآن أنه عندما يشرع فى الرسم لا يبذل أى جهد فى تذكر الملامح ... يترك يده لتجرى بالخطوط التى تملك عليه خياله والصورة ... وحين يسأله أحد عن سر الدقة والوضوح يشير إلى صدره: "الخطوط كلها هنا".
وإذا كان الكاتب والأديب "أحمد أبو خنيجر" يحكى مصائر البشرية كلها من خلال حكايته عن عائلة الرجال ... فإنه بحسه الشفيف يجيد التمييز بين الشخصيات والبيئات حتى جعل لروايته وأشخاصه وأمكنته مذاقا مستقلا:
"من أين أبدأ ؟ هل عند تلك النخلة التى زرعها الجد ... وجلب بذورها من أقصى السودان؟ أم تلك الخلوة التى تأنس إليها العمة فاطمة ... إلى جذعها و ملمسها؟ أم تجاه بيت الضيافة الذى يعمر بالوافدين ؟ ... أم داخل تلك الفسحة الواسعة للدار التى تخرج فيها الدواجن ... والماعز ... و الطيور ... أم من فوق سجادة صلاة افترشت للدعاء فى غرة كل فجر... ثلثه الأول للوالدين والغائبيـن ... وثلثه الأخير لمطلب المغفرة والصفح ... تسأل فيه العمة فاطمة من العلى القدير أن يهبها حسن الخاتمة وعدم الحاجة وألا تصبح عاطلا ...
أبدأ بالعكاز ... السند والدرع ... الصامد فى يدها ... المرتعش تحت أقدامها ... حين تتضح فى الأفق صورة من غابوا وهذا العزيز الابن الأول ... سعيد ...".
المشاهد الإنسانية الحسية فى ذلك العمل الممتع لا تفتأ أن تدهشك بصدقها وعفويتها... "النعجة والخروف".
"تدفس النعجة فيه رأسها فى حجر السيدة التى بوغتت هى وعيد بذلك التصرف ... وها هى تمسح بيدها على رأس النعجة و تمتمت قائلة: "إنها أم".
دعونى أطرح عليكم من خلال تلك المهارات المختلفة والتكنيك المتفرد الذى لجأ إليه هذا الكاتب الواعى لقلمه... ومدى تأثيره ... و قوتـه ... ونبرته الصادقـة فى توصيل أفكاره البديعة ... وأحاسيسه المرهفة للغاية ... كيف تم تصوير المشاهد بتلك الدقة ... كيف اعتنى بنصه كل هذا الاعتناء ... فصار نصا نموذجيا ... لكل ما يخطر على بال الباحثين فى مجال روايات الوعى الذاتى ... نحن لا نكتب لأنفسنا فقط ... ولكننا نكتب لتعيش الأفكار بعدنا ... تحكى عنا ... وتشير إلى ما بذلناه من جهد حقيقى ... وإفصاح نادر عن معاناتنا الإنسانية ...
كان ملفتا للقارىء المتأنى ... البناء غير التقليدى لهذا النص الأدبى ... انقسمت الرواية إلى فصلين أو جزئين ... كتاب العمة ... وكتاب بالرجال ... وما بين ذلك وتلك ... فصول تحمل عناوين خاصة بها ... مثل : حكاية ، فصل فى ذكر البناء ، مقتطفات من سيرة السيدة ، فصل فى ذكر الراديو ... فصل فى ذكر السباق ... فصل فى ذكر الرجال .
مارس الأديب والمبدع فن وحيلة الاستباق ... جاء الجزء الأول منها ليكون مسرحا حافلا بكل ما يحويه النص ... من عادات أهل الجنوب ... وطقوسهم فى العيد ... وحكايات السمر والليل ... والربابة ومغنى المواويل ... المنشد الذى تحول إلى زائر غير مقيم ولا يلتف حوله تلك البلدة النائية من صعيد مصر ... بعد أن دخل الراديو وسافر أبناء الجيل الجديد بغرض التعليم والعمل إلى البندر ...
حكايات لم يخلو بعضها من الطرافة ... والشجن أيضا ... جاء وصف بعض الحالات والمواقف التى مرت على العمة فاطمة غاية فى الإنسانية والرقة ... جاءت الجملة سلسة واضحة ... المتعة جاءت فى سرد التفاصيل ... شكل البيت ... وهيئته ... علاقة العنزة بالعمة ... النخلة ... لعبت المؤثرات الخارجية دورا ملموسا فى تحريك المشاعر الدفينة ... الكامنة ... لاستخراج ما فى الوجود الإنسانى ... ألا وهو ... التعاطف والألم ... والفقد ...
وصارت العمة فاطمة ... هى عمتنا جميعا ... هى الخالة ... هى الجارة الطيبة ... هى الأم بكل ما تحويه الكلمة من معنى...
كيف لا ينشرح صدرك ... والنص يبدأ يوم وقفة عرفة ... وهذا المشهد الأثيرى الذى لا تستطيع أن تغفله بعين القلب... أو عين الكاميرا الفاحصة ... كيف لا تذرف دموعك فجـأة ... وها هى على سجادة الصلاة تنهمر دموعها ... "لبيك اللهم لبيك"...
هل كنا بحاجة إلى كل تلك التفاصيل الهرمية ... لكى يبدأ النص تتكامل أجزاؤه ... وتتحول الأسطورة المحكية إلى حقيقة واقعية ... شديدة التأثير فى القارئ ... وفى أبطال الحكاية أنفسهم ...
كان فيها الجد هو الركيزة ... ثم تحولت الحكايات المتصلة المنفصلة إلى نسيج واحد متصل رغم اختلاف الزمان ... وتواتره فى النص بشكل جديد ... هذه التقنية لا يجيدها إلا من أفرد سنوات من عمره فى القراءة المتأنية ... تضيف إلى إبداع الكاتب مراتب من السبق غير المعهود لأنه أدمج الأسطورة "أسطورة الجد" إلى الواقع بكل تفاصيله ... وأخرج لنا هذا النموذج الفريد ... الحاجة فاطمة ... التى لم تذهب إلى الحج بجسدها ... ولكنها ذهبت مرارا وتكرارا بروحها ...
جاءت الفصول القصيرة ... لتثرى العمل ... وتقوم أيضا بعمل بساط حقيقى ... يسمونه فى المسرح "misen scene " ثم تحضير كل الشخصيات ... طريقة الفلاش باك ... وطريقة شرح المنحوتة الواحدة بعدة أصوات ... العمل لم يخلو من الأصوات المصاحبة ... أصوات نحيب الذين وقع عليهم ظلم الأسر ... العبيد فى أطراف البيت ... بكاء عيد ... نحيب سعيد ... وتلك الأصوات غير المرئية دائما ... ولكن المسموعة بقوة فى عقل العمة أخت الرجال ...
قال فلوبيز "فيلسوف الأدب":
"إذا كانت لديك أصالة فعليك أن تظهرها وإن لم تكن لديك فينبغى أن تخلقها ... وما الموهبة سوى صبر طويل ... إن أبسط الأشياء تنطوى على نقطة ما مجهولة فيها ... فلنبحث عن تلك النقطة".
وها هو القاص والروائى والمؤلف المسرحى والباحث... الأديب " أحمد أبو خنيجر " مواليد قرية الرمادي - غرب النيل - أسوان 1967 ... يحاول فى أعماله اقتناص رائحة الخصوصية التى يفوح بها إقليم الجنوب فى مصر يبحث لصوته عن مساحة ونبرة تميزانه عن الأجيال السابقة ...
يمكن تصنيف اللغة عنده على ثلاثة مستويات هى:
- اللغة الملحمية: التى تمزج لغة التراث ولغة التخاطب .
- اللغة الوصفية: وهى لغة تسجيل الأحداث التاريخية التى مرت على عائلة الرجال .
- اللغة الإيحائية: التى يمتزج فيه فيها بتيار الوعى وذلك فى الجزء الثانى من الرواية "حكاية الرجال" ...
وفى هذه الرواية تحديدا يلفت النظر فيها التوظيف الجمالى للغة ... وصارت فيها الشخصيات أقرب إلى النموذج... الجد... العمة ... سعيد ... عيد ...
ولم تفرض البيئة وجودها الشديد فقط ... ولكن سارت مواكبة لنفس حضور الأبطال والأحداث ومضمون الراوية... يجيء صوت السارد الفنى فى الرواية للتعليق على ما يدور حوله أو التعبير عن الأفكار والتأملات العميقة الناتجة عن تيار الوعى ...
وبهذا استطاع الكاتب بفنية عالية أن يحول شخصيات الرواية من مجرد شخصيات فردية إلى شخصيات كونية تعبر عن وضع الإنسان فى هذا الكون وحيرته أمام أسراره وخاصة فيما يتعلق بفلسفة الوجود وقضية الموت .
فالحياة تستمد عند الأبطال معناها من مؤشرات الطبيعة ومن بعض الأحداث الصغيرة جدا ... على سبيل المثال "العنزة"....
ومن جماليات اللغة أيضا أنها لم تقف عند حد القص والحكاية و بعثرة الأحداث ... بل تجاوزت ذلك إلى بلورة أفكار الشخصيات ودفع التفاعل بين السرد والحوار ...
سيطر الحوار الداخلى على البعد الفنى كذلك... وهذا من أجمل أدوات التكنيك المتفرد بحيث ظهر حوار الهذيان تارة ... أصوات أرواح الراحلين وصورهم تارة أخرى ... كفلاش باك فى مخيلة القارئ أيضا ...
بناء الزمن فى رواية " العمة أخت الرجال " :
هذه الرواية من الروايات التى تبقى وتعيش فى ذاكرة كل من يقرأها ويطلع عليها ... وأسباب ذلك كثيرة ... أهمها اختيار الزمن ...
هل هو الزمن بمعناه المتعدد عند "برجسون" ... أم هو مفهوم الزمن عند "برتراند " المعتمد على الذاكرة أم هى حركة التتابع والتغيير مثل كتابات "فرجينيا وولف" و"بروست".
الإحداثية المفارقة أنه فى "العمة أخت الرجال" جاء الزمن بطلا رئيسيا ... يختلط فيه الواقع الزمنى للراوى بالواقع الوجدانى الذى يحمل زمنا آخر وذاكرة لا تغيـب ... هذا التعدد والتلاقى يسمى (بالتداخل الدينامى) أى الترابطات الزمنية التى لا يتم ترتيبها بانتظـام فى الروايـة فى لغة وسرد الراوى ... هناك دائما كسر بين السابق واللاحق ... هناك قفز زمني ... أحيانا للأمام وأحيانا بل كثيرا إلى الخلف ... كأنها سلسلة فقرية واحدة ... يكفى أن تحمل جزءا منها وتشده إليك حتى تأتى كل الأجزاء تباعا...
البطلة هى العمة بلا جدال ... تجدها واضحة ... متصدرة المشهد الأول وأيضا تتصدر خاتمته ... حتى وإن كانت فى حقيقة الحكاية صارت غائبة ... هى المتحدثة ... وهى المتحدث عنها ... هى البطلة المحركة للأحداث ... ومن بعدها تتطور الحكاية ... بناء على هذا النسيج الفنى المتكامل أيضا ... يحكون عنها ... فيجئ التواتر الزمنى ... ويقصد منه إعادة تكرار الأحداث الرئيسية والفرعية داخل النص ... على لسان الأحفاد أو الجيل الثانى ...
وهذا يتطلب جهدا كبيرا ... مضى فيه الكاتب بخطوات واسعة مع بعض الإضافات التى أثرت العمل ... مثل الاقتراب من المغزى الصوفى ... والكشف عن أزمة الفـرد ... أزمـة العمة ... وأزمة زينب ... أزمة سعيد ...
استطاع هذا الأديب المبدع حقا أن يتجه بنصه إلى العالمية لأنه لم يتوخ الكتابة خلف الاتجاه النفسى أو الاتجاه اللغوى أو الاتجاه الاجتماعى أو التاريخى فحسب ... اتجه اتجاها مفتوحا ... يصعد ويهبط لمعارف إنسانية كثيرة ...
ومما يضيف إلى إيجابيات الكاتب الأسلوب الواضح والمعبر الذى توخاه المؤلف ...
أهميـة المكـان :
يكتسب المكان فى الرواية أهمية كبيرة ... لأنه أحد عناصرها الفنية أولا ... لأنه المكان الذى تجرى فيه الحوادث ... وتتحرك خلاله الشخصيات وهو سبب الإشكالية الرئيسية التى ستتضح لنا فيما بعد عن طريق حوار داخلى للعمة عن الجد ... أو من خلال اكتشاف ابنها سعيد لهذا الورث اللعين ... وهى اللعنة ... وتقديم نفسه للعذاب كل ليلة ... حتى تبرأ العائلة من هذا الذى جناه الجد بتعذيب العبيد وسجنهم... و الاتجار بهم ...
" أصبح المنزل بحجراته " ... فكان المكان هو المساعد على تطوير بناء الرواية ... ومحور تجمع الأبطال ... فى رواية أحمد أبو خنيجر لم يكن المكان كقطعة قماش بالنسبة للوحة ... بل كان الفضاء الذى تصنعه اللوحة ... فأصبح المكان معبرا عن نفسية الشخصيات ... ومنسجما مع رؤيتها للكون ... علاقة متبادلة يؤثر فيها كل طرف على الآخر ... وأعطى للمبدع خصوصية هذا الخلق الفنى ... نقلنا إليه ... صرنا نمشى وراء العمة ... عند النخلة ... وحظيرة الدواجن ... والمبنى المهجور ... وحجرتها بعد أن دلفت إليها زينب بعد مرور سنة على غيابها وموتها ... نشم رائحة الكحك والخبيز ... الأفران الساخنة ... ونسمة الهواء المنعشة ... وارتعاشة فرشاة عيد على الأبواب...
جعلنى أدقق فى الرسومات... وألوانها ... موسم الحج ... صهيل الجواد فى تلك المسابقة ... جمال تقسيمات الروح ...
صار أحمد أبو خنيجر مثل " بلزاك " لم يترك تفصيل من تفاصيل المشهد إلا ذكره ...
هذا الفضاء الروائى تحقق من خلال حركة الشخصيات فى المكان وتفاعلهم معه ... حدث ما يسمى بإيحاء العلاقات المكانية ... وجعلها نابضة بالحركة والفعل ...
وفى رواية " العمة أخت الرجال " لم يكـن المكان مكانا معتادا كالذى نعيش فيه أو نخترقه يوميا ... بل صار نوعا من الخصوصية التى لا يتيحها إلا نص أدبي متميز ... يعدو بنا معه لنشاركه ذلك الإيقاع المنتظم ... و نشاركه أيضا كل حرف فيه ...
و أخير ا و ليس آخر ....
" أحمد أبو خنيجر " هو كاتب و أديب ... منتمى لجذوره وبيئته ... وعائلته الأولى وبلدته الغافية تحت جناح الصمت والمواويل ...
أظهر بكتاباته وكلماته ... ومواقف أبطاله ... معدن النفس الإنسانية ... وأزاح الغبار عن جزء عزيز من تكويننا الثقافى والفكرى وأطل بقلمه يحاول أن يمسك بخيوط الحلم والمستقبل دون أن يفقد اتصاله بالواقع ...
من خلال العمة أخت الرجال ... تجلت قدرته الفائقة على طرح الأسئلة الكبرى فى حياتنا ... تاركا لكل منا محاولة استخلاص الأجوبة ...
وليس هذا فقط ... ولكنه أدخل لغة جديدة إذا حق لى أن أقول أن قدرته البليغة على صياغة لفتات تعبيرية خاصة ... وإسنادات مجازية خارقة استطاع بها تخليق التوتر وقلق المعنى ... وقدرة أيضا فى استثارة لحظات الوجد وحالات التأمل ... واستحضار المشاهد البصرية ... أمام القارئ فكأنه يشارك أبطاله المشهد والحوار ... والصور المرسومة ... على الحوائط والبيوت ...
لا نستطيع أن نغفل ميله منذ البداية إلى الصورة الحسية والتجربة الانفعالية وتجسيد المجردات ...
الرواية كلها تدور فى حركة دائرية ... من نقطة بداية محددة ... تعود إليها نقطة النهاية أيضا ...
وضحت فى تلك الرواية تقنية القفز ... وبصورة مدهشة ... حيث يجاوز فيها السارد فترات زمنية بأكملها دون ذكر لما حدث فيها من وقائع ...
وقد تكون القفزة صريحة مثل : مرت أعوام ... مرت سنوات ... و قـد تكـون القفزة ضمنية وفيها لا يصرح بالقفزة بل يترك القارئ كى يعمل فكره من خلال اكتشافه لفجوة فى التسلسل الزمنى ... أو انقطـاع فى تتابـع الأحداث المرويـة ... يميل السـارد نحو البطء الايقاعى فى سرده ... وهو ملائم لطبيعة تلك الرواية الملحمية ...
ومن الملاحظ تكرار حدث بعينه فى القصة ... مثل مشهد السباق الأثير ... الذى تركت فيه العمة ابن عمها "مصطفى" يسبقها ... كل أبطال القصـة يرون اللقطة من مواقعهم حسب ذاكرتهـم ومع تتابع الفصول ... نكتشف نحن القراء الصورة بأكملها ... وهى كما ذكرت تقنية التواتر فى فكرة الزمن عند أبو خنيجر ... سيطرت صيغة الحاضر على صيغة الماضى فى رواية الأديب أبو خنيجر وذلك فى القسم الثانى من الرواية ...
وارتبط الاسترجاع فيها بوظائف أخرى ... هى استرجاع شخصية أخرى غير شخصية العمة ... بحيث يكمل السارد بعض المعلومات واللمحات عنها ... من خلال زينب ... التى لم يقدر لها الزفاف بعيد أبدا ...
وقد يربط الاسترجاع ليربط حدثا آنيا ... بأحداث أخرى سابقة ... مماثلة له ... وجود الغريب فى الدار ... نشوء فكرة الثأر والنيل من عائلة الرجال مثلا ...
فى حقيقة الأمر :
لم أستمتع بقراءة رواية مثل متعتى بقراءة هذه الرواية من فترة طويلة وإن كان ليس جديدا على كتابات " أحمد أبو خنيجر "الذى يقدم لقارئه المتعة ... والدهشة ... والمعلومة ... وهذا الفضاء الروحى المفتوح لكل نفس إنسانية ... تبغى الحياة فى أمن و سلام و محبة ...
له ولكم جزيل شكرى ومحبتى ... كانت إضافة لى أن أعمـل على هذا العمل الروائى الممتع ... وأن أحاوره وأتجاوز معه فى رؤية جديدة ... هى سلسلة إيقاعات متفردة على أعمال الأصدقاء فى تلك الصفحات القليلة ...



