بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 29 مارس 2011

الثلاثاء 22 مارس 2011م. نقد الدكتورة نجوى الرياحي



دراسات فى القصة القصيرة

أ.د. نجوى الرياحى القسنطينى

كانت القصة القصيرة وما تزال محل بحث ومساءلة في المشهد النقدي العربي الحديث. فبعض الباحثين في أصولها ونشأتها اعتبروا أنّ تولدها عند العرب من المقامة،لم يمنع عناية الغرب بها إبداعا وتحليلا وأنَّ السبب في بداية تشكلها عند العرب على صورتها المعروفة اليوم هو الاحتكاك بالثقافة الغربية والترجمات عنها في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.وقد نسب البعض الريادة في القصة القصيرة إلى محمد تيمور بكتابته قصة "في القطار"سنة 1917 في حين اعتبر آخرون نص "سنتها الجديدة "المنشور سنة 1914 لميخائيل نعيمة القصة الأولى في الساحة الإبداعية.

ولم يمنع تراكم الكتابات القصصية بعد ذلك واتسامها بمواصفات نوعية وفنية صعوبة تحديد جنس القصة القصيرة وضبط حدودها .وهي صعوبة مردها الاختلاف في معايير تحديد القصة القصيرة وتوصيفها من جهة، والاختلاف في الموقف من نمط في الكتابة متولد منها هو القصة القصيرة جدا من جهة أخرى .

ويمكن بالنظر في ما اختص من دراسات بالبحث في أجناسية القصة القصيرة ،تبينُ التأرجح في تعريفها بين المعيار الزمني المحدد لما تستغرقه قراءتها من مدة ،والمعيار الوظائفي الموصول بشكل المادة القصصية وجماليتها الفنية.كما يمكن تبين كثرة الجدل حول القصة القصيرة جدا من جهة علاقتها بالقصة القصيرة إن تبعية أو موازاة ،ومن جهة المبنى فيها والنسيج القصصي والصياغة الفنية.وقد اتَّضح من ذلك أن القصة القصيرة عامة ما تزال على تراكم نصوصها واختلاف اتجاهاتها وتنوع طرائقها وأساليبها ،محل نظر. كما اتَّضح أن القصة القصيرة جدا على تأكد ظهورها منذ سبعينات القرن الماضي وتأكدها في تسعيناته ظاهرة أدبية ذات سمات فنية ،ما تزال محل مجادلة وتشكيك.وهو ما يفسر نزعة دراساتها عامة ،إلى البحث في المسائل والقضايا النظرية خاصَّة.

ومن رأينا أن القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا منجزان إبداعيان مشروطان في الأساس ،بأشكال القص وطبيعة الإخبارعن المعنى وأنساق البناء.من ثمة ضرورة التركيز في دراستهما،على استكشاف سمات فرادتهما مقارنة بفنون ابداعية أخرى بنية وآلية في التعبير وفي تشكيل الحكاية وصياغة الفكرة عبرها .

وهو ما سنسعى إلى إنجازه في عملنا هذا ،عبر محاورة نصوص قصصية مصرية ستة من حيث بنياتها الحكائية والتخييلية والتعبيرية والدلالية ،مركزين خاصة على ما يبدو من هذه البنيات الثلاث الأبرز في تلك النصوص، متأبين –اختيارا لا اضطرارا-على دوغمائية المناهج وصرامة التقعيد اعتقادا منا بضرورة أن ينطق النص الإبداعي عبر النص النقدي عن علاماته الفارقة موجبة كانت هذه أو سالبة .


محمد العبادي

اللون الطويل لأصدقاء السوق

يمكن الاستدلال على ما عرفت القصة القصيرة من تطور في آليات القص وتقنياته،بمظاهر كشفت عن مرونة القصة القصيرة بصفتها شكلا فنيا يعبث من جهة بمواصفات الكتابة التقليدية ويُداخل بين فنون من القول ويتسع من جهة أخرى على صغر مساحته لأعمق الأسئلة الذهنية والفلسفية من دون أن يخرج عن شروط جنسه .

والقصة القصيرة التي اختار لها محمد العبادي عنوان اللون الطويل لأصدقاء السوق،من هذا الصنف .وهي أقصوصة من ثلاث صفحات ونصف تلفت الانتباه ببنيتها المقطعية أساسا .وتقود زمامَ قراءتها ومنطلًقَ تحليلها سمة التشظي والتقطيع المحتكم إليهما نص الأقصوصة نظاما وتخييلا وفكرة.

فوحدات هذا النص القصصي الراسمة افتراضا لبرنامجه السردي بصفته قصة،سبع لا تستقر - باستثناء الوحدتين الثالثة والرابعة فحسب - على فكرة واحدة ومعنى واحد

فالوحدة الأولى أولها جملة مقتبسة من دليل استخدام غسالة الملابس الأوتوماتيكية. ووسطها عن موت أحمد إبراهيم مصطفى مدهوسا تحت حوافرحيوانات الماموث. وآخرها جملة مقتضبة مقتطعة من خطاب قيل في تأبينه.

الوحدة الثانية أولها تعداد صريح لخمس من ركاب الميكروباص. وآخرها خطاب يوجهه الراوي الى حبيبته في شكل سؤال عن المجاري تحت أقدامهما إذا سارا معا.

الوحدة الثالثة عن حيوانات الماموث تجري في شوارع المدينة هائجة مرتعبة.

الوحدة الرابعة عودة إلى التعداد الصريح لركاب الميكروباص.

الوحدة الخامسة أولها خطاب آخر من الراوي إلى حبيبته عن كعب حذائها العالي وكيف يصيبه بالصداع. وآخرها عن جثة تطير وتدخل ماكينة الطبع فيُطبع عليها ويأكلها الناس "مع ما يأكلون من ورق الجرائد ".

الوحدة السادسة أولها خطاب الراوي إلى الحبيبة موضوعه الشعور بالاكتفاء والانتماء والذاتية والاكتمال وكذلك الشعور بالتردي والانتفاء واليأس والتلهي في الآن نفسه. وآخرها تعداد لباقي ركاب الميكروباص.

الوحدة السابعة خطاب مبتور الى الحبيبة يذكر الراوي أنه نسي ما أراد أن يقول فيه.

ويمكن للباحث عن منطق لمسار القصة المحكية ، تبين قيامها بالنظر إلى جزئية الوقائع الصغرى المتراكمة المكونة لمحتوى الوحدات ،على ثنائيات متجادلة وإن تشاكلت بعض وحدات الخطاب وتخالفت أخرى.الأمر الذي يشيرمنذ البدء الى خصوصية في العالم الإبداعي المرصود من قبل القاص محمد العبادي ،مفادها تمرُد هذا العالم على الحصر ضمن أطر ثابتة.

فبعض المشاهد المنقولة عبر الوحدات، نقل لتفاصيل اليومي ومعطيات الحياة{رجل ينتظر الميكروباص- ركاب في الميكروباص لكل منهم صفته – خطاب يتوجه به الراوي الى حبيبته}.وبعضها الآخرخروج عن معطيات الواقع وحدوده {حيوانات الماموث الضخمة تجول في الشوارع –جثة الرجل تستحيل ورق جريدة فيأكلها الناس ضمن ما يأكلون من جرائد}. بحيث تتداخل في إطار المشاهد والوحدات النصية نفسها ،معطيات تُحيل على المرجع الواقعي ومعطيات تخرج عنه فتجتازعلى غرابتها إذ لا ينزع الراوي في نقلها نزعة شك أو ارتياب ، مجال العجائبي الى مجال الإمكان والمألوف. وهو ما يحصل وفق قصدية واعية من القاص تجعله يعمد عبر المداخلة بين الواقعي واللاواقعي بنية وصورة ولفظا ،الى إخماد ريبة القارئ وإخماد تساؤله حول ما يجمع بين الواقع وضديده في فضاء واحد هو فضاء اللحظة أو اللحظات المنتقاة من الحياة موضوعا للقصة. فكأنَّ القاص يقترح على قارئه ملامح عالم لا يضطرب فيه الواقع واللاواقع أو إنَّ الواحد منهما وجه للآخر.

