بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 سبتمبر 2010

الثلاثاء 28سبتمبر 2010م.






















مبدعة الجنوب فى مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية

نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 28 سبتمبر لقاءً أدبيا بعنوان "منى الشيمى.. مبدعة الجنوب" حيث قدم الناقد الدكتور محمد عبد الحميد دراسة بعنوان (بين الخطاب الأدبى والحكاية التاريخية قراءة فى: مجموعة "من خرم إبرة "، رواية "الكفة الراجحة" للقاصة منى الشيمى)، وألقت الأديبة منى الشيمى شهادة أدبية بعنوان "ترابُ حكاياتي". صرح الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر أن منى الشيمى صوت جنوبى مبدع ومتميز من جيل الوسط الذى يحمل على عاتقة الآن التوازن المنشود فى الحركة الإبداعية المصرية، بتواصله الفعال مع الأجيال السابقة واللاحقة، وإن كان هذا الجيل ينتظره الكثير الذى تأخر بسبب الأوضاع الثقافية المتردية، إلا أنه لم يزل يحمل شعلة الأمل بمزيد من الإبداع الجيد، وأن استضافة مختبر السرديات لمنى الشيمى واحتفاءه بها، هو احتفاء بالمرأة المبدعة، وبجيل الوسط، والجنوب المبدع الخصب، والإبداع الجميل.. كل هذا فى شخص وإبداع هذه الروائية والقاصة المبدعة. وأضاف أنه سيتم توزيع نسخ من ملف يتضمن الدراسات والشهادة الأدبية وسيرة ذاتية للمبدعة على حضور اللقاء.
تقول منى الشيمى فى شهادتها الإبداعية أستطيعُ القولَ إني أعيشُ لأروي. أروي على اعتبارِ أني قاصةٌ، وأن ما أرويه قصة. ثمة أناسٌ يعيشون الحياة بكل منمنماتِها، وآخرون يعيشون متلصصين على الآخرين. لا أنكرُ أن الكتابةَ سرقتني من الحياةِ والتفاعل. من التماهي مع اللحظة، فلم أعد سوى متلصصةٍ على خبراتِ الآخرين وحيواتهم. بل ومتلصصةٍ على حياتي في الوقتِ نفسِه، لتُصبحَ في مرحلةٍ لاحقةٍ معيناً إبداعيا. لستُ حزينةً لأني من النوع الآخر، فأنا قادرةٌ على التفاعلِ مع الحياةِ والناسِ ولكن بطريقتي الخاصة، فقد لا أهتمُّ لمذاقِ الطعامِ ولكني أُبدعُ عند وصفِ مذاقهِ في رواية، وقد لا أستمتعُ بالحدثِ بل بكتابتهِ، وربما لا أمتلكُ القدرةَ على الحبِ والعطاءِ مثل أبطالِ قصصي.
ويقول د.محمد عبد الحميد فى دراسته تعد تجربة منى الشيمى القصصية فى مجموعتها " من خرم إبرة " تجربة ثرية ، تمتاز بمجموعة من العناصر ، تعد هى سر ثرائها ، كما أن تَجمُع هذه العناصر فى ضفيرة سردية واحدة واحتشادها بها جميعاً يعد سراً آخر لامتيازها وتفردها ، وهذه العناصر يمكن بعد وضعها تحت مجهر النقد التحليلى حلها إلى مجموعتين : أولاهما عناصر موضوعية ، والثانية فنية تتصل ببعض عناصر السرد القصصى وآليته . ورواية الكفة الراجحة للقاصة منى الشيمى من الروايات التى تثير بعض القضايا والأسئلة ، نظراً للشكل البنائى أو قل هندسة القصة التى خرجت عليها ، ولما تثيره من بعض القضايا المتصلة بحاضرنا السياسى ، وجدلية "الحب والحكم لدى المرأة". فرغم أنها تمتح موضوعها الرئيس من صلب التاريخ الفرعونى القديم ، إلا أنها تصل القديم بالحديث من خلال وحدة القضايا المتصلة بالملك وتداعياته ، وحكم المرأة ومشكلاته فى مجتمع تجذرت فيه الذكورية منذ القديم . كما أنها تثير نفس القضية التى أثارتها من قبل مجموعتها القصصية "من خرم إبرة" ، أعنى الفرق بين الخطاب الأدبى والحكاية التاريخية. كما حفل اللقاء بحضور عدد كبير من مبدعى ومثقفى الإسكندرية ومداخلات الأدباء والشعراء منى عارف، مروة الحمامصى، خالد السروجى، أحمد حميدة، مفرح كريم، د.أحمد قرة، محمود عبد الصمد زكريا.


























مختبر السرديات

ملــف

الأديبة منى الشيمى
مبدعة من الجنوب


إعداد/ منير عتيبة

28 سبتمبر2010م
منى الشيمى.. مبدعة من الجنوب

منى الشيمى صوت جنوبى مبدع ومتميز من جيل الوسط الذى يحمل على عاتقة الآن التوازن المنشود فى الحركة الإبداعية المصرية، بتواصله الفعال مع الأجيال السابقة واللاحقة، وإن كان هذا الجيل ينتظره الكثير الذى تأخر بسبب الأوضاع الثقافية المتردية، إلا أنه لم يزل يحمل شعلة الأمل بمزيد من الإبداع الجيد.
تعبر منى الشيمى فى إبداعها عموما عن المرأة المصرية، ليس شرطا الجنوبية، المثقفة؛ غالبا، فى مجتمع غير صديق للمرأة والرجل على السواء، لكنه أكثر قسوة على المرأة، وأشد تجاهلا أو تحاملا عليها، لكنها غالبا، المبدعة وشخصياتها، لا تستسلم، ولا تضحى بشخصيتها وحلمها الخاص، بل تحفر فى صخر التقاليد المتحجرة، والعقليات الأكثر تحجرا لتجد لها طريقا إلى نور الأمل، كما تهتم اهتماما خاصا بتاريخنا المصرى القديم باعتبار ما نحن فيه الآن على مستويات عديدة هو امتداد بصورة ما لهذا التاريخ، وتهتم أيضا بتطور حركة المجتمع المصرى وما جرى عليها من تغيرات سياسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية معظمها شديد القسوة والعنف.
لكن منى الشيمى وهى تنشغل بقضايا عديدة فى أدبها لا تغفل عن قضايا الإبداع نفسه، تحرص على تجويد إبداعها، وعلى تواصله مع أحدث اتجاهات الإبداع فى مصر والعالم، ليس تقليدا، ولكن تنقية واختيارا بما يتناسب مع الموضوعات التى تتناولها، إذ أنها لا تنسى أن الإبداع قضيتها الأولى، فمن خلاله فقط تستطيع أن تطرح ما يشغلها من قضايا أخرى.
إن استضافة مختبر السرديات لمنى الشيمى واحتفاءه بها، هو احتفاء بالمرأة المبدعة، وبجيل الوسط، والجنوب المبدع الخصب، والإبداع الجميل.. كل هذا فى شخص وإبداع هذه الروائية والقاصة المبدعة.

منير عتيبة- المشرف على مختبر السرديات








منى الشيمى.. سيرة ذاتية
- الاسم/ منى أحمد أحمد عثمان الشيمي
- الاسم الذي أنشر به / منى الشيمي.
- روائية وقاصة مصرية.
- عضو اتحاد كتاب مصر.
- عضو نادي القصة المصري.
صدر لها:
- رواية لون هارب من قوس قزح. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2003.
- رواية الأراولا. الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2006.
- رواية الكفة الراجحة.، نادي القصة، القاهرة 2008.
- مجموعة قصصية : وإذا انهمر الضوء، دائرة الشارقة للثقافة والإبداع. الإمارات 2009.
- مجموعة قصصية : من خرم إبرة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 2009.
- مجموعة قصصية : رشح الحنين، دار سندباد للنشر والتوزيع، القاهرة ، أغسطس، 2010.
تحت الطبع:
- رواية بعنوان " مواسم الغياب".
الأنشطة الأخرى:
- المشاركة في عدد من المؤتمرات الأدبية والورش الإبداعية داخل مصر وخارجها.
الجوائز:
- جائزة هيئة قصور الثقافة المركزية تحت سن 35 عن رواية "لون هارب من قوس قزح".
- جائزة نجلاء محرم الأدبية عن قصة "ثوب آخر".
- جائزة إقليم وسط وجنوب الصعيد عن قصة "غبار الطلع".
- جائزة نادي القصة عن رواية "الكفة الراجحة".
- جائزة دبي الثقافية عن المجموعة القصصية "من خرم إبرة".
- جائزة الشارقة للثقافة والإبداع عن مجموعة "وإذا انهمر الضوء".
- جائزة راديو الــ "بي بي سي" عن قصة" صليل الأساور".