روايـة









أجزاء من رواية :

العمة أخت الرجال









أحمد أبو خنيجر



























كتاب العمة

يكربها يوم الوقفة، يفتح عليها أبواب التذكر والحنين، والوحدة الطويلة، رغم ذلك، تحاول أن تطرد التكدر من وجهها، تخاف أن تلحظ دواجنها توترها وقلقها فتحرص علي أن تجعل يدها ثابتة وهي تقدم الحبوب والطعام لها.
يوقظها آذان الفجر وصوت الراديو المفتوح علي إذاعة القرآن الكريم، أول ما تفعل تشعل نار الموقد، تستند علي عكازها وتخطو إلي حوش الدار لتأتي بالماء، تضعه فوق النار، تذهب وتعود بإناء آخر، تأخذ جزءاً من الماء الذي صار دافئاً، تروح ناحية الزريبة وتفتح الباب لدواجنها التي تندفع متصايحة حولها، تقول:صباح الخير. تدخل الزريبة تقضي حاجتها وتعود، لتفرد المصلية، علي طرفها تجلس وتشرع بالوضوء، متمهلة تبدأ، وبحس صوفي متبتل تقطر الماء فوق أعضائها، وفمها يتمتم بالأدعية، تبدأ بالراحلين، جدتها، والديها، زوجها، ثم إخوتها الرجال، ثم تثني بأولادها، وتثلث أخيراً بنفسها، تسأل العلي القدير، أن يهبها حسن الخاتمة، وعدم الحاجة وألا تصبح عطلا.
علي عكازها تستند كي تقف لأداء الصلاة، ما أن تفرغ يكون الماء الذي فوق النار قد غلى، وفراخها وحمامها يفرد أجنحته يتراقص حولها يستحثها كي تسرع في تجهيز وجبته الصباحية الساخنة، تخلط الردة ببواقي العيش الناشف و الغلة – القمح أو الذرة البيضاء، وبواقي طبيخ الأمس – إن وجد – تضع كل ذلك في إناء فخاري كبير، وتصب عليه الماء وتأخذ في تقليبه وهي تهش دواجنها كي تنتظر قليلا، وهي تتقافز حولها، تقوم المشاحنات الصغيرة بين الفراخ والحمام، تنهيه هي بقيامها وحملها الإناء الفخاري، وتسير باتجاه الحوش، تسبقها الدواجن إليه، حيث تحط الإناء علي الأرض وتنثر بعضاً من الغلة حوله، ثم تنقل رجلها بعيداً عن الصراع الصباحي الدائر حول الإناء، تمشي باتجاه باب البيت، تفتحه وتخطو إلي الشارع الناعس تحت سطوة الفجر الفاتنة، تأخذ نفساً عميقاً وهي تقلب عينها الكليلة في الشارع علها تلمح العائدين من صلاة الفجر، لكن أذنها تلتقط من الراديو صوت التلبية، ترتعش يدها القابضة علي العكاز، تعود إلى داخل البيت، وذلك الانقباض يعاودها، وفمها يردد التلبية بصوت خفيض، لكنه كاف كي يجعل المعارك الدائرة حول الإناء الفخاري تتوقف (( لبيك اللهم لبيك )) ، حالما تنتبه إلي سكون دواجنها، تصمت وتتحرك بتثاقل باتجاه سجادة الصلاة وتقعد عليها.