وندرك من ذلك أن ليس الموضوع ولا العالم القصصي مناط السرد في نص العبادي هذا ، بل الحركة المعتملة ضمنه وفق خيال القاص وفكرته .من ثمة إمكان الإقرار منذ الآن بأن فضاء القصة ونسقها خلاصة فكرة لدى القاص منتقاة منه للتأثير في القارئ.وهو ما يوجهنا وجهة البناء والصياغة في هذه القصة.

والبناء والصياغة عنصران اتصلا في القصة القصيرة عامة وفي شكلها التقليدي خاصة ،بتراتبية حدثية وزمنية جوهرها وحدة عضوية متكاملة مفتتحُها بداية تليها عقدة تحتدُّ عبرها لحظة توتر أودراما نفسية أو مادية يؤول بعدها الحدث إلى نهاية أو قفلة تتضح فيها لحظة الكشف عن المعنى ويتجلَّى المقصد منه .بحيث تُشابه القصة القصيرة على ضيق مساحتها ،فضاء يتسع لتنام في الحدث وتعقد في الدراما وتطور في الفكرة والمعنى .

وقصة العبادي هذه مشروطة لانتمائها الى الجنس ومعاييره بمثل ذلك. لذلك هي تفي به فعلا، ولكن في مرونة كبرى توسع من حدود الجنس وآفاق التخييل فيه. فليس في قصة العبادي حدث واحد ولا شخصية واحدة بل جملة من الأحداث والشخصيات المختلفة. كذلك تتعدد في هذه القصة الأطر المكانية والزمنية .وتتوزع أنسجة اللغة فيها بين التقريري الموضوعي والذاتي وينحو السرد منحى الشهادة مرة والغنائية أخرى.وهي سمات لئن نبهنا الجمعُ بينها في قصة العبادي الى شدة عنايته بالتكثيف سمة في الكتابة والصياغة تتسع بها القصة على قصرها لمكونات عدة، فإنه يوجه الذهن إلى أسئلة على جانب من الأهمية لصلتها بمقومات القصة القصيرة وشروطها .نذكر من هذه الأسئلة:

هل في قصة العبادي وحدة في الموضوع وفيما يُستشف عبره من موقف وانطباع ؟هل فيها حكاية و عضوية في البناء والمكونات ؟ما عصب الحكاية وما مقوماتها وما مجراها وما مربض توترها في قصة العبادي؟وهل ترشح هذه القصة دلالة أم تُناط بالقفلة فيها كما هو الأمر في عادة القصص القصيرة ،مهمة تجلية المعنى والكشف عن المغزى؟

ولا يخفى أنًّ الجزم بخلو قصة العبادي أو أية قصة أخرى من هذه العناصر، يعني خروجها عن ضوابط الجنس بل وتحولها إلى ضرب من الهذر اللغوي الأحوج ليستقيم معناه إلى أن يكوّن جزءا من نص أكبر.وهو ما يفسر أن مكونات عضويًّة وخصائص فنية معدودة من قبيل الضوابط، ظلت في كتابات قصصية كثيرة وكذلك في دراسات نقدية معنية بتلك القصص أشبه بأوتاد لا يُحاد عنها.

على أن كتَّابا للقصة ممن خاضوا مغامرة التجريب عوَّلوا في التحول بالقصة عن أشكالها التقليدية ،على المهارة في بنائها والتقنية في تركيبها أساسا خروجا منهم عن نسق في البناء القصصي مألوف وإعلاء لتقنية في الإضمار والحذف تحفزالقارئ على سدّ الثغرات وملء الفراغات ولتقنية في المقابلة والمعارضة تعمي المسالك إلى المعنى وتُعدَد من احتمالاته.

ولعل قصة العبادي لون طويل لأصدقاء السوق من هذا الصنف . وفيها نقف على ترسيمة جوهرها الجدل بين ثنائيات متقابلة محورها الحركة والسكون والفاعلية والمفعولية والداخل والخارج . فأحمد ابراهيم مصطفى يقف ساكنا فيُداس ، والركاب وهم جماعة يُشار إليهم بالأرقام جالسون ساكنون في الميكروباص ، والجثة الطائرة تُؤكل بعد تحولها الى ورق .أما حيوان الماموث فصنو للحركة والاضطراب والفعل في حين يجمع الراوي عبر خطابه إلى حبيبته متسائلا معبرا عن مشاعره ،بين وضعي الفاعلية والمفعولية .

ويمكن من ثمة إجمال المقاطع السبعة المؤسسة لنص القصة في هذه الأوضاع الثلاثة :

سكون ومفعولية وعجز يسم الركاب وأحمد مصطفى وجثَّته ،من ثمة جعل الأوَّلين شخصيات غفلة نكرة مصمتة عن العبارة وممسكة عن الفعل ووصل الثانين بالموت المادي.

حركة وفاعلية موصولة بقوة عمياءهي قوة الماموث المسقطة من عهد غابر لا قوة للانسان عليها.

تأرجح بين الفاعلية والمفعولية، من ثمة وقوف الراوي مرَّة عند رصد ما يرى من موت وسكون ومجار مائية تملأ الشوارع فلا قدرة له على التصدي لشيء ،وهروبه مرة أخرى من ذلك إلى عالم الحبيبة وتصريحه ثالثة باعتمال الفوارق والمتناقضات فيه اكتفاء وانتماء وذاتية واكتمالا وترديا وانتفاء ويأسا وتلهيا.

وندرك من قراءتنا النص القصصي أن لا تميز لحالة أو وضع من تلك الأوضاع أو الحالات الثلاث.فكلها عصب للنص تعددا وتلونا وازدواجا في المشاهد والأدوار وتوازيا بين الوجه وضديده .وربما كان السؤال حول ما يُفترض أن يكون من تفاعل بين مجموع الثنائيات ،الجديرأكثر بالطرح ، باعتبارالتفاعل عنصر التوحد ومكمن الوشيجة بينها وباعتباره المظهر المخبر عن منطقة التوتر في النص الدافع الى مجرى الحركة فيه الكاشف عن الفكرة المحور في القصة.

والقصة ولا شك ملفوفة بالغموض من هذه الزاوية لا يُعرّي ظاهرها عن باطنها صراحة .لذلك يعسر تحديد موضوعها بدقَّة ويعسُر تبين المقصود من عنوانها لون طويل لأصدقاء السوق بسبب من إضافة سمة الطول إلى اللون على اختلاف طبيعتيهما ونسبة كليهما الى من يسميهم القاص أصدقاء السوق ممن لا يرد عنهم ذكر ثنايا النص علاوة على افتتاح القصة بجملة من دليل استخدام غسالة الملابس الأوتوماتيكية لا أثر لها في سياق النص. ومثل ذلك يُقرّ القصة وقد تلبست وهي في إهابها السردي سمة مسرحية تتعدد فيها الضمائر والمقاطع ،على التشظية والنقلة من عنصر الى آخر دون نظام .وهي سمة في القص كانت الى عهد غير بعيد نافية لمقوم أساسي من مقومات القصة القصيرة هو وحدة الانطباع التي يساق عبرها القارئ عبربنية حدثية عمودية وتصاعد في الموقف إلى انفعال مّا وموقف مَّا.

فإذا تأملنا نسيج القصة اللغوي والمعنوي ،تبينا علاقات ثلاث خفية بين الوحدات أو المقاطع يُعول في استنباطها واستكشاف دلالاتهاعلى جهد القارئ أساسا .هذه العلاقات هي:

التدرُج من موت الرجل الذي كان ينتظر الميكروباص مدهوسا {أول المقطع الأول } إلى طيران جثته وقد صارت صفحة من جريدة إلى أكل الناس إياها {المقطع الخامس}.

الموازاة بين وقوع الرجل وهو ينتظر الميكروباص فريسة للموت{المقطع الأول}وموت ركاب الميكروباص المشار إليهم بالأرقام موتا معنويا {المقطع الثاني والرابع}.

المفارقة بين الخارج تُجسّده مشاهد بانورمية ينقلها الراوي في حياد ولامبالاة {مشهد الموت،ملامح الركاب ،حركة الماموث} وتدُل على الموت والفوضى والتشتت، والداخل يُجسده ما يعتمل في ذهن الراوي ووجدانه من مشاعر وحيرة وسؤال.