ترابُ حكاياتي
شهادة: منى الشيمي

أستطيعُ القولَ إني أعيشُ لأروي. أروي على اعتبارِ أني قاصةٌ، وأن ما أرويه قصة. أنفي بشكلٍ مستمرٍ أنه منبثقٌ من النصِ الغائبِ، أو النصِ الأول. كيف لا أفعل؟ ونحن في مجتمعٍ يجبُ أن نخفي فيه ما يتعلق بنا، كي لا نُصبحَ مادةً لنميمةِ الآخرين. ثمة أناسٌ يعيشون الحياة بكل منمنماتِها، وآخرون يعيشون متلصصين على الآخرين. لا أنكرُ أن الكتابةَ سرقتني من الحياةِ والتفاعل. من التماهي مع اللحظة، فلم أعد سوى متلصصةٍ على خبراتِ الآخرين وحيواتهم. بل ومتلصصةٍ على حياتي في الوقتِ نفسِه، لتُصبحَ في مرحلةٍ لاحقةٍ معيناً إبداعيا. لستُ حزينةً لأني من النوع الآخر، فأنا قادرةٌ على التفاعلِ مع الحياةِ والناسِ ولكن بطريقتي الخاصة، فقد لا أهتمُّ لمذاقِ الطعامِ ولكني أُبدعُ عند وصفِ مذاقهِ في رواية، وقد لا أستمتعُ بالحدثِ بل بكتابتهِ، وربما لا أمتلكُ القدرةَ على الحبِ والعطاءِ مثل أبطالِ قصصي.
حاولتُ أن أكونَ جارةً مثاليةً لجاراتِها. أن أجترَّ معهنَّ ما قمتُ به من أشغالِ البيتِ وتعبِ الأبناء، وأن أغتابَ بصدقٍ أو كذبٍ الجارةَ الغائبة عن الجلسةِ مثلهن، وفشلتُ. ثم حاولتُ أن أَحيكَ ملابسَ الأبناءِ بنفسي، مدّخرةً ما سوف أوفرُهُ لإنفاقهِ في أمورٍ أخرى ضاغطة، وعلى الرغم من أن الملابس الجاهزة راودت أولادي من خلف الفتارين. أقنعتهم بأن ما ستنتجُه يدي يفوقُ الملابسَ الجاهزة جمالا، لكني لم أستطع أن أكونَ خياطةً ماهرة سوى في قصة. حاولتُ أن أتسلى بمشاهدةِ المسلسلاتِ وأفلامِ الأبيض والأسود، مخلفةً ورائي كومةً من قشرِ اللب والفولِ السوداني، لكني كنتُ طوالَ الوقت متيقظةً إلى نقائصِ العملِ الدرامي وثغراتِهِ، فضيعتُ على نفسي متعةَ الاستغراقِ والتقمصِ. لكنّ الكتابةَ قدري. قد لا يحدثُ للإنسانِ ما يستحقه، لكن يحدث له ما يشبهه. ويروقني أن يحدثَ لي ما يشبهني.
لذا ربما أكتبُ كي أخلقَ شخصياتٍ تتفهم جنوحي وأقدر اختلافها.
أو كي أخلقَ شخصياتٍ تمررُ الأفكارَ الخطيرةَ التي لا أقدرُ على قولِها.
أكتبُ - ربما – لأن الحياةَ فقاعةٌ يجبُ أن نصورَها قبل أن تنفجر.
وربما كي أثأرَ من أشخاصٍ جرحوني وليس لي القدرة على تنفيذ ذلك سوى على الورق،أو لأخلّدَ أشخاصا قابلتُهم وأحببتُهم وليس لي مشروعيةُ حبهم، قابلتُهم في زمنٍ كانت فرصُ التصريحِ بحبهم معدومةً.
الأصعبُ أن أخرجَ بعد الانتهاءِ من الكتابةِ لألبسَ شخصيةً من فرط ما ألبستُها من أقنعةٍ لا تعرفني.
وربما أكتبُ كي أتطهرَ بالكتابة. كي أتخففَ من الأثقالِ التي أحملُها على كاهلي، أو كي أخففَ من حدة إدراكي، ومعرفتي بأسبابِ ونتائجَ أيِّ تصرفٍ قد يقع أمامي، كي أخففَ من حدةِ قدرتي على الربطِ بين الأشياءِ التي لا رابطَ مرئياً بينها.
وربما لا أكتبُ .. فالقصة أو الرواية قد تكون مكتوبةً سلفا، وموجودةً في مكانٍ ما بداخلي أو في الخارج، وأنا لا أفعلُ سوى الذهابِ إليها وإحضارِها من مكانها، كما قال نحاتٌ: أنا أذهبُ إلى الصخرةِ وأقشرُ التمثال.

بين الخطاب الأدبى ، والحكاية التاريخية
قراءة فى : مجموعة "من خرم إبرة " ، رواية "الكفة الراجحة" للقاصة / منى الشيمى
دراسة بقلم: د.محمد عبد الحميد خليفة