(( لبيك اللهم لبيك ))
تردد بتبتل هادئ – من فوق مصليتها – مع الهدير المتدفق للتلبية من ملايين الأفواه الواقفة فوق عرفات، كم تتمني- الآن تحديداً – أن تكون بين هذه الملايين، جسدا صغيراُُ، ضعيفا وعجوزا، يهتف بملء الروح التواقة: (( لبيك اللهم لبيك)) . لكن ما العمل والعمر يمضي دون مقدرة ، ودون أمل واضح في تحقيق هذا الحلم في يوم من الأيام، حين عرض أولادها أن تبيع قطعة الأرض التي تمتلكها ، ويكملون هم الباقي، كي تسافر وتقضي الفريضة، أجابت بحسم: لا .. وهم الذين يعرفون تصلب أمهم لم يعاودوا العرض، تقول في نفسها: وماذا تفعل حتة الأرض الصغيرة، والتي أعيش منها الآن، يد أبي وإخوتي الرجال وزوجي وهم – أولادي- وعرقهم ، كيف أبيعه ؟ إن جزءاً مني ، من تاريخي يتواجد هناك، يظل شاهداً علي مروري بهذه الدنيا ، أألغي – ببساطة هكذا – مكاني فوق هذه الدنيا !!
(( لبيك اللهم لبيك ))
ذكر الحمام الذي لحظ تمايل جسد السيدة مع ارتفاع صوتها المنغم تقدم حتى وقف عند أقدامها، وهدل بصوت خفيض جعل باقي الحمام يترك ما يلتقطه من حبوب ويهدل رداً عليه، متقدما نحوه، علي حواف المصلية يقف الحمام، وهو يهدل موافقاً بين صوته وصوت السيدة التي تردد التلبية بوجد صوفي بالغ الصفاء، يتمايل جسدها وعينها مغمضة ، كأنما تحلق في سماء الحمي، يرفرف حولها الحمام ويهدل،تسمع صوته واضحاً، بأذنيها، متجاوباً مع هدير الحجيج، صوتها ضائع وسط هذه الأصوات التي تتصاعد في السماء، تحرقها النشوة، تزغرد بصدرها، تجعل الدمع يطرف من عينيها، ساخناً، يكوي أخاديد الوجه المتبتل، تنبسط التجاعيد وتنفرد سامحة للدمع بالتحدر إلي ذقنها الذي يرتجف بشدة وبخفة بالغة مما يجعل التلبية تتحشرج في صدرها بفعل البكاء، تنفتح عينها، لتري من خلال غبش دموعها، حمامها واقف حول حواف المصلية يهدل كأنه في جوقة بصوت ناعم ورقيق، الدجاج من خلفه برك حول قدميها متكوماً فوق بعضه، دون ضغينة ولا مشاحنات، وهي التي أربكها المشهد، حاولت التيقن، فأسكتت صوتها أولاً، ومدت أصابعها المرتجفة لتجفف الدمع المتدفق من عينيها، لحظتئذ غادر الحمام والدجاج مرابضه من حولها وجري عائداً إلي وجبته الصباحية وقد عادت إليه حيويته وخناقته الصغيرة .






تشرق الشمس معلنة عن صباح خريفي شديد الوضوح، السماء صافية و إن كانت سحب رمادية خفيفة متناثرة هنا، وهناك، لا تنظر إليها السيدة وهي تظلل عينيها التي ما يزال أثر الدمع بها ،تقول: شمس الوقفة،شمس عرفات، تشرق بدون حرارة، صفراء، ضوء دون حرارة، ليرحم الله ضيوفه، ويعينهم علي أداء مناسكه .
ترفع يديها بالدعاء، وهي تواجه الشمس: يا رب . تتمتم قليلا، ثم تخفض يديها،،تستند علي عكازها وتروح ناحية الباب،تفتحه وتعود،هكذا عادتها كل صباح، عند شروق الشمس تفتح الباب وتتركه مفتوحاً حتى انتصاف النهار،تجلس في ظله ترقب الشارع ،تتبادل حديثا خفيفا مع العابرين، تستعلم فيه عن أحوالهم ويطمئنون علي أحوالها، بعضهم قد يدخل ليشرب من زيرها المنصوب بجوار الباب، بعض النساء يجلسن معها قليلا يتعاطين الثرثرة لوقت ثم يذهبن .
وهي قاعدة- الآن – بعد أن فتحت الباب، تذكرت أن الولد عيد – جارها- لم يمر عليها حتى الآن،قالت: بعد أن أطعم البهيمة،سأذهب للسؤال عنه .
تناولت حزمة البرسيم من فوق السرير الجريد الموضوع بحوش البيت،الذي تنام فوقه بعد صلاة العشاء في الليالي الصائفة قبل أن تنتقل قبل الفجر إلي سريرها، أخذت حزمة البرسيم تحت إبطها، وبالعكاز دفعت باب الزريبة، اندفعت نحوها النعجة الوحيدة والعجوز أيضا التي تربيها هي ووليدها الخروف، دخلت وردت الباب وراءها،ألقت البرسيم إليها وجلست ترقبها بهدوء.
منذ زمن بعيد،لا تدرى الآن طوله، والنعجة عندها، هي وحدها فقط،في كل عام تلد خروفاً،تذبحه السيدة يوم عيد الأضحى، هذا العام لم تحبل نعجتها، وهذا أقلقها كثيراً، هل أصبحت عجوزاً هي الأخرى؟ تساءلت، أيكون رحمها قد أفرغ كل خرافه؟ كل عام والنعجة تأتي بوليد واحد فقط، غالبا ما يكون ذكراً، خروفاً، وفي معظم الأحيان تضعه في الأيام الأولي من شهر ذي الحجة، ويظل الوليد معها يكبر حتى يستوي خروفاً عفياً، يلقح أمه، ويكون جاهزاً للذبح يوم العيد، مرة واحدة تأخر وضعها إلي ثاني أيام العيد،في يوم العيد حين أخذ الخروف منها للذبح،ظلت النعجة تصرخ طوال اليوم وصامت عن الأكل والشرب، والسيدة التي خبرت الألم والحزن،قالت يومها: لو أن حياتنا تمر دون أن يقترب الألم أو الحزن منها،يومها ابتهلت للرحمن أن يرحم نعجتها ولا يجعل ولادتها تتأخر إلي بعد يوم العيد .
الآن ها هو آخر خروف تضعه نعجتها العجوز،كيف ستتحمل فراقه في الغد، تساءلت السيدة،ثم أضافت: و العيد القادم، من أين آتي له بخروف،وهي عادة لا يمكن أن أقطعها،هل أبيع نعجتي التي تربت معي وغذتني بلبنها، نعجتي. وقبل أن تسترسل دهمها خاطر: وهل سأكون موجودة في العيد القادم ؟ أم أن عقم نعجتي إشارة، إشارة للرحيل .
بهدوء قامت وخرجت من الزريبة، ما أن خطت خارج الزريبة حتى هاجمها ضجيج قديم، كأنما انبعث فجأة، سمعت الأصوات تتردد بتداخل بأرجاء البيت الوسيع الذي لا تستعمل- الآن- إلا جزءاً قليلا منه،أصوات: والدها، وجدتها فاطمة – التي سميت باسمها – والدتها، إخوتها الرجال، صهيل الخيل في مرابطها ،عراك أمها مع الدجاج والبط والحمام، صوت القهوة فوق راكية النار أمام جدتها،همس الجدة لوالدها، صوتها وهي صغيرة تجري متقافزة بين أرجل الجميع ضحكاتها ورغباتها المجابة: صوتها الصغير يقول: أريد المهرة الآن ؟
مندهشة توقفت، تتلفت حولها، تحاول تبين الركن الذي تنبعث منه الأصوات، تدور حول نفسها، والأصوات تدور حولها: - بعد غد سأجري بها، انتظر قليلا، نهيق حمار، ماء يدلق علي الأرض، أذهب إلي عمك، دعك من هذه الملعونة، نقار بين ذكور البط، صوت ريح خفيفة تمر، أهلا يا مصطفي، القهوة تغلي فوق النار، من يقدر علي منازلتي، خذ القمح وأذهب إلي الطاحون، صوت ارتشاف القهوة، قل لها أن تلم نفسها، رفرفة أجنحة الحمام، مواء قطة، ملابس تخلع، الله يدبر الأحوال، خذ المهرة كي تحميها، نباح كلب، ملعون أبوك، أنت السبب، الريح تحرك جريد النخلة، كيفما أصبحت يا جدة، أخاف علي هذه البنية، هدوم ترتدي، جذع النخلة يتمايل، بخير يا مصطفي
كيف أبوك، هي أخت الرجال، أريد ركوبها الآن ؟
- كم كان العمر وقتها ؟ تساءلت السيدة وهي تدور حول نفسها، لم تستطع أن تخمن المكان الذي تنفجر الأصوات منه؛ لم تكن لديها إجابة حاسمة، أو حتى دقيقة حول مسألة العمر هذه، ربما كانت في بداية طريقها لتصبح فتاة،تذكر-الآن- أن خراط البنات – علي الأقل- كان يغامر كي يزورها ليلا، ليجعل جسدها يستدير، كما تقول جدتها لما تأخذها في حضنها: بالليل عندما تنامين، يأتي خراط البنات، متلصصاً، يرقب إخوتك الرجال، ولما تأخذهم الغفلة، يدخل إليك، تكونين نائمة، يعمل يديه في جسدك،كي يأخذ استدارته ومنحنياته، ويهبك جسداً مختلفاً عن كل النساء .
تبتسم الآن لصوت جدتها التي كانت تنام بجوارها؛ مد الأصوات بدأ يخفت ،حركت رأسها كي تلحق به، دلتها أذنها علي مكمنه الذي يتصاعد منه، من عند النخلة حيث كانت تجلس جدتها، وبجوارها والدها، ويدها تقلب جمر الراكية، تسوي القهوة الصباحية، التي يتناولها الجميع، وبعد أن يفرغوا، كل يتجه إلي عمله الذي يكلف به أثناء تناول القهوة .
تقدمت نحو النخلة، البعيدة،والقائمة في سرة البيت،البيت الكبير، الذي صار خاليا إلا منها.