ووحدات القصة والوقائع فيها والأوضاع بسبب من هذه العلاقات الثلاث، لا تترابط على أساس التعاقب والسببية بل على أساس دلالي يفتح باب الاحتمال والتأويل .وهو ما يُتيح لنا أن نقرأ النص القصصي قراءة استكشاف واستنباط ننظر عبرها للشخصيات والوقائع بصفتها رموزا وعلامات على واقع عبثي وكابوسي وملتبس يُترجم عنه أمران: أولهما ما يخترق تفاصيل اليومي من بؤس وفوضى صورتهما الموت المجاني والمقنع وثانيهما ما يخترق ذهن الراوي من استيهامات يُترجم عنها التباس أمرالحبيبة عليه وهي ملاذه فيرى عيونها خضراء مرة عسلية أخرى صفراء مرة ثالثة ملونة مرة رابعة ويُترجم عنها سؤاله"لكن هل ..هل؟.. وإشكال الكلام عليه "نسيت كنت عاوز أقول إيه".

وبهذا التصور يكتسب استهلال القصة باقتباس من دليل استخدام آلة غسل الثياب الأوتوماتيكية أهميته من جهة الرمز إلى آلة الواقع الصماء وما يُوطَّن عليه الإنسان بفعلها من استكانة ومفعولية. وهو ما يعكسه دهس أحمد ابراهيم مصطفى ونشر جثته في المطبعة كما تُنشر الثياب.

وأن تُستهل القصة بهذه الجملة التي تختزل مقصد النص ومنتهى الصياغة والبناء فيه، إشارة إلى أن كلا من مركز الثقل ومكمن الفكرة ولحظة التنوير، موصول ببداية القصة وليس بنهايتها .وهو منطق مخالف لما بُنيت عليه القصة القصيرة في شكلها التقليدي مترجم عن حرص من قبل القاص على اختراق المألوف منحى منه في التجريب يجعله يُلوّح للقارئ بالمعنى في أول القصة ولا يُدركه القارئ إلا بعد أن يُوغل عبر ما يختزن نسيج النص من مهارة في التركيب والتعبير والصياغة.


محمد الدخاخني

غرفة النوم

غرفة النوم قصة قصيرة من صفحات أربع استهلها صاحبها محمد الدخاخني بمقطع وجيز يُؤطر للقصة ومنه تنبثق هذه بين ظاهر يُعلن وباطن أسه الحذف والتعليق .ذلك أن قصة غرفة النوم، اُستُهلت بتعريف للإطار المكاني وهوالغرفة في الطابق الثالث من شارع الرصافة ،والزماني وهو الخامسة صباحا تاريخ كتابة القصة والصباح تاريخ وقوعها .واُستهلت كذلك بما يُمكن اعتباره مناسبة من ضربين تبرر الحكاية المروية أولها مقابلة بين رغبة الراوي في النوم مبكرا وعدم تمكنه من ذلك وثانيها إشارة إلى نافذة في غرفة الراوي يُشرف منها على جيرانه في الشارع .

ولهذه النافذة التي يشير إليها الراوي ،أهمية في القصة باعتبارها الحيز الفاصل الواصل ،أولا بين غرفة نوم الراوي والشخصيات الرسمية التي يراها في حيّه تخرج من باب القصر أو البيت الفاخر وتركب عربة الحنطور أو تنزل منها لأمر مَّا {الخديوي سعيد باشا –قرينته إنجي هانم-عرفان باشا-عمر طوسون باشا- الأميرة فايزة }.

وثانيا بين الراهن تُجسده وقائع ومؤشرات زمانية مألوفة يعيشها الراوي ،والماضي يُجسده وعي استرجاعي لوقائع من التاريخ ومؤشرات زمانية عليها .

وفي اعتقادنا أن خصوصية قصة غرفة النوم لصاحبها محمد الدخاخني تكمن فعلا في القدرة على جعل النافذة ومنها غرفة النوم ، وهما إطاران محددان ،فاتحة على كثرة في الوقائع والمعطيات تتسع بها آفاق الأقصوصة فتفيض هذه على قصرها عن حدود الراهن من دون أن تفصل معه ،لتنفتح على ماض تاريخي بعيد وبالتالي على جماع من المعاني والدلالات .وهوما يفسر عنونة القصة بغرفة النوم وجعلها متسعا للتفصيل في أمر الغرفة وما يتصل بها من حادث وتالد .فالقصة تُحبك في الظاهر عبراختراق بصر الراوي لفضاء الغرفة وفي الباطن عبر اختراق بصيرته للمكان من حوله والزمان .الأمر الذي جعل للعالم القصصي في نص الدخاخني هذا وجها واقعيا تسجيليا يترصد فيه الراوي عبر النافذة ومن مكان مرتفع حركات الشخصيات وملامحها ،ووجها متوَّسلا في صياغته بالمخيلة محتكما في إنمائه إلى وعي داخلي ينعكس عبر مواقف الراوي وزوايا نظره من الشخصيات التاريخية وأفعالها.

ولا بد من الملاحظة هنا أن الدخاخني في هذه المواءمة بين ما يُرى وما يُسلك إليه بالوعي والبصيرة والخيال والمواءمة بين الراهن والماضي ،يجمع الى خاصيات التكثيف والتركيز والإيحاء وهي من مواصفات القصة القصيرة ،وحدة في الفكرة وتلاحما .

ولئن لم يُفصح الدخاخني عن الفكرة وهي جوهر في القصة القصيرة من دونها تكون هذه رصفا للكلام وهذرا،فلم تكن الفكرةُ غائمة حقا في نصه . ويمكن بالاعتماد على استحضار الراوي شخصيات تاريخية عمد إلى التعليق على سلوكها ونقد مواقفها تجاه البلاد المصرية وشعبها ،التأكيد على انشغاله بالهاجس القومي والتاريخي . وهو إذ يستحضر التاريخ محاورا ناقدا ،ففي غير إسقاط أو تقرير ،ذلك أن ما يُسوّغ الحكاية عن التاريخ ،انبعاث شخصيات منه ومجاورتها الراوي السكن في شارع الرصافة . بحيث يتمَ ضرب من المزاوجة بين اللحظة القائمة واللحظة الماضية تنشط عبرها ذاكرة الراوي المطمورة لاستعادة الماضي ومحاورته ومراجعته وتقييمه ضمن رؤية خاصة. ويمكن بالنظر في نسيج القصة ومجرى الحدث عبرها ،اعتبار هذه الرؤية الخاصة بؤرة التوتُر الدافعة بالدلالة السردية في القصة إلى مناطق تعبيرية مخصوصة .

إن الراوي وهو بطل القصة شخصية من الحاضر يفتح نافذته صباحا على عالم شخصيات لئن انتمت إلى الماضي فإنها تعيش في حاضر الراوي .وهو إذ يرصد تلك الشخصيات ويُراقبها ،فليركز على علامات الوجاهة والثراء وسعة النفوذ والسلطة فيها :

من حيث تسميتها: الخديوي-باشا –الأمير –الملوك والأمراء-الأميرة –الامبراطورة-صاحب العرش-

ومن حيث وسطها وبيئتها: قصره- بيته الفاخر الذي يشبه القصر الصغير –بيته الذي لا يقل روعة وفخامة –القصور والحدائق.

ومن حيث نفوذها وسلطتها:الاحترام والاجلال- ركبُ الأميرة –وصيفاتها –الحراس المدججون بالسلاح –جنابه –جنابها.