1. مجموعة " من خرم إبرة "
تعد تجربة منى الشيمى القصصية فى مجموعتها " من خرم إبرة " تجربة ثرية ، تمتاز بمجموعة من العناصر ، تعد هى سر ثرائها ، كما أن تَجمُع هذه العناصر فى ضفيرة سردية واحدة واحتشادها بها جميعاً يعد سراً آخر لامتيازها وتفردها ، وهذه العناصر يمكن بعد وضعها تحت مجهر النقد التحليلى حلها إلى مجموعتين : أولاهما عناصر موضوعية ، والثانية فنية تتصل ببعض عناصر السرد القصصى وآليته .
1. فأولى القضايا الموضوعية ، أن المجموعة برمتها فى قصصها الخمسة عشرة تعالج قضايا الإنسان ، نابشة فى أعماقه ، تستل ذلك الإنسان فى صوره المختلفة وردود فعله العفوية تجاه ما يتعرض له مع الآخر الذى قد تربطه به علاقات اجتماعية ، وهذه السلوكيات العفوية تكشف الإنسان أمام نفسه قبل أن تكشفه أمام الآخر ، وذلك يبدو مثلاً فى قصة " المفتاح " التى أشار عنوانها إلى حالة مفاجئة من تغير العلاقة الاجتماعية بين المرأة وجارتها اللتين تعودتا على ميثاق حب وجوار يتخلله سمر متصل أكد توحدهما ، غير أن – ولسبب تجهله الساردة – يبدأ التحول المفاجئ من الجارة الأخرى ، إذ تتعمد تجنب جارتها والاحتكاك بها على عكس ماكانت العادة بينهما ، هذا الأمر الذى أرَّق المرأة الساردة وأصبحت الدنيا أمامها ضيقة مغلقة ، تهتز أمامها علامات الاستفهام . الأمر نفسه نجده فى قصة " من خرم إبرة " التى تجسد شعورا إنسانيا تمر به أديبة مبتدأة تعلق أملها بأحد كبار النقاد الذى سينشر لها باكورة أعمالها ، ولما أعوزها لقاؤه كان الخيال الذى يرسم للإنسان كيف هذا الآخر ؟ يفكر ويكون هكذا ، إنها تنظر إليه من خيالها الضيق كخرم إبرة ، ترسم له صوراً وتتوقع منه ردود فعل قد لا تتفق مع الواقع المعيش غير المتخيل . وفى قصة " على كف عفريت " تكشف عن مخبوء داخل الإنسان قد يخرج ويتصرف فى شكل سلوك عفوى غير مبرر ، ربما الفضول !، أو رغبة داخل الإنسان فى الاستحواذ على ما فى يد الآخر ، يحدث ذلك عندما تحتال على رصيد صديقتها من هاتفها الجوال وتضعه فى هاتفها ، يساعدها على ذلك قدرة الآلة الحديثة السريعة المطيعة ولكنها لا تعلم كيف فعلت ذلك . وأخيراً قصة " فى منتصف النهار " الذى يتعرض فيه إنسان لسرقة وهو فى غفلة عن الزمان والمكان ، يفاجأ بأن هناك من اقتحم عليه عالمه وخصوصيته ويعربد فى ظلامه وهو غافل ، ثم إذا انكشف الأمر ظهر كمن تعرى أمام الآخرين وثبتت عليه الغفلة وهو فى ذلك الحال يتمنى أن ينكر ما وقع به وبيته من سرقة – رغم حقيقتها – هرباً من مكاشفة نفسه بالواقع . إن الساردة فى هذه القصص وغيرها تلتقط بعناية شديدة الإنسان مكشوفاً أمام نفسه بسلوكه العفوى الذى قد يحار فى تبريره لنفسه وللآخرين . كم هو ضعيف ذلك الإنسان الذى يتظاهر أحياناً بالقوة والقدرة على امتلاك كل الخيوط وهو مع ذلك إنسان يحمل الضعف إلى جانب القوة ، والغفلة إلى جانب اليقظة ، تغيب عنه أشياء فى الوقت الذى يظن فيه علمه بها .
2. غير أن إنساناً بعينه حرصت الساردة على أن تسبر أغواره وتجوب عالمه ، إنه المرأة ، ذلكم المخلوق الذى عملت الطبيعة على تحديد معالمه النفسية ، وأسهمت البيئة الاجتماعية " زماناً ومكاناً " فى تحديد هذه الملامح بصورة جلية نلمسها فى سلوكها ، فلا ندرى أتناقش الساردة قضايا المرأة أم تدافع عنها أم تدينها أم هى كل ذلك معاً ؟. غير أن الواضح فى كل هذا هو جرأتها فى اقتحام عالم المرأة الذى قد يمتلئ بالمتناقضات والأسرار ، ولفتها إلى واقعها فى بيئتنا العربية المحافظة ومشكلاتها ومدى ما تقع فيه أحياناً من ضغوطات اجتماعية ونفسية، وصراع بين جبلتها العاطفية وتفكيرها الذى هو نتاج هذه البيئة الاجتماعية . ولعل قضية فتور العلاقة الزوجية وشعور المرأة وتصرفها إزاء هذا الفتور الذى يضرب أبواباً كثيرة أوصدت على علاقة تبدلت أو قل تحولت مشاعر القابعين خلفها . غير أن اللافت فى هذه القضية تحديداً أن الساردة قد قدمت صوراً ومواقف للقارئ غاية فى الدقة بفضل قدرتها على التعبير باللغة الفنية ذات التعبير الإيحائى عن هذه المشاعر والسلوكيات النسوية دون أن تعلق تعليقاً يعكس موقفها النقدى على هذه السلوكيات وكأنها تضع ذلك كله أمام القارئ – كل قارئ – ليعلق بحسب أيدلوجيته وثقافته ؛ فتستهل مجموعتها بقصة " عند حافة الدفء " التى تجسد لوناً من الحرمان العاطفى الذى تعانى منه الزوجة حينما تشعر بإهمال زوجها لها فتلملم من بعض الحوادث التى وقعت بشقة جارتها لتنسج بخيالها من هذه الحوادث المبعثرة قصة خيانة هذه المرأة الجارة ، لكنها فى الوقت ذاته تصب عليها جام غضبها، لا على أساس من منطق خلقى وإنما حسداً لها لما تعيشه من دفء تعانى منه الساردة التى أولاها زوجها ظهره وغط فى نوم غير مكترث لزوجه التى اقتحمت بعين خيالها الجدران لترى كيف تنعم الأخرى بحرارة الدفء ، وقد طاف بخيالها للحظات أن تكون مكانها وأن يزورها هذا الدفء . إن الساردة تضع أمام القارئ فى صراحة ودون افتعال هذا الحلم فى سياق واقعى قابل للتكرار لدى كثير من النسوة اللاتى يعانين ما عانت شخصية القصة. وتتكرر نفس الحالة فى قصة " ممر بين نافذتين " إذ تلجأ هذه المرأة التى تحكمها تقاليد اجتماعية شرقية إلى العالم الافتراضى تعيشه عبر نافذة الكومبيوتر ولوحة المفاتيح ، تحاول النفاذ أو قل البحث من خلاله عن من يرد إليها أشياءها المبعثرة ، يبث فى أنوثتها الحياة والحرارة من جديد ، إن القصة تجسد حالة تلف أبواب الزوجية الموصدة على صمت مطبق حل محل الحوار الحار ، وبرودة محل حرارة اللقاء الأول الذى ربما بدأ فى ممر فضائى افتراضى بين حاسوبين ( أغمضت عينى فحضرت ، جنية تتسرب من قدر عتيق , تذكرنى بتفاصيل قديمة ، تعيد علىّ ما اهترأ من صور ، دموع الحزن مالحة ، تنساب خطين ، أنبتت شوكاً ليلياً ، تنهار جدران غرفتى لتتكوم على صدرى ، يترك ابتسامته فى حلقة السمر وينسى لسانه عند الأصدقاء ، يتجسد كشتاء عات ، ينثر ندف ثلجه ، أتكفن بصمتى ، ببرودتى ، وأرقبه بصمت ، أنتظر كلمة منه تعيدنى إليه ، يسقط رأسى على صدرى ، ولا ترى نظرتى سوى قدميه ، أفعل له ما يطلب بقلب مكلوم ) [ ص64 ] ، وتحاول المرأة فى هذا الموقف أن تلتمس حلولاً من أى مكان حتى ولو استعارت أو قل أفادت من إحدى المسرحيات التى حكتها لها صديقتها . وفى قصة " على إيقاع البندول " قد تقع المرأة البسيطة فى نفس هذه الحالة التى قد تقع فيها المرأة المثقفة ، وكأن الساردة تعلن وجود ظاهرة لا تقف عند طبقة دون أخرى من النسوة ، غير أن هذه المرة قد تقع فى براثن الخيانة امرأة من قلب البيئة المحافظة التى ربما لم يسعفها فكرها البسيط فى صد هيمنة حاجتها العاطفية الجارفة من أن تكون أسيرة لنظرة جارها التى استحالت لغة النظرات بينهما قيداً أسرها ، وانصاعت لرغبتها قبل رغبته وقد هيأ المكان وغياب الزوج الفرصة لهما ( طلبت منه أن يحضر خرطوم المياه من الداخل ليملأ لها الزير الفارغ ، فزوجها يحضر التموين من البندر هذه الليلة ، وهى غير قادرة على ملء الزير . أولته ظهرها وابتعدت . نفذ ما قالت بحذافيره . علق الخرطوم بحنفية المياه وذهب به إلى المزيرة . عند حائط البيت الغربى وفى