حين وصلت إلي النخلة، كان التعب قد هدها تماماً، فالمسافة بعيدة، وهي لم تخطها منذ وقت طويل، جلست في الظل مستندة علي جذع النخلة،بالكاد بصرها الضعيف يستطيع تميز باب البيت المفتوح، هي الآن وسط البيت،الذي لا تسكن إلا في الجزء الأمامي منه، بحسبة بسيطة تري أن استخدامها للبيت يتناسب عكسياً مع معدل عمرها، في البداية،حين كانت صغيرة، البيت كله تدوسه بقدمها: من حجرتها مع جدتها، إلي حجرة والدها ووالدتها إلي حجرات إخوتها الرجال، إلي زرائب البهائم والدواجن وأبراج الحمام وإسطبل الخيل و النخلة وحجرات الخزين، ومندرة الضيوف، كل ذلك مباحاً لها في أي لحظة تشاء.
حين كبرت، بدأت في الاستئذان، في البداية حجرة والديها ثم إخوتها، كان كلما يتقدم الزمن ويشتد عودها، تقل الأماكن المباحة لتواجدها في أي وقت كما كان تفعل حين كانت صغيرة، ثم تزوج إخوتها الرجال، وتزوجت هي، وصار البيت أضيق كثيراً، وجاء أولادها، ورحل الجميع وتركوها وحيدة داخل هذا البيت الذي تجلس الآن في سرته، تحت النخلة، ولا تتذكر متي كانت آخر مرة جلست فيها بجوار النخل.
تقول وهي تتنهد: لكل ابن آدم بحر يعبره، وطريق يخطوه. لكن ما تعجب له، وهو ما يحدث لها كثيرا ًفي الآونة الأخيرة: هو هبوب الأصوات حولها دون سابق تمهيد، كأنما ذاكرتها تعاندها، حين تحاول تذكر أشياء بعينها لا تساعدها الذاكرة،بل تتنكر لها، وتتركها في عماء الحيرة والتخبط وتدفع بذكريات أخري، لا تريدها، لتجد روحها مشوشة، مضطربة ، فما يحدث يناقض طريقتها في الحياة ، طوال عمرها وهي تحاول جاهدة أن تملك خياراتها، تملك طرقها التي تخطوها، كما كانت تقبض علي أعنة المهرة حين تجري في السباق،تقول: اللجام في يدي، و بدكة من الركاب بقدمي في بطن المهرة ،أصل إلي نهاية السباق في الوقت الذي أريد، لكن الآن،وذاكرتها تلاعبها وتتركها عرضة للحيرة ،وتذكرها في نفس الوقت بالضعف وقلة الحيلة تجاه الزمن.
تقول: أن ما يقهرني هو الزمن، الزمن ليس إلا، لكني لا أريد الألم، يكفيني ما جربته منه، فقط يا ربي لو تمضي الحياة بلا حزن، بلا ألم، بلا ذاكرة خئون، وزمن قاس لا يرحم، يسم البدن بعلاماته.
مدت يدها تحسس جذع النخلة، النخلة عمة البشر،كما كان تقول جدتها، تحاول أن تقارن الخشونة التي تحسها الآن بكفها والخشونة القديمة، حين كان كفها صغيرا وهي تصعد متسلقة الجذع، وإخوتها الرجال،البعض يشجعها، والآخر ينهرها، وأمها تنظر لها وهي تخطو في وسع البيت، تأمرها بالنزول،لكن الجدة تقول: اتركيها. تهز الأم رأسها وتمضي في طريقها،سألت جدتها: من زرع النخلة؟ قالت :جدي،كان رجلاً مبروكاً. ما الذي يحدث لذاكرتها تحاول لو تمسك بفوارق الزمن والإحساس، لكن بذاكرتها تطفو أشياء بعيدة، تظن أنها قد نسيتها، أو توارت في ظل مشاغل الحياة المتلاحقة، لكن كيف الاطمئنان لذاكرة بمثل هذا الجنون والعبث.
منذ فترة حين بدأت تنتبه لألاعيب ذاكرتها، أولت اهتمامها إلي مثانتها ، فحرصا منها علي طهرها التام وقت الصلاة، ما أن تقف فوق سجادة الصلاة بعد أن تفرغ من وضوئها حتى تسرع بخلع سروالها، فمادامت ذاكرتها تلاعبها، فما يدريها أن مثانتها لا تغافلها، وتنزل ولو نقاط قليلة من البول لا تجد لها أثراً بسروالها، مع تكرار الخلع، صارت عادة،هكذا ضحكت في سرها من الزمن، تقول: علي أن أقوم بتحويل بعض الأفعال إلي عادة ،وإلا تحالف الزمن والذاكرة عليّ.
رفعت يديها بالدعاء: يا رب هبني القوة والقدرة ... وقبل أن تكمل لمحت زوالاً تراءى لها داخلاً من الباب ،ووصل إلي سمعها صوت نسوي ينادي عليها : يا عمـــــة.







- يا حاجة فاطمة .
إنها عزيزة زوجة عيد، جارتها،هي التي دائما تناديها هكذا، تبدأ عند الباب يا عمة ثم ما أن تتخطى عتبة الدار حتى ترفع صوتها للمرة الثانية : يا حاجة فاطمة. وقدمها تبحث عن موضع السيدة، والتي غالباً في الفترة الأخيرة تكون مختفية في أحد أركان الدار الوسيع،قالت لها مرة
بعد أن تعبت من البحث عنها:لا أدرى يا ابنتي ما الذي يدفعني إلى التجول داخل حجرات البيت المهجورة، لكنه هاجس يطن برأسي فجأة لأجد نفسي في واحد من أركان البيت،عما أبحث،لا أعرف.
-أهلا يا عزيزة .
جلست عزيزة بجوارها في ظل النخلة المفروش فوق الحشائش القصيرة النابتة بكثافة وتوحش كأنها تريد السيطرة علي أرضية البيت، فالحشائش بعد أن فردت سلطانها علي الأرض – في مناطق كثيرة منها خاصة الترابية – بدأت التوسع في مملكتها، ومدت ظل سلطانها إلي الحوائط، وبدأت في التسلق والإنبات من خلال الشقوق الكثيرة الناتجة من تصدع الحوائط .
-كل سنة طيبة يا عمة .
-وأنت بخير.
ردت السيدة وهي تداري ارتجاف يدها، وقالت قبل أن تلحظ عزيزة: تقرصني يدي من أول النهار.
وعزيزة التي لحظت الارتجاف، لم يفوتها التلميح، وعلقت بشرود وهي تتابع زوجاً من السحالي يسير متخفياً بين الحشائش: خير، إن شاء الله خير.
وأرادت أن تكمل،غير أنها توقفت لما رأت فأراً صغيراً يطل برأسه من أحد الجحور، فغيرت الموضوع قائلة: أعطني الدقيق يا عمة.
تنهدت العمة وهي تطحن في جوفها سؤالاً يسيطر علي حواسها: لماذا الإصرار علي تذكيري بأننا في يوم الوقفة ؟ وعزيزة التي رأت تلكؤ العمة قالت مشجعة: عادة، وربنا ما يقطعها .







منذ سنوات وعزيزة تأتي في وقفة العيدين: الفطر والأضحى، ويوم ستة وعشرين رجب، وعاشورا، تأخذ الدقيق تخبزه للسيدة؛ كعكاً وقرصاً تقوم العمة بتوزيعها على الأطفال لما يحضروا إليها، خاصة في جلسات ما بعد صلاة العشاء، حيث تقوم بقص بعض الحكايات القديمة لهم، والأطفال يعرفون فيأتون ليأخذوا الكعك ويستمعون إلى الحكايات التي ربما يكونوا قد سمعوها قبل ذلك أو في مرات سابقة، لكنهم في كل مرة يجدون فيها لذة جديدة، تعادل لذة الكعك الذي تحرص العمة على عجنه بالسكر لما كانت قادرة و عفية، وأوصت به عزيزة حين كفت يدها عن العجن والخبيز .
تقول العمة: الأطفال هم أحق بهذا الكعك ، لأن أرواحهم طاهرة. كما أرواح موتاها الذين توزع الكعك صدقة علي أرواحهم بعد وفاتهم، موتاها كما تذكر دائماً: جدتها، والدها، والدتها، إخوتها الثلاثة، الرجال، زوجها، ابنها البكري، والصغير علي، ثم أرواح المسلمين.
أبداً لم تذهب إلى المقابر، لم تقم بزيارة واحدة لها، كانت تودع النعش عند الباب الكبير للبيت، تقول: مع السلامة، وتعود .
عزيزة التي حيرها عدم خروج العمة إلى المقابر مع النساء، ظلت فترة متهيبة أن تسألها، إلى أن تجاسرت مرة وسألت، أجابتها العمة بهدوء بالغ: أرواح الموتى، يا ابنتي، لا تعيش في المقابر، إنما تأتي إلى بيتها الذي اعتادته، أما الجسد، التراب، فيبقى هناك للتراب .
قامت السيدة، وأخرجت الدقيق والسكر وأعطته لعزيزة، وسارت معها حتى الباب الخارجي، ودواجنها حولها، تحت أقدام المرأتين، السيدة تهشها بعكازها، فتبتعد قليلاً، ثم تعاود متابعتها للمرأتين، عند الباب وقبل أن تغادر عزيزة، سألتها العمة: فين الولد عيد ؟
قالت عزيزة وهي تعدل من حمل الدقيق فوق ذراعيها: منذ أن خرج إلى صلاة الفجر لم يعد و …
قاطعتها العمة كي تنهي وقفتها أمام الباب: الغائب معه حجته. وقفلت راجعة وهي تهش دواجنها أمامها.