فهذه الشخصيات المنبعثة من عصورها ظلت محافظة على مواصفاتها ذاتها لم يفعل الزمن فيها فعله وكأن لا غالب لسلطتها .ولذلك يحيطها جوّ من الإكباروالإجلال يخلق بينها وبين الراوي الملازم لغرفته في الطابق الثالث ومن يسميهم بمنطق تلك الشخصيات التاريخية الوصيفات والرعية والغوغاء وبمنطقه الأمة والمصريين ،مسافة دربها فيما يذكر الراوي "الغلاء والبطالة وبيع القطاع العام وتصدير الغاز إلى العدو الصهيوني وكذا الفساد"و"غدر الزمن "و"التغيير إلى الأسوأ" .وفي حين يحضر المصريون ثنايا القصة في إطار من الصمت والمفعولية،يحضر الراوي بصفته المراقب والمحلل والمعلل والناقد.فكأنه يختزل وعي الأمة المصمت المكبوت ويدرك من ثمة أهمية الفعل والثأر لقومه.

ولما كان الراوي بموازاة شخصيات سياسية تاريخية تختزل عهودا من النفاذ والتمكن وبموازاة شخصيات مصرية شعبية تختزل عهودا من "الخرس والصمم والعمى "،فقد ثبتت وحدتُه في الفعل والمواجهة .فكان وهو الوحيد في غرفته بالطابق الثالث لا يغيب عنه أمران :الأول ما بين الشخصيات التاريخية من توادد وتكاتف من قبيل ما يتضح على وجه إنجي " الوضاء "وهي تودع الخديوي اسماعيل من استيحاء وما يشحن تحية الخديوي والأميرين للأميرة فايزة من احترام وإجلال وما بين الأمراء والملوك من صداقات وتهان وهدايا واحتفالات مهيبة.

الثاني قيام بعض أفراد من الشعب المصري للراوي وقد عزم على الفعل والمواجهة بالصد "تبا لك أيها الجواد السافل "وبعضهم الآخر بالدعاء "اللهم ارفع من شأن جوادنا الساهر الليلة بغرفته الكائنة بشارع الرصافة ..اللهم اجعله يثأر"وهما الأمران اللذان حتما على الراوي في اعتقادنا تعيين الهدف وتركيز المواجهة .

فاختار أن تكون الامبراطورة أوجيني مرمى ثأره من الشخصيات التاريخية ومعبره إلى إذلالهم .اختار أوجيني بالذات لأنه سنوات بعد الحملة الفرنسية على مصر ويُسميها الراوي احتلالا هتك جنوده الأعراض واغتصب نساء المحروسة واتخذوا الأزهر الشريف اسطبلا لجيادهم ، قطع الخديوي اسماعيل باشا البحار إلى باريس يطلب ودًّ الإمبراطورة ويقدم لها أفخم الهدايا "لتتفضل وتنعم عليه بحضورها حفل افتتاح قناة السويس "،ولأنه " من أجل عيونها أمر ببناء القصور والحدائق ودار الأوبرا "،ولأن مسرحية "أوبرا عايدة "المستوحاة من التراث الفرعوني" ألفت " ليُضفى على روح جنابها المزيد من السعادة والسرور ". فلأجل أن ينال الخديوي اسماعيل باشا رضى الامبراطورة أوجيني ويُحقق سعادتها ،سُخًربعض من خيرات مصر واستُبيح بعض من تاريخها وكرامة رجالها.فقُوبل الزحف النابليوني على مصروانتهاك أعراضها وتشويه رموزها بالاستكانة والانبهار والتودد والتضحية بتراث الفراعنة ودماء حافري قناة السويس وأرواحهم .لذلك كانت الامبراطورة أوجيني في الصورة التي رسمها لها الراوي "عارية تماما..جالسة القرفصاء فوق جماجم المصريين الفقراء الذين حفروا القناة ...أما نهديها{كذا} فكانا بارزين وكأنهما مدفعين {كذا} من مدافع الحملة الفرنسية " .وهي صورة تختزل معاناة الشعب المصري وتصبح وهي من رسم الراوي ،أشبه عنده بالشارة على الوفاء لمصر وأهلها والعهد على الثأرلهما لذلك يتعمد إظهارها لإنجي متشفيا أمام دهشتها "وقعت عينيها{كذا}على الصورة ثم رمقتني بدهاء وتنهدت قائلة:هكذا تراني دائما؟" .وأن تُعلق الصورة في غرفة نوم الراوي التي يلازمها مفكرا في الثأر مصمما على الانتقام ،يُشير الى أن غرفة النوم، هي ساحة حربه .و هو ما يُفسر أنه يتعمد قبيل مجيئ إنجي إلى غرفته ، ترتيبها بشكل مخصوص وكأنه بذلك يُعيد ترتيب الأدواروتوزيعها .ولذلك هو يلازم الغرفة في حين تنتقل الإمبراطورة أوجيني إليه "بوقع أنامل رقيقة" ولا يكتفي بذلك فيُشبه نفسه بالجواد العربي الأعلى قيمة من الجواد الفرنسي مضيفا " وما أدراك لو أن الجواد العربي كان جوادا مصريا "في حين يشبه أوجيني بمهرة "فرنسية مختلطة الأنساب " ولا يتورع وهي تذكره بكونها إمبراطورة فرنسا عن القول "في نظري أنت جسدها ".ويقرن في طقس يتحد فيه الجسد بالجسد رقصا واحتضانا معلنين عن اقتراب "وقت النشوة"،بين الفعل الجنسي والثأر لمعاناة المصريين . يقول ردا على صوت يُداهمه ناكرا فعله "أنت مثل جاهل لم يقرأ التاريخ ،ولو أنك قرأته بشيء من الامعان لأيدتني وقلت زادك الله فحولة حتى تثأر لنساء المحروسة اللائي اُغتصبن إبان الحملة الفرنسية بغباء جنودها الأشرار". ولا يخفى أن القاص هنا يتصادى نصُه مع رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح {1966 } وبطلها مصطفى سعيد الذي يحسب أنه يركب الغرب كلما ركب نساءه.

على أن مضي مصطفى سعيد قُدما في الجنس طقوسا وممارسة ثأرا من الغرب والغربيين ، يُقابله في قصة الدخاخني تعطب في الفعل الجنسي وعطالة في تحققه .وليس ذلك لعجز جنسي لدى الرجل أو قصور .فقد تحفز للفعل مناورا جريئا وأوشك الأمر فعلا أن يتم لولا أن سمع الراوي صوت محمد علي باشا يطلب من العمال والمهندسين "سرعة الانتهاء من حفر ترعة المحمودية ليتم توصيل ماء البحر المتوسط بماء النيل حتى يعم الخيرُالبلاد والعباد ". فكان هذا الصوت فاصلا بين ما كان من الباشوات والأمراء الآخرين من تهميش لمصر وإذلال لأهلها أثرة للنفس ونزواتها ،و ما كان من محمد علي باشا من تواضع وإعراض عن "القصور الفارهة"وتفان في خدمة مصر و"نهضتها الصناعية والعلمية.فقد كان لمثل هذا الرجل ولمثل صنيعه مع البلاد والعباد ما أحال حقد الراوي وحرصه على الثأر،إلى شعور بالأمن والفخر ترجم عنه تغير موقفه من الإمبراطورة إنجي وتغير نظرته إلى بلده يقول "عندئذ ضممتها إلى صدري ضمة حانية وقلت :مدينة الاسكندرية ستنضم إلى كبريات الموانئ العالمية".

إن الدخاخني في قصته هذه يستحضر التاريخ في لحظة محاورة ومراجعة وتصويب تذهب به من وعي شقي بمعاناة مصر واهاليها إلى فخر برموزها .ولما كان الدخاخني يجمع إلى عفوية التجربة وبساطة المحكي ، سردية قصصية محكومة برؤية خاصة لما مضى من تاريخ مصر،فقد اتضحت له في نصه قدرة على المزاوجة بين الصوت التاريخي والرؤية السردية ،وبين الموضوعي والذاتي. وكان ذلك في نصه من المظاهر على تأسيس دلالة تُجسًر الفجوة بين القصة القصيرة الموصولة عامة بذاتية التجربة وضيق الزمن ومحدودية المكان وكثافة المشاعر ووهج الانفعالات من جهة، والقضايا العامة القومية والتاريخية من جهة أخرى. وقد تجسد ذلك كما تبينا في قصة الدخاخني عبر تيمات السطوة السياسية والتناقض الاجتماعي واضطهاد الشعوب ... وغيرذلك من التيمات التي صاغها الدخاخني عبر ضرب من المفارقة الشعورية لدى الراوي تبلورت عبرها أزمته الحضارية بصفته نموذجا للمواطن المصري .فتشكلت قضية التاريخ والقومية في منطقة الوعي والمشاعر وظلت القصة بذلك على اتساع المشغل فيها مخلصة لشرطها في التكثيف وشحن اللحظة والعبارة والصورة بدفق انفعالي وسردي.