مواجهة الزروع . العتمة تجعل من ظله شبحاً غير محدد المعالم . يلازمه أحياناً ويختفى أحياناً أخرى . وقفت وراءه مباشرة فشم رائحة الحطب المحترق تنبعث من مشارفها . نظر إليها . استدارت فترك الخرطوم والمياه تنثال منه إلى الزير وتبعها إلى الداخل . أقفرَ الطريق بعد أن عادت آخر الحيوانات من الحقول، والرجال فى القرية احتموا بالجدران من وطاة برد بدأ يشتد . بابها مشرع . طالعه ارتعاش ضوء فى الداخل . دخل وترك الباب مفتوحاً كما كان . يواجه باب دكانه بالتمام ، الجاموسة بالحوش تحدث صوتاً أليفاً . تلفتت إليه عند دخوله وعادت برأسها إلى وعاء التبن على الأرض . يعرف طريقه جيداً ، على الرغم من أنه لم يدخل من قبل . مال إلى غرفتها المفتوحة على فناء الدار . دخل وأغلق الباب فى صمت . وجدها ممدة تشهر دفئها وطلاوتها فوق السرير ذى الأعمدة ، صر السرير بمجرد أن اعتلاه . احتواها بين ذراعيه ، كأنهما كانا فى انتظار طيلة السنوات السابقة . أغمضت عينيها رأت نجوماً ملونة وبقعاً مضيئة تلمع فى عتمة الإغماض ، ورأى نفسه كحصان برى يسابق الريح . يقف عند النبع . يشرب ، ويشرب . امتلأ الزير على آخره وبدأ يفيض . هب من جوارها بمجرد أن هدأت أنفاسه . ليلحق المياه قبل أن تغرق الدرب . ارتدى جلبابه واقترب منها . ربت على خدها الدافئ ومسد شعرها . أغمضت عينيها وتمطت ، ارتوت ملامحها بأريحية خافية ) ، ولعلك قد لاحظت معى قدرة اللغة الإخبارية والإشارية معاً فى التعبير عن أدق تفاصيل النفس التى جرفتها العاطفة واستبدت بها الرغبة .
وتبقى بقية قصص المجموعة تغوص داخل المرأة تكشف جانباً من جوانب مشكلاتها النفسية والعاطفية وتشير إلى العلاقة بينها وبين الرجل فى شتى مظاهرها وتكرس القصص الكهفية " هو وهى " هذه العلاقة الأزلية فى نموها الأول بين الرجل والمرأة . وتستمر الساردة فى كشف الزوايا المظلمة داخل المرأة الزوجة والأم ، ففى قصة " لما ابتلعت جمرة " تحرص الساردة أن تكتب بمشاعر الأمومة التى تستبد بالمرأة التى لا تستطيع مقاومة هذا الإحساس : هل لنفسها ؟ أم لزوجها المتطلع إلى الذرية ؟ أم لذلك المجتمع القاسى بأسئلته فى وجه كل زوجة تأخر حملها . كذلك فى قصص كهفية نجدها فى " هى (3) " ترصد قضية الحمل من ذكر وأنثى ، وقيمة ذلك فى مجتمع نشأ ذكورياً ، يمثل فيه الرجل قطبه الرئيس .
هكذا حاولت الكاتبة فى هذه المجموعة وبطريق غير مقصودة إثارة قضية الأدب النسوى بما تطرحه من تجارب قصصية تحكى مشاعر المرأة وتحسن التعبير عنها بشجاعة وصدق يعينها على ذلك لغة طيعة وخيال خصب ، واستيعاب شتى الطقوس الشعبية والتقاليد الاجتماعية الموروثة ، وهى فى ذلك تلمح إلى فاعلية البيئة وسطوتها فى تشكيل ملامح المجتمع وتحديد صورة المرأة فيه.
3. وتكشف المجموعة سمة لا بد من تسجيلها إنها تنطوى على فكر أو قل بنية فكرية تتمتع بها الساردة ، تطرح رؤاها الفلسفية من خلال سرد متخيل تنجح فى إشاعة جو أسطورى أو حلمى فانتازى له ، ولعل قصة " من علمك الأسماء كلها ؟ " تكشف مجموعة من الأفكار وتمثل فى الآن ذاته البعد الفكرى للكاتبة ، ومدى ما تؤمن به فى هذه الحياة ، إنها فى هذه القصة تؤكد فى غير موضع منها أن الخوف قرين الجهل ، وهما يختاران للإنسان جحيمه الأرضى ، وأن الإنسان بوسعه أن يكتشف فى نفسه طاقة المعرفة التى يغير بها قدرته فى الحياة ، فقط عليه أن يمارس طقس العبور ساعياً للمعرفة والإدراك ، ففى هذه القصة نجدنا أمام إنسانة كتبت عليها شروط المكان الذى تعيش فيه أن تحرس ذكراً ، وهى فى الأمر نفسه محروسة منه ومن آخرين ، تعذب ، تؤدى أعمالاً، لا تعلم من أمرها أو مما تفعله شيئاً ، وليس من حقها أن تعلم ، أو حتى أن تدرك من نفسها شيئاً ، حالة من القهر الفكرى تسلب الآدمى إدراكه حتى لنفسه فى ضوء دور يؤديه بنمطية وانتظام ، لا يسأل ، لا يعرف ، لا يفكر ، وإلا فأن هناك حراساً يقومون بتعذيبه ورفع تقارير عنه إلى الزعيم ، إنه الخوف الذى تعمد هذا المكان زرعه بالنفوس . خوف وجهل يضمنان لإنسان أن يكون مسيراً كالقطيع ( كان حارساً علىّ كما كنت حارسة عليه ، كل فرد يشى بما يقوم به الآخرون ، الكل حارس / سجين !! لم يحرك ما فعله الذكر فىّ ساكنا ، لم تتساقط بلورات الملح والتى اعتادت أن تسقط من عينىّ فى مثل هذه المواقف ، والتى أذكر أن اسمها دموع ، أذكر اسمها من موقف تم لى قديماً ، فى مكان آخر ، لا يمت لهذا المكان بشبه ، لا أذكر من تفاصيله سوى القليل ، كان لعدم ضيقى / خوفى / حنقى ، أسباب جديدة ، تذكرت فى نفس اللحظة نظرة الحارس ، لمسته شعرى ، تأكيده لى أنى أنثى ، أنثى جميلة . ) ، وما أجمل نور المعرفة وما أجمل الحب الذى ينير العقل فيبدأ فى إدراك الأشياء والتعرف على أسمائها ، والتحرر من الجهل ، ومن الخوف بأن يضبط وهو يفكر ( ما أجمل أن يدرك الفرد معانى الكلمات ، لكل كلمة معنى ، سحر خاف لا يبين إلا لمن أدرك ، لمن ارتقى مدارج التجربة) ، لصالح من إذن يراد من الإنسان أن يكون جاهلاً حتى بنفسه ؟ وهل هناك ضريبة يدفعها ذلك الإنسان إذا أراد أن يدرك ويعلم ؟ أينتظر ، أم يسعى للمعرفة والإنعتاق والتمرد ؟ أسئلة تثيرها القصة بل تثيرها المؤلفة ذاتها التى قاربت أن تكون الساردة نفسها .
4. ويتصل بما سبق قضية الزمن الذى يعنى التغير والتبدل الذين يطرآن على الإنسان ، يدهمانه ويغيران فيه الكثير، إن الكاتبة تقف لترصد هذا الزمن وفعله بالإنسان ، ففى قصة " مصباح قديم " تشير إلى ما يفعله الزمن من تأثير على العلاقات الإنسانية فى ظل طموحات الإنسان التى لا تنتهى ، إذ لم تعد زميلة الدراسة القديمة هى ذاتها الآن ، إذ فعل الزمن فعله فى طموحاتها كصحفية ناجحة . وتناقش فى قصة " فستانى الأزرق " السؤال الذى لا يستطيع أحد ان يتجنبه وهو : ماذا لو ؟ ماذا لو عاد بنا الزمن ؟ هل كنا سنختار ما اخترناه ؟ هل كان بمقدورنا أن نتبنى اختيارا آخر ؟ فالمرأة فى هذه القصة التى سافرت إلى الوراء – حيث أدارت لها الساردة عجلة الزمن إلى الخلف – لتعود إلى قصة حبها الأول التى فشلت لرفض أبيها ، وهى الآن زوجة لآخر وأم لأطفاله ، وتجيد المؤلفة فى أن تجعل من الفستان الأزرق – التى قابلت به حبيبها القديم منذ سنوات – رابطاً بين الزمنين ، إذ هو الآن – أى الفستان الأزرق – تحاول إعادة تكييفه لإبنتها الصغرى . ومع ذلك فإنها فى قصة "عرائس من طين" تحاول أن تقول أن براءة الإنسان وطفولته تظل ممتدة فى الزمن ، لا تختفى بالكلية .