عيد هذا الذي تسميه ولداً، في حوالي الستين من عمره، في عمر ابنها البكري الراحل، تجمعهما قرابة بعيدة، نشأ في دارها، بين أولادها الذين فرقتهم الدنيا وأخذتهم إلى أطرافها المتباعدة، وهي الآن لا تحمل ضغينة لأي منهم ، فقط في بعض الأحيان يقهرها الهجر والترك، تنزوي في ركن من البيت، بعيداً عن أعين دواجنها ونعجتها، وتأخذ في النهنهة بصوت مكتوم، لكنها أبداً لم تسمح للنسوة اللاتي يأتين للثرثرة معها بذم أطفالها ووصفهم بالعقوق وعدم العطف على والدتهم، كانت تخرس هواجس الكلام بحلوقهن بحزم حين تقول: نحن عبرنا بحورنا، وعليهم الآن أن يسبحوا في بحور حياتهم.
منزل عيد مجاور لمنزلها كما هو الآن، يأتي لها عقب صلاة الفجر يطمئن عليها ويتناول معها قهوة الصباح التي ورثت صناعتها من جدتها، تخبره عما تحتاج، يأتيها مرة ثانية قبل الغروب حاملاً فوق ذراعه بعضاً من البرسيم أو أعواد الذرة، أو الحشائش لنعجتها وخروفها، المرة الثالثة بعد صلاة العشاء وتكون هناك زوجته عزيزة وأطفاله وبعضاً من نساء الجيرة وأطفالهن حيث تمارس السيدة طقوس حكيها المتعدد في الآونة الأخيرة.
بدأ عيد ينتبه إلى أن حكايتها تختلط ببعضها أو تغير منها، في البداية تدخل كي يعدل من الحكايات ويعيد السيدة إلى درب الحكاية الصحيح، يقول: يا عمة، ما كشف قاسم للأربعين حرامي هو عطاسه، وليس لأنه أخرج ريحاً.
ضحكت حتى بان الناب المتبقي في فمها: وأنت يا ولد ما أدراك، أنت صغيرً حتى تعرف أن الخائف لا يعطس، بل يخرج ريحاً عفنة، نتنة، كرائحة كلامك الذي لا تدرك معناه ولا تحسن مخارجه.
ينطلق الحاضرون في ضحك قاس يحرجه؛ فيلم لسانه الجاهز بالرد، لأنه يعرف سلاطة لسانها خاصة ساعة الحكي، وقدرتها العالية على السخرية، حتى من أبطال الحكايات ذاتهم، حتى عندما تخلط وتحكي عن وقائع من حياتها، لا تسلم شخصيتها من الانتقاد اللاذع، لحظتها يطلب من عزيزة زوجته أن تعد الحجر والجوزة كي يدخن، قبل أن تلحق به العمة في الحجر الثاني، لأنها ساعتها تعرف أنها آذته، فتلملم أذيال حكايتها سريعاً، وتذهب للجلوس بجواره، تأخذ منه مبسم الجوزة وهي تقول: زعلت يا ولد.
لا يرد، وعزيزة تقوم تأخذ أطفالها وتتبعها باقي النساء وأطفالهن، ليخلوا المكان والجو لهما، يشربان الحجر الثالث، دون كلمة واحدة، فقط يتبادلان المبسم بود ومعرفة قديمة، وعندما ينتهي، تقول له: تصبح على خير، لا تتأخر على عزيزة، هيا قم .
من يومها ولم يعد يتدخل في حكايتها، لكنه في كل مرة يتنامي داخله الإحساس بأن الحكايات تلعب معها، وتتقافز إلى ذهنها كيف تشاء، وأن قدرة السيدة على إيقاف هذه الألعاب وردعها باتت ضعيفةً، بل إن شكه ازداد في أن تكون العمة عارفة بما يحدث لحكايتها.
جالسة الآن فوق سريرها بصالة البيت، ترقب الضحى الذي بدأ في الإعلان عن نفسه من خلال هبة نسيم دافئة، دواجنها تناومت تحت السرير بجوار قدميها المتدليتين، والراديو ما يزال يصدح بالتلبية الجهيرة المنطلقة من قلوب الحجيج فوق عرفات، قالت: أيام العيد، هي موسم حصادك يا عيد.






إذا كان عيد يفلح القراريط المعدودة التي روثها بالإضافة إلى قراريط السيدة، فهو فنان، خطاط، رسام، نقاش، ورث هذه المهنة عن أبيه الذي ورثها أيضاً عن أبيه الذي ...
يذهب الناس إلى الحج أو العمرة أو يتزوجون، أو يبنون دوراً جديدة، فيذهبون إلى عيد الذي يحضر الجير الأبيض ويخلطه بزهرة زرقاء - يجعلها خفيفة - ويدهن الحوائط المبلطة بالطين، يجعل صبيانه يقومون بهذا العمل، أما هو فدوره قادم بعد أن يجف الجير، يكون قد أعد صفائح الألوان، والأقلام التي يحضرها من جريد النخل، يأخذ الجريدة ويقسمها إلى قطع متساوية، ثم يقشر هذه القطع ليظهر قلب الجريدة الأبيض، بمطواة حادة يبري القلب، أحياناً يجعله كفرشاة، ثم يضعها لمدة ليلة كاملة في ماء مملح، في الصباح التالي تكون جاهزة للاستعمال، يبدأ أولاً بمقدمة البيت، تحديداً فوق الباب، يكتب على الحائط الذي صار لونه أبيض بزرقة خفيفة، بسم الله الرحمن الرحيم، يكتبها بخط يخصه هو، لا يجاريه فيه أحد، ولم تذكره الخطوط العربية وأنواعها المختلفة، كان يعطي الأحرف فخامة وهيبة، تجعلك تحس برعشة إجلال وأنت تنظر إليها، حين سأله أحد طلاب الفنون من أين تأتي بهذه الخطوط ؟ كان يجيب ببساطة واعتياد: والله يا ابني لا أعرف، هكذا أراه مرسوماً داخلي، فأمد يدي لأنفذه.
بعد أن يفرغ من الواجهة التي يكون قد كتب عليها أيضاً اسم صاحب الدار والمناسبة التي تطلى فيها، وكتب على الجوانب بعضاً من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على المناسبة، وأيضاً يا داخل هذا الدار، صلي على النبي المختار، وغيرها من العبارات التي غالباً ما ينوع في الخطوط التي يستخدمها مع كل عبارة، ما أن يفرغ تماماً من الكتابة حتى ينزل من فوق السقالة، يسند ظهره إلى الجدار المقابل يحتسي الشاي مع حجر الجوزة وهو يتأمل خطوطه؛ ويقيس ويحدد بعينيه الأماكن التي سوف يقوم بتنفيذ رسومه فيها، مرة ثانية يعود إلى صفائح ألوانه، وينقل السقالة إلى الأماكن التي حددها، ثم يبدأ بالرسم، حسب طبيعة المناسبة أيضاً لكن هناك رسوم دائماً يكررها، كالخيل المتسابقة، ألعاب التحطيب، بعض النخيل والمراكب والورود.
في الآونة الأخيرة، ظهر بعض المنافسين الذين يقومون بأعمال الدهان والجير والكتابة والرسم بخطوط وألوان رديئة، لكنهم أكثر جرأة منه في تلاوينهم داخل المنازل، خاصة حجر النوم إذا كانت تعد لاستقبال عروسين؛ ثم الأهم من ذلك رخص أسعارهم بالمقارنة معه.
لذا صار عمله موقوفاً على الرسم والكتابة فوق حوائط الذاهبين إلى الحج والعمرة، حيث لا يقدر أن يقارن به أحد، لدرجة أن بعض الحجيج و المعتمرين، يعتبرون أن حجهم أو عمرتهم ناقص إذا لم يقم عيد برسم وتزيين حوائطهم الخارجية.




اجزاء من رواية

خور الجــــــمّال




أحمد أبو خنيجر


(1)





عن الرجال و الحية.




" وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله"
( تكوين 1:3)