هيثم الوزيري

دكان قديم

دكان قديم، لهيثم الوزيري نص من صفحة واحدة موضوعه لوحة تشخيصية لرجل يجلس في دكانه القديم ويُعرض عن الزبائن فلا ينظر إليهم ولا يرد عليهم ولا يُجيبهم إلى طلباتهم

وهذا النص يُراوح بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا. ليس من حيث المساحة التي لا تتجاوز في القصة القصيرة جدا حدود الفقرة، بل من حيث الخصائص في التركيب والتشكيل. منها أن هذا النص أشبه في ظاهره بلوحة أدبية أو بمجرد خبر جمع صاحبه بين العناية بشخصية واحدة مشدودة إلى إطار مكاني واحد من جهة ،وشدة الاختزال اللغوي والإيجاز التعبيري من جهة أخرى.فقوام النص مشهد موصوف اقتصر راويه على عناصر أساسية فلم يُثقله بجمل تفسيرية ولم يُلزمه بعنصرين من ركائز الثالوث العضوي في القصة القصيرة وهما الاستهلال والعقدة.

وقد ثبت من النظر في الكتابات القصصية أن قصر المساحة في هذا الفن المحدث سبب رئيسي في صعوبة كتابته وتشكيله فكرة ومبنى.من ثمة سؤالانا عن مكمن المهارة في قصة هيثم الوزيري وظاهر نصها لا يكشف عن بناء إشكالي وفنية لعبية ؟ فهل يكفي عدد من الكلمات لصياغة قصة مكتملة لغة وأسلوبا وفكرة؟

والنظر في تفاصيل اللوحة التشخيصية المرسومة في قصة الوزيري ،يُحيلنا على عالم واقعي حسي مادي تعاضدت لصياغته صفات وأفعال تعلقت بالشخصية الرئيسية أساسا وبوسطها .وقد توزع ذلك على مساحة النص مقطعان أولهما وصفي اُفتتحت به القصة وثانيهما جامع بين الحوار والسرد في ضرب من المناوبة والجدل .

وفي حين غلبت على المقطع الوصفي لغة تُخبر عن سمات الرجل صاحب الدكان أكثر مما تُخبر عن الدكان ،بدا المقطع الحواري السردي أقرب في بنيته إلى ميلودراما مسرحية يحكمها الفعل ورد الفعل .فالدكان وإن كان يحمل لافتة تُعرّف به ،وإن كان كذلك فيما يذكر القاص مفتوحا دائما كأن بابه لا ينغلق على سر ،فإنه "غارق في الظلام ""لا يكشف أيا من معالمه " هذا في حين اتضحت ملامح الرجل كاشفة عن تجاعيد الوجه وخواء العينين و رثاثة الثياب وتدلًّي الذراعين وقعودهما حتى عن نشّ الذباب. وصورة الرجل في دكانه هذه تُترجم في نسق إيقاعي بطيء ومتشابه ،عن حالة وجودية ونفسية سمتها التسليم بفعل الزمن وسمتها الوهن والقعود والرتابة.

وقد عمد الراوي وهو يصوغ النسيج التعبيري والوصفي المجسد لذلك، إلى بنية إخبارية غير مشحونة دفقات شعورية. فلم يكشف عن مشاعر الرجل وأحاسيسه ولم يجعل في صورته تلك موقعا لعقدة تشكَّل موطن توتر في حياة الرجل أوفي مجرى الشعور والوعي عنده.وربما رددنا ذلك إلى رغبة من القاص في أن يرتقي بحالة الرجل الفردية إلى حال وجودية عامة تنسحب على الانسان أينما كان، من ثمة ضبابية صفات الدكان وحضور الرجل عبر ضمير الغيبة لا يُميزه اسم ولا يتعين سنَّه ولا يُدرك من ملامحه حتى "هل هو شاب هدَّه المرض أم هو عجوز هده مرور الزمن ".فالراوي وإن صاغ في عبارات محدودة وحيز خطي وكمي ضيق جملة من الأوصاف والنعوت ،أبقى على بعض الريبة في تجسيد الوضع والمغزى منه .ويُعد ذاك من المسالك في القصة القصيرة إلى إثارة ذهن المتلقي وحفزه على تجلية المعنى.

وقد أسهم المقطع الحواري السردي في تركيز تقنية الإيحاء بالمعنى عبر ضرب من التقاطع بين تركيب الجمل ودلالاتها. ففي هذا المقطع تتواجه جُمل حوارية ثمان وجملتان سرديتان .أما الجمل الحوارية فمصدرها الزبائن يطلبون من الرجل حاجتهم ويطلبون أن يكلمهم وينظر إليهم. ولم تخلُ طلباتهم هذه من حدة وامتعاض ترجمت عنهما العبارات "انطق ...شاوربإيدك ... بص لنا حتى ".وأما الجمل السردية وينقلها الراوي، فموضوعها تدرُج الرجل أمام إلحاح الزبائن من الامتناع عن الرد والنظر في الخواء ،إلى الانسحاب داخل الدكان وإغلاق بابه من الداخل .وهذا الخط الموازي بين الفعل ورد الفعل وبين الكلام والصمت وبين الطلب والامتناع ،وهوخط شبيه كما قلنا بمسار ميلودرامي مسرحي ،عدل بالقص عن إيقاعه الإخباري البطيء إلى مجرى حركي كاشف عن وجود أزمة في علاقة الرجل بمحيطه .لذلك عكست حركة الرجل في الانسحاب إلى دكانه وإغلاق بابه من الداخل، لحظة قطع مع البشر ووصل مع الدكان.

وهذه اللحظة المشكلة للقفلة والخاتمة في القصة ،هي من قبيل العود على البدء ،عود النهاية المزدوج إلى كل من الاستهلال والعنوان عودا معكوسا مرة ،غير معكوس أخرى .ذلك أن الرجل الذي بدا مقارنة بدكانه منكشفا ،يزخر في الحقيقة غموضا وأسرارا .من ثمة انسحابه إلى داخل الدكان انسحابا أشبه بملاذ المرء إلى شبيهه وقرينه أو بحركة اتحاد واندغام. الأمر الذي يفسر ارتباط الرجل شخصية قصصية بالدكان إطارا مكانيا واحدا في الأقصوصة .فيكون الدكان الغارق في الظلام الخفية معالمه على انفتاح بابه صورة عن الرجل وحدة وغموضا وكآبة .الأمر الذي لم يُدركه الزبائن وربما لم يهتموا لأمره أصلا فاحتجوا على صمت الرجل وإعراضه عنهم .من ثمة أهمية اختيار هيثم الوزيري لقصته العنوان :دكان قديم .فهذا العنوان على صلة وطيدة بلحظة النهاية في القصة وأهميته لا تتضح إلا في ضوء اكتمال تلك اللحظة وانكشاف غور المشهد الموصوف قبلها ثنايا القصة .هذا الغور الموصول في التحليل النفسي بالدلالة على شعور الانسان بالانسحاق والاكتآب والانطواء والانهزام .فكأن الدكان القديم معادل رمزي لكيان في الإنسان عامة يخفي الإنسان أو إنَّ الإنسان يُخفيه.

الأحد، 27 مارس 2011

الثلاثاء 22 مارس 2011م .

























من ثورة الياسمين الى مبدعي الثغر


نظم مختبر السرديات بمكتبة الاسكندرية مساء الثلاثاء الموافق 22 مارس 2011م. ندوة بعنوان قراءات قصصية لثلاثة من مبدعي الاسكندرية , هم محمد العبادي " اللون الطويل لأصدقاء السوق " , محمد الدخاخني "غرفة النوم" , هيثم الوزيري " دكان قديم " , تناول فيها الناقدة التونسية الدكتورة " نجوى الرياحي القسنطيني " هذه الابداعات السكندرية بالنقد والتحليل . وأوضح الأديب منير عتيبة . المشرف على المختبر , أن ندوة أخرى تعقد خلال ابريل المقبل لطرح وجهة نظر الرياحي أما عدد آخر من مبدعي الاسكندرية .