وما دمنا نتحدث عن الزمن فإننا نود أن نؤكد أن الكاتبة كانت فى مجموعتها القصصية تأخذ بتلابيب زمن السرد ، توظفه بالشكل الذى يتناسب ومعالجتها للموضوع والحدث ، ففى قصة " من خرم إبرة " تجعل من حلم اليقظة المتخيل تقنية تجعلها على علم بما يحدث فى مكان آخر فى نفس الزمان ( زمن السرد ) ، وهذه الطريقة جعلت المكان فى يدها منكشفاً ، امَحت فيه المسافات ، [ انثبق شعاع أثيرى من رأسى ليحط على مجلسك ، على بعد أميال ، رأيتك تتحدث إلىّ عبر هاتفك الجوال ، تجلس إلى مكتبك الذى طالما طالعته فى أحاديثك التليفزيونية ، " أنتيكات " خزفية وفخارية تزينه ، مكتبة عملاقة خلفك ، تبدو منها مؤخرات الكتب مذهبة الخطوط ، لوحة لأحد أبواب القاهرة ، حائلة ألوانها ، قلم تلهو أصابعك به ، كلماتك القصيرة ، المعبرة ، تعبر الأسلاك الأرضية الهوائية ؛ لتصلنى ]( ص27 ) ، والنص السابق تتخيله الساردة وتتمكن من خلاله تقديم لوحة وصفية بشتى تفاصيلها لحجرة مكتب ذلك الناقد التى تعلقت الأديبة الشابة بفكره ، منتظرة منه رده على مجموعتها القصصية الأولى لنشرها ، إن الإنسان بمقدوره إذا آمن واهتم بشخصية ما أن يتخيل تفاصيله ، وتفاصيل مكانه الذى يحتويه ، تسهم فى ذلك مجموعة من الأفكار والتصورات التى كونتها له ، فهى إذن ليست لوحة وصفية حيادية وإنما رسمت من وحى الخيال الناطق بالتصور النفسى المسبق . كذلك فى قصة " عند حافة الدفء " إذ استخدمت ذلك الخيال الشخصى تجاوزت به مكانها ( شقتها ) إلى شقة جارتها المجاورة التى يفصل بينها وبين شقتها جدار ، لتطل بعين خيالها متصورة ماذا يحدث بينها وبين من زارها فى تلك الليلة ، حيث حددت حالتها النفسية – فى لون من الإسقاط أو المعادل – ما يحدث هنالك .
وكما رأينا لوناً من ألوان الاسترجاع فى الزمن بنت عليه قصة " فستانى الأزرق " ، فإنها فى قصة " تمزق " تفيد من الاستباق الزمنى المتخيل حيث يتخيل السارد الذى قتل زوجه خطأً ما سيحدث فى الساعات التالية [ أسندت جبهتى إلى الأرض ، وجدتهم يقتحمون البيت ، يندفعون كالشلال من باب الشقة ويهجمون علىّ ، ينهضوننى من جوار جسدها المسجى ، يتبعثرون فى البيت ككرات مطاطية صغيرة لا تستقر بمكان ، يفتشون الأركان ، أنا مستسلم لهم ، أرقب حركاتهم بلا مبالاة ، وصمت ، وجوه كثيرة تطل من باب البيت ، لمحت منها جارى مهندس الكهرباء ، وآخر يفتح معرض للموبيليات فى أول الشارع ، لا أعرف كيف عرف الجميع بموتها، كيف حضرت الشرطة بمجرد تأكدى من لفظها أنفاسها ، رغم أن ابنتى فى حجرتها نائمة ولم تستيقظ على صوت شجارنا ، ولا على صوت صرختى عندما تأكدت من موتها ، ولا على صوت الفوضى التى صاحبت الزحام حتى رفع كبيرهم صوته بأن يكفوا ، أن يغطوا جثتها بملاءة حتى حضور الطبيب الجنائى ، وأن نجلس للتحقيق المبدئى فى حجرة أخرى .
رفعت وجهى ، تأكدت أن ما رأيته لم يكن سوى تصورات لما سوف يحدث فى الساعات التالية ....... ] ( ص94 ) .
5. ومن أهم التقنيات التى بنت عليها المؤلفة معظم قصصها تقنية " المونولوج الداخلى " ، فهذه التقنية التى يلجأ إليها الكاتب نجدها أساسية فى تلكم القصص التى يحاول كاتبها رصد ما يجيش بالنفس الإنسانية القلقة ، المترددة، المتخوفة ، إنه يعكس حالة من عدم الاتزان داخل الأنا الواحدة فى علاقته بالذات أو بالآخر ، والكاتبة يبدو أن لديها قدرة فائقة فى تحليل النفس والتعبير عن شتى الإنفعالات الداخلية، أو قل الصراع السائد، حالة التردد والصراع الداخلى حينما وجد نفسه فجأة ودون قصد قاتلاً زوجه ، وفى قصة " المفتاح " تنجح الساردة فى وصف الحالة النفسية لتلك المرأة التى وقعت أسيرة الأسئلة بعدما هجرتها صديقتها دون إبداء أسباب منطقية ، فتقع فريسة الحيرة القاتلة التى هى كالدبابيس التى أخذت توخزها ، كذلك رأينا جانباً من هذا الأمر فى قصة " من خرم إبرة " التى أشرنا إليها أيضاً منذ قليل . وفى قصة " ممر بين نافذتين " التى تعالج قضية الزوجة المهملة ، نجد فى جزئها الثالث استثماراً جيداً لتقنية الألعاب السينيمائية ، إذ يتوقف السرد ويبدأ المونولوج فى لعبة الصوت والصدى ، وهنا يتدخل السارد العليم بالتعليق [ صوتى الداخلى يحدثنى ، ينفض صديقتى فتخرج من دائرة اهتمامى ، " ربما لو بقى زوجها طويلاً لبكت نفسها، لانكشف أمامها وأهملها ، يجب أن لا يحدث شئ عظيم كى تتحول الحياة إلى النقيض، بل نذهب إلى شيخوختنا بهدوء مقيت ، نكتشف هذا فى غفلة وقد كنا فى الشباب نظنها بعيدة الحدوث " .
تصفق صديقتى أمام وجهى فيطير سرب أفكارى وأعود للإنتباه مجبرة ، وتعود هى لتلاوة المسرحية التى قرأتها أخيراً ] ( ص62 ) . وفى قصة " مصباح قديم " يقوم المونولوج بمحاولة كشف العلاقة بين الأنا والآخر حيث تفكر الساردة فى علاقتها بزميلة دراستها ومدى ما طرأ على علاقتهما من تغير .
6. والمجموعة برمتها تثير فى الذهن إحدى القضايا ذات المستوى النظرى فى الكتابة القصصية عموماً ، إنها قضية التمييز بين ما يسمى : " بالخطاب والحكاية " ، وهى القضية التى أثارها اللساني الفرنسي المعروف إ.بينفنيست EMILE BEN VEN VENISTE (1902 – 1976) ، إذ ميز بين الخطاب والحكاية فى عنصرين أساسين : الزمن والضمير ، فعنده أن الخطاب القصصى لا يقف عند زمن محدد ، حيث يجرى فيه الاسترجاع والاستباق وسائر التقنيات الزمنية ، كما أن الضمير قد يختلف من الخطاب إلى المتكلم إلى الغياب . أما الحكاية التاريخية فغالباً ما يكون زمنها ماضياً ، والضمير غائباً . وعلى هذا ، فإنه يمكننا النظر إلى المجموعة فى أنها تنقسم إلى خطاب قصصى ، وحكاية تاريخية ؛ فالقصص الأربع عشرة الأولى تعد لوناً من ألوان الخطاب القصصى لما استخدم فى بعضها من تقنيات زمنية مستقبلية وحاضرة وماضية ، ولأن ضميرها أيضاً قد تنوع ولم يقتصر على الغياب المحض . أما ما اصطلحت الكاتبة على تسميته " 15 - قصص كهفية " فأجدر بها أن تكون " حكايات كهفية " إذ هى أقرب إلى الحكاية التاريخية – بتعبير إ.بينفنيست السابق – وذلك للزوم زمنها الزمن الماضى ، وبنية عناوينها على ضمير الغياب " هو ، هى " ، إضافة إلى جوها المفعم بالتاريخية البدائية إن صح التعبير .
7. أما لغة القصة فأقول دون تردد إنها أجمل ما فى المجموعة وأكثر عناصرها لفتاً للنظر ، إذ كشفت المجموعة عن أن كاتبتها تمتلك لغة للسرد غاية فى الحيوية ، غنية فى معجمها ، لا يعوزها تعبير أو تركيب تدلل به على موقف أو حالة ، أو ترسم بها شخوصها ، وهى لغة تتسم بالسلامة والجودة الفنية ، تجنح كثيراً إلى اللغة الاستعارية والكنائية للكشف عن أدق الخلجات الإنسانية خاصة النسوية منها دون إفراط وتزيد ، حيث جاءت اللغة الاستعارية فى مكانها حينما يستلزمها الموضوع أو الحدث ، وهى لغة فضلا ً عن جماليتها الخاصة نجد أن ثقافة الأديبة واستيعابها للموروث الشعبى المحلى منه والأسطورى قد أثراها وأغنى أسلوبها وجعلها ذات مذاق مصرى قاهرى ، وصعيدى وبدائى فى آن ، وهذا يظهر فى قصص " المفتاح ، على كف عفريت ، ممر بين نافذتين ، على وتر مشدود ، لما ابتلعت جمرة ، تمزق ، على إيقاع البندول " ، والمطالع لمجموعة قصص كهفية ( الحكايات ) يجد اللغة مفعمة بروح البدائية وطقوسها وإشاعة ذلكم الجو الأسطورى البدائى الذى يفتح شهية دارسى الأنثروبولوجيا الاجتماعية فى البحث عن النماذج الأولى ومدى استمرارها عبر الأزمان المتعاقبة .
وإن كان لى كلمة أخيرة بعد شكر الكاتبة منى الشيمى فإننى كنت أرى أن تبدأ مجموعتها بمجموعة القصص الكهفية لأنها تؤسس بدايات العلاقات الأولى بين هو الرجل ، هى المرأة ، لنرى القصص التالية ومدى استمرار أو انقطاع أو تغير هذه العلاقات فى حاضرنا الراهن .
على أية حال لقد استمتعت أيما متعة بهذه المجموعة التى تغرى بقراءتها مرة أخرى وقراءة غيرها من أعمال الكاتبة التى أتمنى لها كل توفيق فى مستقبلها الأدبى .