حلقة من رجال، حلقة وسطها حية، حلقة يضربها الخوف و القلق و التوتر، يجعلها غير مستوية، منبعجة، كأنما يلفها إعصار، جعل القبضات على العصي و الفئوس مضطربة، متشنجة؛ القلق رهف حركاتهم و صقلها بالحذر المطلوب تحسبا لأي فعل تأتي به الحية، الحية من جانبها تعرف أنها محاصرة برجال يتملكهم حقد دفين، و خوف غريزي يحفزهم لقتلها، كما قتلوا وليفها منذ أيام، يقتلونها قبل أن تطالب بثأرها، و التي خرجت منذ لحظات لأخذه منهم.
همهمات غامضة تنبعث، لا يمكن تبين نبرها بوضوح، أو حتى التكهن بمصدره، كأنما هي أصوات أجساد الرجال المضطربة، أو تموجات جسد الحية، همهمة خافتة، تأخذ سمت الزئير البادي في التشكل، لكن نظرة واحدة ، متبادلة، كانت كفيلة بوأد الزئير ، ليعود همهمة خفيضة لحيوان مغلوب على أمره.
طول الحية أكبر مما تخيلوا،عندما قتلوا الوليف- مصادفة- توقعوا أن يكون طول الوليفة مقارب لطول الثعبان، أو يزيد قليلا عليه، في طول ذراعي الرجل حين يفردهما، هكذا، لكن ما أمامهم الآن، يفوق تصوراتهم بمراحل بعيدة، إذ تلف الحية نصف جسدها حول ذيلها، الذي تكوره تحتها، جاعلة منه قاعدة تقف منتصبة فوقها كوتد، كانت في وقفتها هذه تتخطى أطولهم ارتفاعاً.
باغتتهم الدهشة لما شاهدوها تخرج من جحرها، الطول أربكهم، أوقعهم في التردد، لكن المسألة تخص حياتهم، وجودهم؛ كانوا بعيدين، تركوها تزحف مبتعدة عن كهفها باحثة عنهم، أعطوها الوقت لتطمئن، الثأر هدفها، و الحياة هدفهم.
خمسة رجال و فتي، يحيطون بها، و رجل عجوز و جمل يقفان بعيدا عند شجرة السنط، العجوز و الجمل لم يكونا موجودين حينما قتلوا الثعبان، لذا لما عادا و عرف العجوز بما حدث، صمت طويلا، عقد ذراعيه خلف ظهره و ظل ساكتا حتى قارب النهار على الانتصاف، و ظن الرجال أنه لن ينطق أبدا، لكن عندما أوشكت الشمس على المغيب، راح العجوز ناحية الجمل، و أمسك الرسن و جر الجمل إليه، أحني الجمل رأسه حتى واجهت عيناه عينى العجوز، بقيا هكذا فترة، ثم أدار العجوز للرجال رأسه، و نطق: انتظروا الوليفة.
الوقت ضحي، و شمس الربيع طرية ، هادئة، لتوها تخلصت من قبضة الشتاء، مثل هذا الوقت كان مناسبا للعصافير و القمري و أبو قردان و الفراشات و جراد الأرض كي تمرح في أرجاء الوادي، لكن وهج العداء المتصاعد من قلب الخور أبعد الجميع، الكل انسحب من ساحة القتال، و وقف غير بعيد ، عند حواف الخور الصخرية،يتابع بقلق ما يجري داخل الأرض التي عاشت طويلا بعيدا عن التقاتل، كانت مكانا صالحا للتعايش بين الإنسان و غيره من الكائنات.
الحية بثباتها تقف، حين يحاول أحدهم أن يهاجمها، ترده بسرعة، إذ تمد رأسها نحوه، و هي تصدر فحيحها الذي يصم آذانهم و يدعم خوفهم، تفعل هذا و ترتد سريعا قبل أن يفكر واحد في مهاجمتها من الخلف، تدور عيون الرجال، تلتقي، تتساءل، تحاول معرفة الكيفية التي سينتهي بها هذا الوضع.
جلس العجوز أمام راكية النار، ألقم النار بعضا من الحطب، غيّر الماء الذي بالبراد ثم وضعه فوق اللدايا، تناول الجوزة المسنودة على جذع شجرة السنط، دلق الماء الذي بها، و صب غيره، نظر للجمل المقيد بجواره، وجده يتابع الرجال المحلقين حول الحية، همهم العجوز و هو يضع المعسل فوق الحجر: آه... لو لم نغب.
كان الشتاء يلملم نفسه من هذه الجهة، ذاهبا إلي جهة أخرى، و الأرض تغير ثوبها، تخلع عنها أردية الشتاء الثقيلة، تتنفس قليلا، تتمطى، تحرث، تغمرها شمس الربيع، تدفئ بدنها، لتخرج زروع الربيع كاملة النضار و البهجة؛ الأب خلف المحراث و البقرتين، يشق الأرض، و الفتي قادم من عند الشجرة، يحمل الجرة لأبيه الذي طلب جوفه الارتواء، جراء الإفطار الساخن الذي أعدته الأم، الفتي يضرب قطع الطوب التي أخرجها المحراث بقدميه، تتفتت، و يطير غبار خفيف، يتابعه بتكدر حتى يتلاشى، فاليوم كان الفتي يريد الذهاب مع جده، لكن أباه رفض؛ من بعيد يبدو الجيران لعينيه كزولات، خطوط سوداء مشوهة الملامح، لا يمكن تحديد أصحابها، مع أنه يعرفهم، واحدا واحداً، هذه أرض فلان، و هذا فلان صاحبها، ليس أكثر من هذا، فالخور الذي به أرضهم، معزول عن أراضي البلدة، تمتد مساحة كبيرة من الحجارة البيضاء المفلطحة، كان الفتي يري أن هذه الأحجار هي سبب عزلتهم عن البلدة و أهلها، و جعلهم أغرابا عنها، يسأل أباه و جده، لكن لا أحد يجيبه، جدته الوحيدة التي قالت له: غداً تكبر و تعرف. الكل يتجاهلني.. يظنون أني مازلت صغيراً. يثور و تأخذه نوبة الغضب، فيضرب بقدمه الطوب بعنف و غل ، يتعثر و يختل توازنه، تسقط جرة الماء من علي كتفه، يحاول إنقاذها، لكنه ينكفئ خلفها، ليجد الثعبان أمام عينيه، فيصرخ.
أرتفع الدخان من الراكية، ودوّم حول الرجال، و الفتي كح، الدخان اختلط برائحة عرقهم البارد، و توترهم الملحوظ، و الآخذ في الازدياد، و أيضا اختلط برائحة التحدي الواثقة، و الناشعة من الحية الواقفة وسطهم، كأنها تتشمس، تدفئ ظهرها، تخلصه من الرطوبة التي أصابتها من طول البيات الشتوي، تحتاج هي لهذا الدفء، ليكسبها الليونة و المرونة اللتين تعول عليهما الآن، هكذا تجمد المشهد، الرجال بتوترهم و عصيهم، دون القدرة على المهاجمة، و الحية بتحديها الزاعق الذي يفت من عزمهم، و الحية كأنما أدركت حالتهم، فأوقفت الفحيح و بخ الرذاذ عليهم، و الذي كان الرجال يضطرون معه لتغطية وجوههم بأكمام جلابيبهم العريضة، لأنه- كما يعرف الرجال- إذا طال الرذاذ عيونهم، سيصيبهم العمى؛ هذا الهدوء الذي باتت تنعم به الحية، زاد من خوفهم فهذا الجسد الزاحف، سريع الانزلاق و الغدر، لا يمكن التكهن مطلقا بما سوف يقوم به.
رفع العجوز غطاء البراد، دلق حفنة الشاي ، و أعاد الغطاء، و ترك البراد فوق النار ليغلي الشاي؛ الجمل ما يزال على حاله من متابعة الرجال و الحية، نظر العجوز إلي ابنه و حفيده بين الرجال، قال: لو سمع الكلام... ما كان الآن واقفا هو و بقية الرجال... و الحية تضحك عليهم... لما جئت لهذا المكان... آه .. زمان بعيد. نظر للجمل الذي أدار رأسه ناحيته كأنه يستمع إليه، فأكمل العجوز و هو ينزل البراد من فوق النار: لما نزلنا الخور كان مليئا بالحلفاء و العاقول و أشجار السنط و الخروع و العشر و الحشائش... بدا مكانا مناسبا للإقامة و لإطعامك... أنت معي منذ البداية... تذكر كيف كنا نجد أثوابها القديمة التي تغيرها بين الصخور. تنهد و صب لنفسه كوب شاي، أخذ رشفة بتمهل قبل أن يضيف: زمن طويل مر... نظفنا الأرض و زرعناها و جاء الأولاد و لم يجر بيننا شيء. أشار إلي ابنه بين الرجال، قلت له: الحية تسكن هنا قبلنا، تحرسه، بيني و بينها عهد... لكنه لم يستمع لكلامي، و هاهم الآن يقفون دون قدرة علي الفعل. ركز نظره على الحية التي تتمايل بجسمها، بدت له كأنها ترقص، قال: لماذا تنتظر كل هذا الوقت؟.
- التعبان.
سمع الجيران صرخة الفتي، في البداية لم يتبينوا المعني الكامن فيها، غير أنهم ميزوا جيدا نبرة الفزع و الاستغاثة التي تبطن الصرخة، و كان ذلك كفيل بجرهم ناحية مصدر الصرخة، تركوا أعمالهم و جروا ناحية الصوت القادم من الخور، خور الجمّال، كما يطلقون عليه، عدوا و بأيديهم العصي و الفئوس، جرى كل هذا في لحظات قليلة، لم يتمكنوا خلالها من التوقف ليتساءلوا: ماذا يجرى؟ أهي إحدى الحيل القديمة لجرهم إلي الخور؛ لكن الصرخة التي اخترقتهم كانت تعبر، من وجهة نظرهم، و تجسد الخوف القديم، الكامن فيهم، الخوف الغريزي، ذلك الذي لا يقدر الواحد منهم على مواجهته بمفرده، بل يحتاج إلي آخرين معه، يساندونه، و يقتسموه بينهم.