والقصص هي :


اللون الطويل لأصدقاء السوق
قصة: محمد العبادى

(استعمل فقط المقادير الموصى بها للملطف, الكمية المبالغ فيها قد تضر الغسيل)
دليل استخدام غسالة الملابس الأوتوماتيكية
كان أحمد إبراهيم مصطفى واقفا على المحطة المجاورة لمنزله, ينتظر أوتوبيس الصباح ليحمله إلى عمله, حين مر فجأة قطيع فزِع من حيوانات الماموث الضخمة كبيرة الأنف, انطلقوا بأقصى سرعة وقد أعماهم الخوف(*), لم يأبهوا بما يسد طريقهم, داس القطيع بأكمله على أحمد, حول جسده إلى طبقة رقيقة جدا منبسطة على الأرض, بعد مرورهم طار جسده المفرود في الهواء.. تحمله الرياح.

جانب من خطاب التأبين الذي ألقي في ميدان عام رثاءً لأحمد مصطفى:
" إحم.. إحم.. بسم الله.. السيدات والسادة .. الإخوة والأخوات..."
****

يجلس في الميكروباص 15 راكبا:
الراكب رقم 1: طالب ثانوي صناعي.

الراكب رقم 2: موظف بالإدارة المركزية لوزارة التأمينات, لم ينم منذ الليلة الماضية بسبب آلام البواسير.

الراكبة رقم 3: ترتدي بلوزة بيج و جاكيت بني.

الراكب رقم 4: ولد في الإسكندرية عام 1969 حيث نشأ وترعرع في منزل العائلة بمنطقة محرم بك وتلقى تعليمه حتى تخرج من كلية الحقوق سنة 1991 بتقدير عام جيد, قضى فترة تجنيده بسلاح الحدود من 1992 إلى 1995 عاد بعدها إلى مدينته, و استطاع الالتحاق بوظيفة في قسم الشئون القانونية بشركة مطابع محرم, تزوج للمرة الأولى – والأخيرة – سنة 2001 و أنجب طفلين, وسيتوفى في الخامس من يناير 2046 الساعة 5:22 صباحا إثر تعرضه لغيبوبة انخفاض معدل السكر في الدم.

الراكب رقم 5: في جيبه علبة سجائر لم تفتح بعد.

( 9 )

يا حبيبتي ذات العيون الخضراء .. لماذا كلما سرنا معا عبر الشوارع نجد مياه المجاري تحت أقدامنا؟

* * *

حيوانات الماموث الضخمة كبيرة الأنف كانت[ إهداء إلى ر.خ ] تجري بكل رعبها من البلابل الطائرة التي هاجمتها و أخذت تنقرها عبر فرائها السميك, وجلدها السميك أيضا.


****

الراكبة رقم 7: أم: أحمد 12 سنة , و رتاج 9 سنوات.

الراكب رقم 8 : علي.

الراكب رقم 9: أبو أحمد 12 سنة ( ارجع مشكورا للراكبة رقم 7 ).

الراكبة رقم 10: ينظر عبر النافذة بتركيز مبالغ فيه.

*****
يا حبيبتي ذات العيون العسلية .. حذاؤك ذو الكعب العالي يعلمك آلام المشي, ويصيبني بالصداع من دقاته الرتيبة.
الجثة الورقية الرقيقة طارت في الهواء, طارت حتى استقرت في المطبعة, طارت حتى دخلت في ماكينة الطبع, ُطبع عليها من الجانبين, وذهبت مع ورق الجرائد الآخر إلى بيت يقطنه بعض الناس .. حيث أكلوها مع ما يأكلون من ورق الجرائد.



يا حبيبتي ذات العيون الصفراء .. أشعر بالاكتفاء والانتماء والذاتية والتردي والانتفاء, أشعر باليأس و التلهي والاكتمال .. لكن هل .. هل؟...


الراكبة رقم 12: موظفة حسابات بالشركة الشرقية ( إيسترن كومباني ).

الراكبة رقم 13: ترتدي لباس داخلي ( كيلوت ) أسود اللون مقاس XXL.

الراكب رقم 14: مبيض محارة, والده صول بالجيش على المعاش.

الراكب رقم 15 : بالطبع: السائق.

***

يا حبيبتي ذات العيون الملونة.. نسيت كنت عاوز أقول إيه.


------------------------------
(*): الخوف.


*********************

غرفة النوم

قصة : محمد الدخاخنى

أحب أن أنام مبكرا, وحبذا لو أننى أتيت إلى فراشى فى تمام العاشرة مساء, لكننى عادة أنام فى وقت متأخر جدا وذلك لأسباب لا أستطيع الآن البواح بها, ومع أننى دونت هذه الكلمات فى تمام الساعة الخامسة صباحا, إلا أننى قد تذكرت شيئا من تلك الأشياء التى تجعلنى لا أتمكن من تحقيق هذا الحلم, النوم فى تمام الساعة العاشرة مساء, ومنها ترتيب غرفة نومى المطلة من الطابق الثالث عشر على شارع الرَّصَّافة, تلك النافذة التى كلما نظرت منها كل صباح وقعت عينى على " الخديوى سعيد باشا " حال خروجه كل يوم وفى وقت مبكر من باب قصره المطل على ترعة المحمودية ملوحا بالتحية إلى " قباطنة " السفن التجارية القادمة من أوروبا عبر البحر المتوسط مرورا بترعة المحمودية وصولا إلى النيل ومن ثم يقطعون المسافة بينه وبين البحر الأحمر بواسطة الجمال والعربات التى يجرها الخيل, ثم تقع عينى كذلك على السيدة " إنجى هانم " قرينته حال وداعها إليه, والذى شد انتباهى أن وداعها إلى حضرة جنابه كان على استحياء ( من أولئك الذين يمرون أمام القصر أمنين لا يروعهم كلاب ولا حراس مدججون بالسلاح ) وخاصة عندما يظهر وجهها الوضاء من وراء مشربية إحدى الغرف دونما " يشمك ", ثم أرى " عرفان باشا " وهو يخرج من باب بيته الفاخر الذى يشبه القصر الصغير مستقبلا الأمير " عمر طوسون باشا " الذى كان هو الآخر مغادرا بيته الذى لا يقل روعة وفخامة عن بيت الأول, ثم يكون اللقاء بين الثلاثة أمام عربة " حنطور " يستقلونها ويطلق سائقها العنان لجواديها قاطعا الطريق إلى قصر رأس التين ليبدأ " الخديوى " استقبال الملوك والأمراء وغيرهم, وقبيل اختفاءهم عند منحنى ميدان الرَّصَّافة, كانت الأميرة " فايزة " داخل عربة حنطور برفقة وصيفاتها وقد بدت العربة متوجهة ناحية موقع إنشاء المدرسة التى تعهدت بإنشائها وهى مدرسة " الأميرة فايزة الثانوية للبنات " وموقعها مقابل البيت الذى تطل منه غرفة نومى, التقت العربتان, تبادل " الخديوى سعيد " والأميرين معها التحية, والحق أن التحية من ناحية الفريقين كانت مفعمة بالاحترام والإجلال, وعندما توقف ركب الأميرة أمام موقع إنشاء المدرسة تابعتها بنظرات مشوبة بالدهش, الأميرة تتحرك كيفما تشاء دونما " حرس سلاح, أفسحوا الطريق حتى يمر موكب الأميرة الفاضلة دونما يعكر صفو حياتها نفس يخرج من أفواه الرعية معلنا عن الغلاء والبطالة وبيع القطاع العام وتصدير الغاز إلى العدو الصهيونى وكذا الفساد الذى استشرى بأوصال الأمة !!, ونزلت الأميرة من عربة الحنطور ومازالت متوشحة بالـ " يشمك " ووصيفاتها مثلها, ثم تقدمت صوب مهندس الإنشاءات المنوط بالإشراف على بناء المدرسة التى يفصل بينها وبين مدرسة " عرفان الإعدادية للبنات " شارع " عرفان باشا " وهو شارع ممتد يصل ما بين شارع الرَّصَّافة متقاطعا ومتعامدا على شارع " بوالينو " ثم شارع " حسن باشا الإسكندرانى ", الشهيد الغريق, قائد الأسطول المصرى الذى حارب " روسيا سنة 1831ميلادية إبان عودته منتصرا فى حرب " القرم " ثم شارع " محسن باشا ", وعند هذا الملتقى يتوقف " عرفان باشا " معلنا الغضب,