2. رواية الكفة الراجحة
رواية الكفة الراجحة للقاصة / منى الشيمى من الروايات التى تثير بعض القضايا والأسئلة ، نظراً للشكل البنائى أو قل هندسة القصة التى خرجت عليها ، ولما تثيره من بعض القضايا المتصلة بحاضرنا السياسى ، وجدلية " الحب والحكم لدى المرأة " . فرغم أنها تمتح موضوعها الرئيس من صلب التاريخ الفرعونى القديم ، إلا أنها تصل القديم بالحديث من خلال وحدة القضايا المتصلة بالملك وتداعياته ، وحكم المرأة ومشكلاته فى مجتمع تجذرت فيه الذكورية منذ القديم . كما أنها تثير نفس القضية التى أثارتها من قبل مجموعتها القصصية "من خرم إبرة" ، أعنى الفرق بين الخطاب الأدبى والحكاية التاريخية ، فهذه الحكاية التاريخية التى أفادت منها من خلال ما وصلنا من برديات ونقوش وتلميحات بعض مؤرخى مصر القديمة ، وخلاصتها أن علاقة ما نشأت ما بين الملكة "حتشبسوت" الملكة الخامسة بالأسرة الثمانى عشرة بمصر الحديثة ، وبين المهندس المصرى الذى أشرف على بناء ديرها البحرى وكان مربياً لابنتها "نفرو رع" ، أعنى " سنن موت " الذى منحته – وكما يقول التاريخ – حوالى ثمانين لقباً ، فإننا نرى الكاتبة تحاول بحيلة الفن السردى إحالة هذه الحكاية التاريخية إلى خطاب سردى عن طريق إضافة نصوص متخيلة لسد ثقوب الحكاية التاريخية القديمة واصطناع نص سردى هو أقرب إلى الخطاب منه إلى الحكاية . وهندسة القصة تقوم على قسمين كل قسم أشبه بقصة مستقلة تضعهما معاً أمام القارئ . ولسوف نحاول إلقاء الضوء جملة على كل منهما :
1. سنن موت :
وهو سرد أشبه بكتابة المذكرات اليومية وتسجيلها فى صورة رسائل تشبه "أدب الاعترافات" ، كتبها "سنن موت" بلغة الغياب حيناً وبلغة الخطاب حيناً آخر إلى " حتشبسوت " . ويشى زمن كتابة الرسالة أو تسجيل المذكرات إلى زمن بداية حبه لها ، غير أن ثمة عبارات تؤكد أنه يقرأ مذكراته لها فيما بعد فى جلسة مكاشفة بينهما ، أفضى فيها بكل شئ لها مكتوباً . وهذه اليوميات تسجل حياته وطبقته الفقيرة ، وعمله منذ الصغر ، واجتهاده للتعلم ، وبزوغ نجمه الباكر ، ونبوغه المبكر فى الرسم والكتابة ، والعمل بالمعبد ، وترقيته إلى أن أصبح الكبير فى معبد آمون . كما تكشف جوانب من حضارة تلك المرحلة (صنع الأحبار والأوراق ، تصميم ملابس الملكة وعطورها ، دقة المقاييس الهندسية لنفاذ ضوء الشمس فى توقيتات معينة على وجه الملكة ، الكتان وقيمته والحرير والعطور) . وهناك قيمة تاريخية حول قصة حكمها وعلاقتها بالكهنة و (حبو سنب الوزير) . وهذه المذكرات أو هذه الرسائل أو اليوميات تنضح جميعاً بذلك الحب الذى نشأ مع الملكة منذ توهجه لأول مرة وتمكنه من نفسه ؛ حب جعل من المحبوبة شعاعا لا يفارق عينه أبدا فى يقظته أو نومه ، يراها فى كل مكان تشرق عليه ، يتشمم عطرها عبر المسافات ، ويتنسم عبيرها وهى فى قصرها . إنه تواصل روحى نفسى وحسى فيزيقى [ دعينى أتحدث إليك فإنك معى ، أمامى ، بضمير المخاطب ، لقد كرهت ضمير الغائب ، تريدننى أن أكتب لك تفاصيل يومى كى تطلعى على ما لا تستطيع عيناك رؤيته ، مالا تستطيعين الوصول إليه ، أستطيع عبور الحواجز إليك ، فلقد وفرت لى أسباب الحركة حتى قدس أقداسك ، تستطيعين المجئ إلى المعبد ، لكن أى حديث خاص ممكن أن نتجاذبه ؟ فحوائط المعبد لها مئات الآذان ، أما شرف حضورك إلى منزلى فاختلاق أسبابه عصية . لقد سجلت يومياتى ، لكن الورق فى زمنى الأول كان أمنية صعبة المنال ، مكافأة لمن يحقق تقدماً ، لمن يسجل براءة تصميم أو اختراع ، لكن أسباب تسجيل يومياتى خافية ، شئ ما دفعنى، كأنى أكتبها لك ، كأنك سوف تطلبين قراءتها أتعلمين شيئا ما علق بى منذ رأيتك أول مرة ، سوف يكون لى معك شأن عظيم : هل تصدقين ؟ لكن مبدأ الأمر عندك ، أول الخيط ، إشارة البدء ، أما يومياتى فقد سطرتها على صفحات ذاكرتى ، بل حزت مرارتها حزوزاً غائرة ، كنت أشكو إليك قسوة الأيام ] ، غير أن المؤلفة لم تذكر على لسان السارد " سنن موت " شيئاً يذكر يؤكد أو ينفى علم " حتشبسوت " بحبه لها ؛ فهذا الجزء كله هو بوح وإفضاء من جانب واحد لاتسمع فيه صوت الآخر " حتشبسوت " ؛ فهل يحادثها ، أو يكتب لها مستحضراً شخصها أمامه على الورق ؟ .
2. حتشبسوت :
أما القصة أو القسم الثانى فيحكى بلغة المتكلم – فى الجزء كله – حديثاً عن تاريخ حياتها منذ أن كانت طفلة يداعبها تاج الحكم ، مؤكدة أن مشكلة الحكم كانت ما تؤرق أباها وتؤرقها ، دفعتها إلى الزواج من أخيها غير الشرعى " تحتمس الثانى " ذلك الصامت المريض باهت الشخصية والملامح ، ثم موته ووقوعها تحت ابتزاز من حولها : الكهنة ، تحوتى ، حبو سنب . ثم تحكى عن " سنن موت " ، إذ تبدو وكأنها أحبته ولا تعرف لماذا ؟ غير أن حبها للملك أعظم وأكبر [ قابلت " سنن موت " فى أيامى الصعبة ، كنت أسير على حافة هاوية ، وشت عيناه بما لم يقله ، ما لم يكن يستطيع قوله ] . وتمر على بعض الشخوص المحركة لأحداث الحكاية التاريخية والقصة بعامة ، فـ " تحوتى " تلك الشخصية المحورية الغامضة ، يحرك خيوط اللعبة من الخلف ، وهو شخصية ذات سطوة فكرية ، أزرعه أخطبوطية لا تستطيع " حتشبسوت " الفكاك من قبضتها . وتلفت القاصة النظر إلى " حتشبسوت " المرأة الضعيفة القوية فى آن ، ما بين قهرها فى عاطفتها وعدم الاقتناع بها ملكة أمام الشعب ، ثم بابنتها " نفرو رع " من بعدها إلا بحيلة من الحيل ، [ ربما يخطط " حبو سنب " لشئ لا أطيقه ، رغم ما أشار على به ووجدته مناسباً . لقد اقترح أن يخرج كهنة معبد الإله " واجيت " على الناس بشئ جديد ، سوف يقولون أن الكاهن حلم أن " آمون " تلبس الملك المتوفى أثناء مضاجعته الملكة ، أن " نفرو رع " من صلب الآلهة ، من صلب " آمون " ، قال " حبو سنب " أن الأمر يجب أن يبدو كأنه حقيقة ، ليبدو حقيقة يجب أن يقتنع القائل ، أن يكافئ، أن يتم الأمر بعيداً عن الملكة ، أن تسمع الملكة القصة وسط الجميع ، كأنها تسمعها لأول مرة ، وتبدى اندهاش المفاجأة الأولى نفسه . ] . فقصة زواجها من أخيها غير الشرعى لضمان الحكم ، تعيد نفسها مع ابنتها وابن " تحتمس الثانى " غير الشرعى ، إنه - تاريخ مفلس - يعيد نفسه .
وهكذا تكشف الرواية برمتها لوناً من استلهام القصة من التاريخ الفرعونى ، مع المحافظة على حدودها التاريخية وخطوط القصة العامة ، كما تكشف أن النص المتخيل إلى جانب النص التاريخى التسجيلى يركز على قصة الحب بين "سنن موت" و"حتشبسوت" . وقد يتوقف سرد القصة الزمنى لينشئ السارد قصة تكشف بعض المشاعر الإنسانية ، مشاعره مثلاً كفقير ينتظر عطية الأغنياء ولو كانت رغيف شعير [أن السعادة التى يشعر بها الملك عندما يقدم رغيفاً لفقير لا تضاهى السعادة التى يشعر بها الفقير أبداً ، لقد قدم الملك الرغيف ونسى ، لم يحفر ملامح الفقير فى مخيلته ، لكن لحظة حصول الفقير على الرغيف لحظة تاريخية فى حياته ، سجلها على جدار ذاكرته بدقة ، رسم الملامح ودون الزمن ، رسخ الإحساس ، عند أول منحنى يقضمه ، ثم ينظر إلى الرغيف ، إلى الفراغ الذى سببه القضم فيه ، يقيس النسبة بين ما أكله وبين الباقى ، بارع الفقير فى حساب النسب] . ومن خلال السرد القصصى فى الرواية (الواقعى منها والمتخيل) أمكن للقاصة مناقشة قضايا يطرحها النص ؛ كانتماء الرجل إلى طبقة دنيا ، وحيلولة ذلك فى الارتباط بامرأة من طبقة الفراعنة والارستقراطية ، كذلك ناقشت مشكلة التحكم والصراع التاريخى الفرعونى على الحكم خاصة حكم المرأة ، كما تلقى الضوء على جدلية المرأة الحاكمة بين ضعف الأنثى وقوة الشخصية الحاكمة ، وفى أثناء ذلك كله تناقش قضية هيمنة السلطة الدينية فى المجتمع منذ القديم وتدخلها السافر فيمن يحكم البلاد ، وتكشف أيضاً عن نفوذ الكهنة والفساد المستشرى بينهم والسرقة المنظمة لخيرات البلاد ، وعلم الحاكم بذلك وتغاضيه عنه ، وأخيراً تكشف علاقة السلطة الدينية بالسلطة السياسية فى الدولة المصرية حينما يضفى الكهنة الشرعية الدينية المقدسة كذباً على حكم الملكة لإرضاء الشعب .
وتبقى الكفة الراجحة ذلك العنوان المثير للأسئلة ؛ فهل نتحدث فى مستوى السرد الثنائى للرواية عن إحدى الكفتين ( سنن موت ، حتشبسوت ) أيهما ترجح فى ميزان السرد ؟ ، أم هل هى كفة محاولة حتشبسوت إغراء الوزير حبوسنب بالمال ، فى مقابل رفضه المال وطلبه كفة القرب من الملكة ؟ ، أم هما كفتا : الحب ، الملك ؟ ، أم أخيراً - وكأن المؤلفة تسأل - : هل كفة الخطاب القصصى أم كفة الحكاية التاريخية ؟ . إنها أربع فرضيات يرشحهن العنوان جميعاً أو واحداً منهن .
على أية حال ينضاف إلى ما سبق : اكتناز الرواية بلغة – سبق أن أشرت إليها – قادرة بيسر ودون تكلف على التعبير عن أدق المشاعر الإنسانية ، والخلجات النفسية ، ورصد وتتبع نمو المشاعر الإنسانية المحايدة منها والعاطفية ، وكشف خبيأها وصراعها الداخلى . وكان المونولوج الداخلى معيناً فى كشف الزوايا الداخلية للنفس الإنسانية ، مركزة مرة أخرى – أى اللغة – فى ملفوظها ومكتوبها عن أهميتها – كمادة سيميائية تشكل طوق نجاة – فى الخلاص من حالة الخوف من التصريح الحر المباشر أوحالة إخفاء المشاعر وإخراسها بالنفس . ويحسب للقاصة وقوعها على مادة تاريخية مصرية تعيد إنتاجها فنياً الأمر الذى يؤكد بروز شخصيتها والتزامها ، تراثها وثقافتها مع استيعاب نادر للموروث الشعبى والتاريخى الفرعونى القديم بدقة مصطلحه ومدلوله ، وكأنها تقدم نصاً يصلح أن يكون رافداً للتفسير الحضارى لمصر الفرعونية ممثلاً فى بناء الأديرة وهندسة هذا البناء إلى جانب الأزياء وأدوات الكتابة وما إلى ذلك من تفاصيل نظم الدولة السياسية والاجتماعية والثقافية وكذا الدينية . أؤكد على هذا لأننا نجد الآن عديداً من كتابنا الشبان الذين يلجأون إلى استلهام أساطير مغايرة ، وتواريخ أخرى عن أساطيرنا وتاريخنا المصرى . إن الكاتبة / منى الشيمى تبرهن على أن الثقافة المصرية تشكل سداها ولحمتها . فلها الشكر ، مع تمنياتنا لها بالتوفيق .