يعرف الرجال أن الخور، كما حكى الأجداد و الجدات، مرتع خصيب للعفاريت و الحيات، و لا يمكن لشخص أن يعبره بالليل ، أو في أوقات الظهيرة الملتهبة بمفرده، يتذكرون جيدا حكاية فوزي الراعي، الذي كان يرعى أغنامه القليلة بجوار الخور، لم ينتبه الراعي حين سمع صوت أحد خرافه قادما من الخور، كان عليه أن يعد الغنم و يتأكد، هكذا يقولون، قبل أن يندفع إلي قلب الخور متتبعا الصوت المراوغ، و الذي يوحى بأن صاحبه قد أحيط به،لا أحد يدري تماما ما جرى، لكن الراعي بعد أسبوع من الحمى، قال: تقدمت باتجاه الدغل الذي كان الصوت يأتي منه، أزحت الأشجار القصيرة، في البداية لم أر شيئا، حتى الصوت خمد، تلفتت تحسبا لذئب ربما يكون قد خطف الخروف، و بالفعل رأيت كأن عينين تنظران نحوى، قلت: الذئب. لكن العينين تحولتا إلي كرتين من نار و أخذتا في الكبر و الاتساع، حين بدأت في التراجع، انطلقت كرتا النار نحوى. بعد شهر من تلك الواقعة كان فوزي الراعي الذي لم يحسن النطق أبدا، قد مات، جاء الجمّال و نزل الخور، و كما يقضى الواجب، حذروه، و حكوا له كل الحكايات المتعلقة بالخور و أهله، لكنه لم يستمع لنصائحهم و يبقى بعيدا عن الخور، بل أخذ يستصلح أرض الخور و ينظفها تمهيدا لزراعتها، لم يتوقف أمر الجمّال عند هذا الحد ، بل ذهب و تزوج من ابنة الراعي، قالوا مجنون ينتظر مصيره المحتوم، لكن مع تغير أحوال الخور و زراعته، و لعب أولاد الجمّال و أحفاده بين صخوره، بدأ النسيان يزحف على الحكايات القديمة، وإن ظل جزء ضئيل منه رابضا داخلهم، مركوزا بأعماقهم، و الحال هذه، لما سمعوا الصرخة القادمة من الخور، لم يدركوا على الفور أن اللعنة بدأت تحل، إلا بعد أن تورطوا لآذانهم فيها، فها هي الآن تحاصرهم، و تعبث بهم.
أحس الرجال أن وقفتهم قد طالت و التخدل بدأ يحل بأوصالهم، و شمس الظهيرة، على العكس في مثل هذا الوقت من العام، أصبحت قاسية، و تسوط أبدانهم بعنف غير مبرر، عليهم بالتصرف قبل مرور الوقت الذي لن يقدروا على الصمود، بينما على الجانب الأخر كانت الحية المنتصبة كجذع شجرة سنط تستمتع بالوضع، فالتعب ليس باديا عليها، هي في نزهة، تتريض، تعبث بهم، تختبر متانتهم، و قوة عزمهم؛ كان عليهم التحرك لفعل شيء، سرت همهمة بينهم، همهمة ناقصة، تخرج الكلمات مبتورة ، مقطوعة، كأنما الجفاف أصاب حلوقهم: "فت...، الب....، نسا....، ك...، ما...، أخد....".
- التعبان.
الأب لما سمع صرخة ابنه، أفلت المحراث من يده، جري ناحيته و هو يرفع عصا الجريد التي يسوط بها البقرتين، البقرتان وقفتا لما أفلت الأب المحراث، و أدارتا رأسيهما تجاه الفتي المكوم فوق الأرض المحروثة بالأمس، و أمام عينيه يرقد ثعبان ضخم فاردا جسده للشمس، متخذا من أحد خطوط المحراث مكانا للنوم و التخفي و التشمس.
لما وصل الأب كان الابن برعبه قد وقف، تجمد الأب لما رأى حجم الثعبان، الغريزة بداخله دفعته لاختطاف الابن و جره إلي الجسر، فعضة واحدة من فك الثعبان كفيلة بالإرسال للقبر مباشرة، تذكر الأب أنه رأى الثعبان أكثر من مرة، و كيف كان يمرق وسط الزروع غير عابئ بهم، كأنه يتنزه في حدائقه الخاصة، و كان ذلك سببا كافيا لشعوره بالغيظ، ذهب و عاد و معه الحاوي- مستغلا غياب الجد- قال له: الثعبان و الوليفة. كان خوفه المتعاظم من أن يتسببا بأذى لن يطيقوه. طمأنه الحاوي و بدأ يتمتم بالتعاويذ و عهود الرفاعية، و أمام عيونهما جاء الثعبان و وليفته ، وعلى مقربة منهما وقفا، أرتبك الحاوي و تداخلت أقسامه و تهدج صوته، و بدأت الحية تلاعب الثعبان، تهارشه، تنزلق من فوق بدنه، و هو يتصنع عضها تحت فكها الكبير البارز الأنياب، بات واضحا أنهما يتغازلان، غير مهتمين بوجود الأب و الحاوي، الذي كساه عرق غزير، أخيرا قال: لا أقدر... هذا بيتهم، و لا يمكن طرد واحد من بيته. و غادر دون أن يضيف كلمة، فقط كان ينشف وجهه من العرق الذي غسله تماما.
في مرة بينما كان جوار والده رأى الثعبان يمر أمامه، انتابه الذعر و رفع عصاه ليضربه، لكن الوالد أوقفه، قال: هذا الثعبان و وليفته يسكنان الخور قبلنا، نحن ضيوف عليهما، هما حراس المكان، تعويذته، هل آذوك، أو أي واحد منا، كتكوت من فراخ أمك لم يقربا، تذكر يا ولدي أن بيننا و بينهم عهد.
كان الأب و الابن واقفين مذهولين فوق الجسر لما وصل الجيران، و بأيديهم العصي و الفئوس، وجدوا الثعبان ممددا، لم توقظه صرخة الفتي الوجلة، بدون إمهال ارتفعت العصي وعملت فعلها، حدث كل هذا قبل أن ينتبه أحد، لا الثعبان المطمئن في رقدته، و لا الأب الغارق في ذكرى قديمة، لعيل كان نائما ساعة القيلولة بمجرى الماء الرطيب، و صحا فجأة على جسم زلق يمر فوق قدميه ، هب مفزوعا، و الثعبان توقف و نظر إليه ثم واصل سعيه بين الحشائش، و حين انتبه الآن كان الثعبان قد أصبح مزقا صغيرة، و فاحت في الجو رائحة دم مختلطة بلحم به زناخة، لحم أبيض عجن بأديم الأرض فصار داكنا، أراد أن يصرخ، أن يمنعهم، أن يدافع عنه، لكن الوقت تأخر، و الدم المتفجر من جسد الثعبان تناثر عليهم، طال الجميع، و لم يسلم منه أحد: خمسة رجال و فتي. و عندما رجع الجد، العجوز، عصر ذلك اليوم، و علم بما جرى، صبر طويلا، حتى يأسوا من نطقه، لكنه في النهاية قال: انتظروا الوليفة.
وضع العجوز الجمرات فوق المعسل، و شد نفسا طويلا من غابة البوص، حمل الجوزة و سار ناحية الجمل و هو يرمق الرجال بطرف عينه، قال: يومهم طويل.. الحية تلاعبهم.. ثم تضرب. بيده مسح الدم المتقيح من على كفل الجمل، الذي زر جلده و أدار رأسه نحو العجوز، ثم عاد لمتابعة الرجال، تقدم العجوز حتى وقف بمحاذاة رأس الجمل، و أطلق من أنفه و فمه دخانا كثيفا،جعل الجمل يميل برأسه ناحية الدخان و يستنشقه قبل أن يمزقه هواء الظهيرة، قرفص العجوز، و الجمل نزل برأسه نحو الجوزة، مسح العجوز على الخطم الذي يشاغب كي يقبض على غابة البوص، قال: تعرف.. نعم .. أنا و أنت لنا دخل بما يجرى الآن.. لولا غيابنا يوم قتل الثعبان... ربما كنا نستطيع أن نمنع ما يحدث. أغمض الجمل عينيه، و كحت الأرض بخفه، و العجوز أكمل: كان علىّ أن أطيع بنت الراعي لما قالت لا تذهب اليوم... لكن كان علينا أن نعطيك المصل.. التقريح... و الولد .. الفتي أردت أن يذهب بك.. و أبقى أنا.. لكن أبوه رفض.. قال احتاجه.. يساعدني في حرث بقية الأرض... و أنا لم أنتبه للانقباض المتزايد بصدري منذ الفجر.. كان علىّ أن أدرك أن الكارثة على وشك الحدوث.. لم أطيع إحساسي الذي ما خانني في يوم.. كان يجب أن أرفع رأسي.. و أرى الفجيعة... كان علينا أن نبقى.
بان التذمر في حركة الرجال، العصبية صبت جبروتها في حركة أيديهم بالعصي، فثلاث ليال، و ثلاثة نهارات و هم في انتظار الوليفة، ثلاثة أيام من التعب و الترقب، و قلة النوم، كفيلة ببث التوتر و العصبية فيهم، ثلاثة أيام تركوا فيها: بيوتهم و زوجاتهم و عيالهم، و عسكروا هنا، بالخور، ليكونوا متواجدين ساعة ظهور الوليفة، و جاهزين للقضاء عليها، هي التي ستتعرف عليهم، جميعا، و تأخذ الثأر منهم.
يعرفون أن الدم الذي لطخهم من الثعبان، وصمهم، بعلامة لن تنمحي أبدا، مهما حاولوا غسلها أو طمسها، ستظل دائما عالقة بهم، كالقدر الذي لا يمكن الفكاك منه أبدا، القدر الذي حتما سيشد الحية حيث يتواجدون، أينما كانوا، فتوجب عليهم إذن انتظارها، و قتلها، قبل أن ترسلهم للقبر واحدا أثر واحد. يتذكرون صالح العوام و ما حل به بعد أن قتل وليفة لثعبان، رآها تتعارك و سحلية، و بدلا من أن يمر و كأن الأمر لا يعنيه، رفع عصاه و دق بها رأس الحية، حذره الناس من المرور بنفس المكان، و هو استجاب للوصايا، لكن بعد مرور أسبوع على الواقعة، و هو عائد إلي بيته في الظهيرة، و جد الثعبان ينتظره على عتبة البيت، بان واضحا إن الثعبان يقصد شرا، و بالفعل بدأ يهاجم العوام، و الظهيرة ملتهبة و لا أحد بالشوارع كي يعينه،و لما أعياه الدفاع و عدم تراجع الثعبان، جرى بعزم ما فيه، و الثعبان خلفه، فكر بأن ملابسه تحمل رائحة دم الوليفة، أخذ في خلعها حتى صار عاريا، و الثعبان يتلوى خلفه بأقصى ما يستطيع، مضيقا المسافة بينه و بين العوام، أخيرا كان العوام قد وصل إلي حافة النهر، فرمى نفسه في الماء، و أخذ يسبح بسرعته التي لا يجاريه فيها أحد، هكذا ظن أن الثعبان سينهزم و يتراجع، لكنها مسافة قصيرة، صرخ بعدها العوام، و لم يمض عليه وقت طويل حتى مات، و الثعبان أختفي بعد الواقعة تماما حيث فشلت كل التجريدات المتحمسة في البحث عنه و قتله في العثور عليه.