ـ إن المسرحية من الفصل الثان حتى الفصل الثالث كافة أحداثها مأساوية, والأدهى من ذلك أن خشبة المسرح قد اختفت تحت أكوام القمامة, ناهيك عن المخرج والممثلون فقد أصابهم البله, والذى زاد الطين بلة أن الجمهور أصابهم الخرس والصمم والعمى,

ولما كان الهدوء يسود الشارع طرق صوت الأميرة مسامعى وهى تطلب من المهندس أن يكون البناء مشيدا على أحدث النظم العلمية, وأن تتوسطه حديقة ذات أشجار وأزهار, وأن تكون التهوية جيدة ومناسبة لعدد الطالبات اللائى قد يصل تعدادهن فى كل فصل دراسى إلى اثنتى عشرة طالبة, ثم التفتت إلى الوصيفات متنهدة وقد بدت حزينة, عندئذ فهمت أنها تخشى اللعنة التى قد تقع فى يوم من الأيام فوق رؤوس المصريين, غدر الزمن " التغيير إلى الأسوأ " ازدحام الفصل الدراسى بالطالبات اللائى قد يصل تعدادهن إلى قرابة الأربعين طالبة, ثم تقدمت فى صمت صوب عربة الحنطور واستقلتها برفقة وصيفاتها, ومن ثم أطلق السائق لجواديه العنان فظللت أراقب الركب حتى توارى بين الغوغاء ولم يبق له أثرا غير ذكراها التى مازلت أدندنها,

**** ****

كل شئ يجب أن يكون فى مكانه وفى الوضع المناسب, الأشياء يجب أن تكون متوازية لا شئ يتقدم أو يتأخر عن غيره, أمَّا سرير نومى فهو مربط الفرس الذى بالطبع هو أنا, فأنا هذا الفرس, هذا الجواد الذى هو على موعد مع مهرة طالما حلم بها, فالمهرة من الجياد الفرنسية,

ـ عجبا, لمْ لم تكن مُهرة عربية فالجياد العربية ذا شأن عظيم ؟!,

ـ إنها مهرة مختلفة يا صَاح, إنها الإمبراطورة " أوجينى ", بنت بنت عمة " الميسيو فردينان ماتيو مارتن دى ليسبس " مُعلم " الأمير سعيد " عندما كان فى العاشرة من عمره فى الفترة مابين العام 1832 إلى العام 1836 وذلك بأمر من السيد " محمد على باشا " صاحب العرش, ثمَّ هو صديقه العائد من فرنسا فى العام 1854 بعد غياب طويل ليزف إليه التهنئة بمناسبة تعيينه واليا على مصر, ثم مهندسا لمشروع حفر قناة السويس,

ـ تبا لك أيها الجواد السافل, تحلم أن تضاجع الإمبراطورة " أوجينى " ؟!,

ـ ما هذا الصوت الذى داهم صداه غرفة نومى فى مثل هذا الوقت المتأخر من الليل ؟!, يبدو أنك أحمق أو أنك مثل جاهل لم يقرأ التاريخ, ولو أنك قرأته بشئ من الإمعان لأيدتنى وقلت زادك الله فحولة حتى تثأر لنساء المحروسة اللائى اغتـُصِبْنَ إبَّان الحملة الفرنسية بغباء جنودها الأشرار, عندئذ, سيتبين لك الفارق بينى وبين " الخديوى إسماعيل باشا ", أمَا قرأت كيف أنه غادر مصر المحروسة فى رحلة بحرية استغرقت عدة أسابيع قاصدا باريس ليقدم إلى فاتنة قلبه الإمبراطورة " أوجينى " أفخم الهدايا لتتفضل وتنعم عليه بحضورها حفل افتتاح قناة السويس وذلك فى السابع عشر من شهر نوفمبر سنة 1869؟!, ثم أنه من أجل عيونها أمر ببناء القصور والحدائق ودار الأوبرا ليضفى على روح جنابها المزيد من السعادة والسرور عندما تشاهد المسرحية الشهيرة " أوبرا عايدة " التى عهد إلى " الميسيو أوجست مارييت " بتأليف قصتها وأن تكون القصة مُستوحَاة من التراث الفرعونى ؟! أنا لست بأقل من " الخديوى إسماعيل باشا " عندما ترك أكثر من ستة آلاف من عظماء ورجالات أوروبا الذين حضروا مراسم الاحتفال المهيب ثم أخذ بيدها لتشاركه رقصة طويلة طالما حلم بها, ثم أنه ما فتئ يرقص برفقتها ويرقص على أنغام الموسيقى الفرنسية حتى كللا ساعديه وتورمتا قدميه, ولولا الحرب البروسية المنعوتة بالحرب السبعينية التى اندلعت بين فرنسا وألمانيا, لرقصا حتى الصباح على أنغام موسيقى " جوزيبى فيردى " التى قام بتصميمها بناء على طلبه خصيصا لـ " أوبرا عايدة " التى تأخر موعد عرضها بسبب تلك الحرب التى أدت إلى انقطاع طرق المواصلات بين مصر وفرنسا, أنا لست بأقل من " الخديوى إسماعيل باشا " إنه فقط استمتع بالرقص بين أحضانها, أما أنا فالليلة على موعد معها, سأرقص برفقتها وقتا طويلا بغرفى التى رتبتها فصارت أجمل من أفخم قاعة بقصر " التويلرى ", لقد ضبطت توازن الصورة المحببة إلى قلبى, صورة قد كنت رسمتها إليها وقد بدت عارية تماما, رسمتها جالسة القرفصاء فوق جماجم المصريين الفقراء الذين حفروا القناة فكانت دماؤهم وأرواحهم هى نخب الافتتاح ومرق الموائد التى حرم منها من هم أحق بها, وفى الصورة قد منحت ظهرها لعامود من الرخام الأبيض, ومن ثم بسطت ذراعيها إلى الوراء وطوقت العامود, أما نهديها فكانا بارزين وكأنهما مدفعين من مدافع الحملة الفرنسية التى احتلت مصر سنة 1798 بقيادة " نابليون بونابرت ", وخلفية اللوحة نوتة موسيقية تنطق وتريَّاتها وآلاتها النحاسيَّة وطبولها بوقع أقدام الجياد الفرنسية حال دخولها الأزهر الشريف لتتخذه اسطبلا آمنا يُعيذها من دُعاء المشايخ " اللهم ارفع من شأن جوادنا السَّاهر الليلة بغرفته الكائنة بشارع الرَّصَّافة حتى يطأ ظهر المُهرة الفرنسية, اللهم أجعله يثأر لنسائنا, وبناتنا 00 آمين ",

**** ****

وبينما أنا أعيد إلقاء نظرة على الغرفة كى أتأكد أنَّ كل الأشياء صارت كما أشاء, إذا بوقع أنامل رقيقة تعزف بعض النوتات الموسيقية على مصراع الباب فتأكد لى أنها هى فتقدمت صوب الباب بعد أن خلعت معطفى وكنت أحدث نفسى بأننى لست أقل من " الخديوى إسماعيل باشا " ولا بأقل من " الإمبراطور نابليون الثالث " إمبراطور الفرنسيس, بعل الإمبراطورة المُبجلة فكلاهما جوادين عجوزين, وشتان بين الجواد العربى والجواد الفرنسى وما أدراك لو أن الجواد العربى كان جوادا مصريا, وفتحت الباب فدخلت دونما همس ولا كلام, صافحتها ولم أقبل يدها كما هو مكتوب فى دفتر البروتوكولات, لكننى ساعدتها عندما تهيأت لخلع معطفها الذى ألقت به جانبا حالما وقعت عينيها على الصورة ثم رمقتنى بدهاء وتنهدت قائلة :

ـ هكذا ترانى دائما ؟!