ايقاعات متفردة على مبدعة من الجنوب.. الأديبة " منى الشيمى "
بقلم/ منى عارف

" للبدايات ذكرى لا تنسى " ..
هكذا وجدتنى أدون أولى عباراتها .. أسجلها وما أكثر مفاتيح الدخول إلى عالمها، عالم ملىء بالمتعة البصرية، الإطار الذى تنسج حوله رواياتها تعددت، تشابكت، توغلت مع أحاسيس المرأة.
فعدت من حيث بدأت أتابع قصة قصة .. على مدونة تحمل اسمها، ربما يشبه اسمى اسمها!! آه منها .. امرأة أخرى تفتح للعقل أبواب المتعة، ظلم الرجل للأنثى، وحدتها، شعائر الصمت، والدخول بكل ثقة إلى حاويات أخرى لم تعشها، أو ربما تخيلتها.
من مجموعة " من خرم إبرة " استدرجتنى أن أتابع من بين نافذتين ما الذى يمكن أن يحدث إذا التقيا أسيرىً الوحدة؟ هل ستتشابك مشاعرهما؟ أم ستظل الكلمة المعلقة دائما : هناك رجال لا يقدرون المرأة، أو يلعبون لعبة (سى السيد) كما فى الحياة ؟ أم يعود ذلك الفارس من جديد ينظم لؤلؤة الكلمات عقدا يحيط به عنق البطلة ، وتتحول إلى قارورة تختزل روح كلماته و تعتقها؟
هل نكتب أحيانا لأنفسنا؟ نرسم أبطالنا من نسج خيالنا؟ أم نضيف إلى الواقع ملامح أخرى تمنينا لو صادفتنا؟
الكاتب..أى كاتب يمسك بالقلم يصور عالما إفتراضيا يشبه عالمه الواقعى، وأى جواد جامح يعبث بأسنة الأقلام ويطلقها!؟
يأتى " النص الغائب " .. يملأ ظل البطل كل مساحات الغياب الذى يتربص بنا ليعود أكثر حضورا فى كل سطر من سطورها .. أى مرار هذا؟ هل للخيانة لون؟ .. رائحة؟
صارت القصة أشبه بجرح دامى ، تتساقط دماء البطلة فيه مع رحيله الجائز أيضا .. أتراه رحل عنها بالفعل ؟ أم مازال يسكن خلجاتها ؟
" فر ضوء القمر الذى افترش السرير" .. ما أبدعها بداية تحمل كل روائح أقـلام الرومانسية الخالصة، وبداية أخرى فى النص المذكور "النص الغائب" :
" تجمعت الريح فى مكان بعيد خلف الأسوار تشبه فى تقدمها شالا حريريا رماديا طويلا ".
تلعب بمفردات الضوء ، تنسج إيقاعا شديد التوهج داخل نصها ، تستخدم مفردات بسيطة غير مركبة ، لغة سهلة سلسة ، تفرد من خلال كل تلك الشبكة المستخدمة بعناية كاتب واعى .. أطروحتها " النص الغائب " نصا بديعا بكل مفردات الكلمة .
" كلما ضاقت على أيامى أمسكت بالورقة والقلم " .. تكرار الإعادة والمقدمة يضعه فى نصاب النصوص التجريبية الجديدة ، ويضعنا نحن القراء أمام كاتبة غير تقليدية، تكتب لكى تصف الحالة بكل جوارحها و جوارحنا .. أسعدنى المرور على بعض من نصوصها.