نعم يتذكرون، لكن الآن يدركون أن لعنة الخور أوقعتهم في حبائلها، هم بالدرجة الأولي قبل أن يكون أهل الخور، ما كان عليهم أن يفزعوا حين سمعوا الصرخة، التروي القليل كان سيبصرهم بحقيقة الصرخة، إنها تحذير لهم: ابقوا بعيدا، كما حالكم دائما. أهل الخور أولي بمصائبه، يتحمل الأب و فتاه جرائر الخطيئة، أو يكفروا عنها بطرقهم الغامضة، ما دخلنا نحن، ما ذنبنا، أهي الغريزية التي جرتنا، و ها نحن الآن ندفع ثمن اندفاعنا، و عدم تمهلنا و إنصاتنا للحكايات القديمة، الحكايات الراسخة داخلنا، أهذا خطأنا، أتلك هي اللعنة، قدومنا و تدخلنا هو اللعنة، لم يوقظنا الخوف القديم إلا حين وجدنا أنفسنا عالقين بالكارثة المجسدة الآن أمامنا، هذه الحية الهائلة التي تتناوم واقفة أمام أعيننا. صرخ واحد منهم: علينا أن نهاجمها جميعا.. في نفس الوقت.. و نضربها ضربة واحدة لرجل واحد.
الفتي الوحيد بينهم يدرك على نحو غامض: أن الحية ستبدأ به . فقد كان بمكنته التمهل لما رأى الثعبان أمام أنفه، ليدرك أنه نائم، يتشمس، يفرد ظهره لشمس الربيع كي تخلصه من رطوبة البيات الشتوي الطويل، كان عليه أن يتصرف كرجل راشد، كما أخبرته جدته، و لا يطلق صرخته التي جرت خلفها كل هذه التداعيات، نعم هو في البداية، هكذا يوقن، ثم الرجال، لا يعرف من، ربما الذي سدد الضربة الأولي ثم الذي يليه، و هكذا حتى تختتم بأبيه، لأنه، أيضا، كان في استطاعته منع الرجال من قتل الثعبان و طردهم بعيدا عن أرض الخور، فقط لو أفاق من ذكرياته في تلك اللحظة، أم أنه في داخله كان يتمنى قتل الثعبان؟.
حين جاء الرجال و أقاموا بالخور، لم يفهم الفتي، و هو الذي اعتاد على بقائهم بعيدا، حيث لم يشاهد من قبل قدم وطأت أرض الخور، سأل جده، الذي أجابه: ليدافعوا عن حياتهم. و صمت الجد،ثم تنهد قبل أن يكمل: غرباء ... و الكارثة تحط أينما حلوا. اعترض الفتي: ليسوا غرباء يا جدي.. جيراننا... ولهم صلة قرابة. و أشار إلي جدته بنت الراعي. قاطعه الجد، أنت لا تفهم.. هم غرباء عن هذه الأرض... عن طينها.. عن سكانها. و بعناد تحجج الفتي: جاءوا على صرختي... أسرعوا لإنقاذي. كان الفتي متذمرا، ربت الجد عليه و هو يضحك: و الآن ينقذون أنفسهم.. و غدا تأتي البلدة كلها لتطالب بثأر هؤلاء.
فكر الفتي بأن صرخته هي ما يحتاجه الجيران، كذريعة لدخول أرض الخور و الإقامة فيه، حتى لو كان مقابل ذلك حياتهم، يذهبون في طريق الرغبة إلي أقصى مدى، ما الذي يغريهم الآن في الخور، كان دائما تحت أعينهم، دون أن تساورهم الرغبة في القدوم، أمن اجل أرضه شديدة الخصوبة، كما يعلق والده، أم لأن جده الجمال غريب عن البلدة، كما قالت له جدته لما كان صغيرا و رأسه فوق فخذها، أسئلة كثيرة تجوب عقل الفتي دون إجابات شافية، يؤمن بوجود سر لا يدركه، و لم يبح به أحد من قبل.
- و العمل يا جدي؟.
- علينا أن نتحمل.. وحدي سأحمل وزر الخيانة.. لكن أولا يجب قتل الحية لتقليل حجم الكارثة.
رأى الفتي الرجال يوزعون أنفسهم في مواجهة الحجر الكبير الذي يشرف على بطن الخور ، و الذي تحته يمتد جحر الحية؛ و ينتشرون محاذرين أن يقعوا في اتجاه الريح، كي لا ينقل رائحتهم للجحر، يجب أن يظل كل شيء هادئا ، كما هو حاله دائما، حتى تخرج الحية من كهفها، و هنا يأتي دور الإشارة، إشارة عادية لا تلحظ، لا تلفت انتباه الحية، كهز العمامة بطريقة خاصة، أو التلويح بكم الجلباب العريض؛ ثم البقاء دون حركة، حتى تبتعد الحية عن بيتها، ليتمكنوا من مداهمتها و صرعها قبل أن ترتد إلي جحرها، لأنه لو حدث، ففي المرات القادمة ستكون الحية أشد حذرا، و بالتأكيد ستغير طريق خروجها، و لن يعلموا أبدا من أين ستهاجم، فالحركة الزاحفة لا يمكن سمع وقعها بين الحشائش.
ثلاثة أيام و الفتي يراقب الجيران عن قرب، يعاين تصرفهم، أفعالهم ، طريقة نطقهم للكلام ، خطواتهم، أقدامهم التي تدوس على الأرض بعنف غير مبرر، غير عابئة بالنبت الصغير تحتها، و لا رقاب النبات الكبير التي تتقصف دون رحمة؛ شعور بالعداء أخد في النمو داخله، لا يدري إن كان من جراء ذلك، أم من طريقة مضغهم للطعام الذي تحضره جدته، أم شربهم لجوزة الجد و سجائر الأب؛ أهي رائحتهم، رائحة عرقهم التي لحظ الفتي أنها تكاد تكون واحدة، لكنها مختلفة عن رائحة عرق جده و أبيه، و أيضا رائحة عرقه هو؛ ألأنهم رجال و هو بعد يحاول أن يداري ترمستى الصدر اللتان تؤلمانه، و تجعل جسده سخنا متوترا.
لحظة بعد لحظة و شعوره بأنهم غرباء يتعاظم بداخله، و بأن حائلا يوجد بينه و بينهم،أيكون ذلك بسبب إيحاءات الجد، أم هذه طريقة تصرف الرجال حين يواجهون الموت.
بعد ثلاثة أيام من الجهد و الإرهاق و عدم القدرة علي مهاجمة الحية، أو حتى التراجع من أمامها، فالتراجع كفيل بتشتيتهم جميعا، و هو ما تطمح إليه الحية، في التراجع تكمن فرصتها للأخذ بالثأر، على الأقل ستتمكن من أخذ واحد منهم، و طالما بدأت فلن تتوقف، لذا عندما صرخ أحد الرجال: لنهاجمها. ارتفعت العصي و الفئوس و تقدمت هادرة بالغضب و قوة الحمية تجاه الحية.
ركن العجوز الجوزة على الأرض و وقف، لما سمع الهمهمة تعلو و تبين، و معها أخذت الحلقة تضيق حول الحية، و أشرعت الفئوس و العصي؛ الجمل قبض على غابة البوص بمشفريه للحظات، ثم تركها و هو يطلق منهما دخانا غزيرا، و تقدم حتى أصبح رأسه محاذيا لرأس العجوز، و أخذ في المتابعة، تمتم العجوز بصوت خفيض: ربنا يستر.
أحست الحية بالحركة حولها، هزت ذنبها الدقيق، فارتبكت الحلقة قليلا، لكنها واصلت التقدم، فحت الحية، و أطلقت رذاذا كثيفا عليهم، دارى الرجال وجوههم بأكمامهم و واصلوا التقدم، الآن فقط يرون ثأرهم القديم متحققا أمام عيونهم، يقف في مواجهتهم، و عليهم الانتقام ، بالفتك و المداهمة و القتل، فحية كهذه، أو لعلها هي، أو حفيدتها على الأقل، كانت قد خدعت أمهم الأولي، وسوست لها، و أخرجتهم من النعيم إلي دنيا الشقاء و الفناء هذه، و سطرت فوق جباههم الموت الذي سوف يحصدهم في يوم معلوم؛ ما كان على آدم أن يأمن لحشرة كهذه، و يستجيب لحواء لما قالت له: دعها تؤنس وحدتي. ما كان عليه أن يسمع لها، كان عليه أن يطردها بعيدان أو يدهسها بقدمه، أو يخبر الرب الإله، لكنها الغفلة و سلام النية التي ألقت به إلي قلب هذا الأتون الهادر و لا خلاص منه إلا بالموت، الآن عليهم أن يصححوا الخطأ القديم، و يسحقون الحية التي تخرج لسانها المشقوق، و تدير رقبتها في كل اتجاه، الآن يدركون أنها خائفة، ما هي إلا مجرد حشرة، حشرة حقيرة، لا تستأهل كل هذا الخوف و الحذر، فقط تحتاج إلي تأجج الضغينة و الإصغاء لنفثها داخل صدورهم، لتكسبهم قوة فوق قدرتهم، و الحية في نظرهم دويبة، عليهم دهسها تحت نعالهم، و هم يمرون في دروب الحياة المتقاطعة، و هم بقتلها يصيرون رجالا، لا يهابون شيئا، رجالا استطاعوا أخيرا أخذ ثأرهم القديم، الثأر الكامن في أحلامهم، تقدموا نحو الحية و عزيمتهم آخذة في الارتفاع.
- توقف.... عندك....توقف.
اشرأبت الرقاب جميعا تجاه الصوت الآمر، القوي، و سكن كل متحرك، و حركة الرجال تراجعت، و عاد الخوف ليضربهم بضراوة و وحشية، و بدت الحياة أمامهم شديدة القسوة و صعبة المنال، و غير عادلة، و تسيطر عليها غرابة لا يمكن فهمها و لا تصورها.
اندفع الرجل، صاحب الصوت، مباشرة إلي الحلقة، اقتحمها، جاريا نحو الحية، التي تراجعت قليلا في البداية، لكنها ارتمت عليه، أو ربما هو الذي أخذها في حضنه. ما سوف يتذكره الجميع، أن الرجل كان نحيفا، بالكاد طوله يصل إلى طول الحية لما كانت منتصبة بنصف جسدها كجذع شجرة سنط، سيتذكرون كيف أنه تلقى رأسها فوق كتفه، و كيف أحاطت برقبته، و كيف انحني يلملم بقية جسدها من الأرض، و هي تساعده، ترفع بدنها في يده، تلتف حول كتفيه، صدره، ظهره، يتكور الجسد في حجره.
يلتفت نحوهم، و هم لن يستطيعوا تذكر عينيه، حيث كان يغمضهما، بدا كأعمى، أو مجذوب ضربه الوصال في قلب حضرة طاهرة. كان يلملم جسدها، حتى لم يعد باديا جسده من تحتها، إلا ساقيه الرفيعتين، تقدم و سار ، و هو يكاد ينكفئ، لولا الحية التي استخدمت ذنبها كعصا تساعده على الاستناد، و تمنعه من الانكفاء.
ظلوا يتتبعونه وسط ذهولهم، و عدم قدرتهم على التصديق، و لا على الحركة، أو حتى الكلام، حتى غاب عن أعينهم في الجبل الذي يظلل الخور، و الشمس راحت تغرب خلفه، و ظلام خفيف بدأ ينتشر.