ـ وإلا ما رسمتك هكذا,

ـ لا تنسى أننى " إمبراطورة فرنسا ",

ـ فى نظرى 00 أنت جسدها,

ـ وماذا لو صرت أنت جزء من هذا الجسد,

ـ ( هه ) أنا جواد عربى أصيل وأنت مهرة فرنسية مختلطة الأنساب ولست أدرى كيف صرت إمبراطورة فرنسا ؟! والأصيل لا يتوحد إلا مع الأصيل,

عندئذ شخصت برهة فى مقلتىَّ وبعدها لا أدرى كيف أننا تحولنا إلى جسد واحد وبدأنا الرقص ولا يدرى أحدنا أطال الوقت أم قصر إلا أننى مازلت أتذكر شكايتها من مرض عضال قد ألم بساقى جوادها " الإمبراطور " العجوز, وكيف أنه يجب أن ينضم إلى تلك الجياد التى أنهت مهمتها ليكون مصيره القتل رميا بالرصاص, وبينما أنا بين أحضانها وقد ضمتنى إلى صدرها وكانت هائمة لا تفكر إلا فيم سأصنع معها عندما يصيح الديك صيحته ويعرب أن قد حان وقت النشوة, طرقت مسامعنا أصوات جلبة رجال مجهدون ووقع فؤوس تضرب الأرض بما تبقى لديهم من قوة وعزم, وكلمَا توالى وقع الفؤوس تبعها وقع سياط فوق ظهورهم يلى وقع السياط صراخ وتأوهات تنم عن الشعور بالألم والعذاب, كل ذلك كان ينبعث من نافذة غرفتى, لقد تركت النافذة مفتوحة حتى الستائر قد أزحتها جانبا لتنعم هى بضوء القمر الذى كان ساهرا, فهو مثلى تماما لا ينام إلا بعد الخامسة صباحا, مع أن شرطها الأول والأخير ألا يراها أحد كائن ما كان وهى بين أحضانى إلا هذا القمر, إنه بالنسبة إليها كاتم الأسرار, كما أنه بالنسبة إلى مصدر إلهامى, لكنها وبعد برهة من التأمل إلى الديك الذى قفز من ناحيتى ثم وقف بينى وبينها أومأت إلىَّ أن أسدل الستار فعرفت أنها تخشى أن يكون ثمَّة أحد يرانا, وإذا بوقع أقدام جواد يقترب ناحية أولئك الذين يعملون على حفر ترعة المحمودية, وإذا بصاحب الجواد يقترب شيئا فشيئا, ثم انبعث صوت من بين تلك الأصوات التى كادت تعكر صفوها فأطبقت يدها برفق حول رقبة الديك وقالت من بين نواجذها : إنه صوت " الأميرال محرم بك " زوج السيدة " تفيده هانم " إبنة والى مصر,

( فهمست إليها وأنا أحاول إسكات الديك حتى يتأخر عن إطلاق صيحته قائلا : )

ـ إنه الآن محافظ الإسكندرية بعد أن كان محافظا للجيزة وقد كان من قبل قائد للأسطول المصرى,

قالت كلماتها وقلت كلماتى ثم سكتنا برهة ومازال الديك على حالته وإذا بصوت السيد " محرم بك " يطرق مسامعنا مرة أخرى وهو يعمل على تحفيز عمال الحفر على الجد والاجتهاد مبينا إليهم أن الفارس القادم فوق صهوة الجواد هو والى مصر ومؤسس نهضتها الصناعية والعلمية حتى ترسانتها البحرية, لقد جاء ليباشر بنفسه سير العمل, فهو دائم الركض بجواده قاطعا المسافة ما بين الإسكندرية ونهر النيل لا يكل ولا يمل فما ركن إلى القصور الفارهة طرفة عين, وإذا بوقع حوافر الجواد يتوقف مصحوبا بعدة صهلات, ومن ثم ألقى السيد " محمد على باشا " السلام على كافة العمال والمهندسين ثم طالبهم سرعة الانتهاء من حفر ترعة المحمودية ليتم توصيل ماء البحر المتوسط بماء النيل حتى يعم الخير البلاد والعباد, عندئذ ضممتها إلى صدرى ضمة حانية وقلت :

ـ مدينة الإسكندرية ستنضم إلى كبريات الموانئ العالمية, فقاطعتنى قائلة :

ـ وعما قريب ستكون أنت, من أكبر تجار الدخان,

ثم خرجت من بين ذراعى وتوجهت ناحية السرير آخذة برقبة الديك قائلة بدلال :

ـ هيا 00 أرح الديك فقد قرب صياحه .

دكان قديم

قصة: هيثم الوزيرى

على كرسيه كان جالسا أمام باب دكان قديم يحمل لافتة تحاول أن تتحدى غزو الأتربة .. الباب الحديدي للدكان و المفتوح دوما لا يكشف أيا من معالمه .. دائما غارق في ظلام .. أما هو فملامحه وتجاعيد وجهه لا تدل على شئ فلا يعرف منها هل هو شاب هده المرض أم هو عجوز هده مرور الزمن .. عيناه خاويتان كعيني سمكة ..ذراعاه متدليان بجانبه في استرخاء أو ربما في وهن لا يحركهما أبدا فصار وجهه مهبطا للذباب الذي لم يجد له رادعا.. بالرغم من مظهره الرث يتوقف الزبائن بمختلف أعمارهم أمام دكانه ..

-"كيلو دقيق لو سمحت"

ينظر في خواء ولا يرد

-"برشام صداع من فضلك"

ينظر ولا يرد

-"3 متر صوف"

-"ألاقي عندك أغنية للصبر حدود"

-"ما ترد علينا يا أخي بقى"

-"انطق"

-" شاور بإيدك"

-" بص لنا حتى"

يقوم .. يحمل كرسيه..ينسحب إلى الدكان.. يغلق الباب من الداخل .


نقد الدكتورة نجوى الرياحي

الأربعاء، 9 مارس 2011

الثلاثاء 8/3/2011م.








أصوات قصصية شابة فى مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية

نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 8 مارس لقاء قراءات قصصية لعدد من الأدباء الشباب الذين تم تقديم بعضهم لأول مرة فى الحياة الأدبية بالإسكندرية، علق نقديا على أعمالهم المبدع والناقد محمد عطية محمود. حيث قرأ أحمد ثروت قصة "خمارة الشيخ خالد" التى فازت بالمركز الخامس فى مسابقة المختبر لعام 2010، وقرأت داليا توفيق قصتى "الوجه الغائب" و"يوم من أيام الشتاء"، وقرأ شريف الغنام قصتى "أخى.. هذا ابنى" و"أب وابن"، وقرأت نهال أحمد قصتى " انزواءات" و"طلاء أحمر". صرح الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر أن تنظيم هذه الندوة يأتى فى إطار حرص المختبر على تقديم أصوات وأقلام إبداعية جديدة إلى الحياة الثقافية المصرية، وهو أحد أهم الأهداف التى قام من أجلها مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية.


وقد أكد الناقد محمد عطية محمود على ما يتمتع به الكتاب الأربعة من موهبة ورغبة صادقة فى التعامل الجدى مع القصة القصيرة، مشيرا إلى أن القصص الأنثوية تميل إلى الحديث عن الذات وطريقة الكتابة الحداثية بينما القصص التى قرأها الكاتبان الشابان أقرب إلى التقليدية فى الحكى والاهتمام بالعالم الخارجى والقضايا الاجتماعية. كما أشار الأديب منير عتيبة إلى أن تقديم أصوات جديدة هو فى ذاته مكسب كبير للحركة الأدبية السكندرية وأن الرهان الحقيقى ليس على القصص التى قدمت فى هذه الندوة ولكن فى الاستمرار والتجويد الذى يتمنى أن يواصل به هؤلاء الشباب الموهوبون حياتهم الأدبية القادمة.