منى الشيمي.. الممسكة بكل الخيوط
بقلم/ مروة الحمامصى


بمجرد قراءتي لعنوان الفصل الأول في رواية الكفة الراجحة والتي أوردتها بعنوان " سنن موت " , تهللت كتابة تاريخية ما أندرها في وقتنا هذا الذي ازدحمت فيه الكتابة بمشاكلنا المعاصرة , وكبلت تلك المشاكل عقلنا وأقلامنا لندور في فلكها , وأنا كدارسة وعاشقة للتاريخ لأول نظرة نجحت الكاتبة مني الشيمي في شد انتباهي لتمزج بمهارة ما أعشقه التاريخ بالأدب , ومنى الشيمي تميزت بأسلوبها الرقيق الحالم ووصفها الذي نجح إلى حد كبير في رسمنا للمكان والجو التاريخي الذي عاشوا فيه , فذكرتني بلوحات الرسامين الغربيين الذين اجتهدوا في رسم لوحات فرعوني لأشخاص وأماكن فنت من آلاف السنين إلا أننا نجد أنفسنا مشدودين لها – برغم من احتوائها على بعض التفاصيل التي لا تتناسب مع هذا الجوالتاريخي إلا أننا نعجب بهم لأنهم في البداية اهتموا بتفاصيلهم .
والكاتبة منى الشيمي تراعي الدقة في كتابتها إلى حد كبير فنجد أن الرواية شملت هوامش لشرح الأسماء والمصطلحات المصرية القديمة , كما أن أسلوبها يجمع بين العصرية والأسلوب الذي يناسب الكتابات التاريخية في الوقت نفسه , وراعت التوازن بينهما , مزجت مع كتابتها القليل من روح السخرية لتشد القارئ وتلفت انتباهه وتنزع عنه الملل.
بصراحة شديدة الكاتبة منى الشيمي وروايتها "الكفة الراجحة" أحييا في نفسي حلم راودني منذ أن بدأت أحاول الكتابة وصدني عنه بعض النقاد , وأنا بسذاجة استجبت لهم .
أما مجموعتها القصصية "من خرم إبرة " , نجدها قد قفزت بنا لتعود لعصرنا الحالي وتعود البطلة التى هي محور الأحداث وهي الساردة في نفس الوقت وأحداث القصص كاملة تقع بناء على روايتها ورؤيتها الشخصية وبناءا على خبرتي المحدودة لا أدري إن كان هذا عيبا أم مقدرة خاصة . وفي رأيي تميزت قصتي "ممر بين نافذتين" بتعبيراتها الجديدة المزدحمة اللافتة للتفكير , أما قصة "من علمك الأسماء كلها" هي في حد ذاتها لافتة للتفكير والتمعن .
وفي النهاية أجد الكاتبة منى الشيمي ممسكة بكل الخيوط لأنها شدت انتباهنا بقراءة ممتعة , بل وترغمنا على القراءة لها أكثر من مرة .












الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

اثلاثاء 21/9/2010م.



ناقدة تونسية ومبدعون سكندريون في مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية



نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية في السابعة والنصف مساء يوم الثلاثاء الموافق 21 سبتمبر لقاءً أدبيا بعنوان


"ناقدة تونسية ومبدعون سكندريون".
وقال الأديب منير عتيبة؛ المشرف على مختبر السرديات، إن الناقدة التونسية كوثر ملاخ ستقدم خلال اللقاء قراءة نقدية في عدد من قصص مبدعي الإسكندرية؛ وهم: خالد السروجي "الحارس"، وسامح بسيوني "فلنقبِّل جميعًا قرابين الطوفان"، وصلاح بكر "البيت الواقع"، ود. عبد الباري خطاب "القبلة الأولى ..... أما بعد".
وأشار عتيبة إلى أن القاصة والشاعرة والناقدة كوثر ملاخ ستقدم قراءتها النقدية للأعمال القصصية للمبدعين السكندريين بشكل تفاعلي عبر شبكة الإنترنت، لافتا إلى أن استضافة المختبر للأدباء العرب تأتي في إطار محاولة مد جسور التلاقي الأدبية بين النقاد والمبدعين ف
ي جميع أنحاء الوطن العربي.


























الحارس
قصة: خالد السروجي

كان حامد المتزوج حديثا , يجلس علي المقهي وفق عادته الصباحية القديمة جدا. يتناول فنجان قهوته مع شيشة المعسل . وعلي المقعد المجاور يجلس الكلب الذي لم يك
ن كلبه, بطريقة تليق بكلب مميز. ويحمل في عنقه ميدالية عليها نقش خاص . وقد عرف حامد أن القرفة باللبن تلائم مزاج الكلب أكثر في الفترة الصباحية فكان يطلبها له مع قهوته.

لم يعرف لماذا أحضروا له هذا الكلب ليقيم عنده , مصحوبا بتحذير بعدم محاولة طرده أو مضايقته. وكان منظره ذاته يغني عن هذا التحذير. واكتشف من اليوم الأول أن هذا الكلب يتمتع بذكاء لا تتمتع به زوجته نفسها.

كانوا قد حددوا بشكل آمر مكان إقامته, فوضعوا له سريرا مناسبا في غرفة النوم بحذاء السرير الكبير. وأوقفوا بحزم اعتراض زوجته علي هذا الاختيار. وعاني هو نفسه من هذا الوضع باستياء وضيق , إذ لاحظ منذ اليوم الأول أن الكلب يراقب بشغف اجتماعه الحميم بزوجته, بينما هو عاجز عن طرده من هذا المكان . ولاحظ أن الكلب كان يزمجر كلما شعر هو بضيق من وجوده..

عندما انتهي من شرب قهوته ,وقام ليلحق بموعد عمله. ركب سيارة أجرة وأجلس الكلب بجانبه . ومما أثار دهشته أيضا أنه منذ المرة الأولي التي ركب فيها الكلب معه وسيلة مواصلات , أن أحدا لم يعترض علي ركوبه. وبعد تفكير عميق أرجع ذلك إلي الميدالية ذات النقش المميز التي في عنقه.

وعند وصوله إلي مقر عمله استقر مباشرة علي مكتبه, بينما قبع الكلب علي مكتب مواجه له , كان رئيس مجلس الإدارة شخصيا قد أمر باعداده له علي وجه السرعة. وأتاح موقع المكتب المواجه تماما للكلب أن يلاحظه بشكل مريح. فكان يثبت نظره عليه دون التفات , وحتي انتهاء مواعيد العمل الرسمية ومصاحبته إلي المنزل. وفي تلك الأثناء لم يكن حامد يفكر سوي في أمور العمل .. فقد تعلم درسا هاما من بعض التجارب السابقة ..ففي أحد الاصباح , بينما يتصفح الجريدة علي المقهي أثناء احتساء قهوته , قرأ عرضا خبرا سياسيا استفزه , فطاف في ذهنه أن بلاده ليست ديموقراطية, بل ولا أمل في أن تكون كذلك في المستقبل القريب. فلم يشعر إلا والكلب قد انقض عليه وعضه في ذراعه.. كانت الإصابة شديدة , مما دفع بأحد رواد المقهي إلي نقله للمستشفي لإسعافه, بينما رافقهما الكلب الذي وجه إليه وهو يتألم نظرات التأنيب القاسية ...
وفي اليوم التالي كان يجلس علي مقعدة الحمام , بينما وقف بجانبه الكلب علي قدميه الخلفيتين متجاوزا رأسه بقامته , وكان يفكر في أن ما تبقي من الراتب لن يغطي مصروف البيت حتي آخر الشهر. فشعر بالحنق , وتردد في نفسه أن اللصوص الرسميين وغير الرسميين لم يتركوا شيئا للناس ليعشوا عيشة كريمة . وفي تلك اللحظة فاجأته العظة الثانية , والتي أكدت له قدرات هذا الكلب غير الاعتيادية ..

بعد ذلك التزم الحذر , ومارس علي نفسه رقابة قاسية فيما يتعلق بمثل هذه الأفكار. فلم يكن راغبا في عضة ثالثة بعد أن خالف القاعدة الذهبية ولدغ من الجحر مرتين ..وكان إذا أتاه خاطر مماثل يمنع نفسه من الاسترسال فيه , ويطرده فورا . فكان الكلب يكتفي في هذه الحالة بنباح خفيف , مصحوب بنظرة رضاء..واكتشف حامد بمرور الوقت أن لهذا الكلب العجيب قدرات أخري بخلاف قراءة أفكاره, إذ كان يتمتع أيضا بالقدرة علي الإيحاء له بأفكار معينة عندما تلتقي نظراتهما.
وبعد فترة لم تطل كثيرا , شعر بالارتياح والتوافق مع الكلب , بعد أن تخلص من جميع الأفكار التي يمكن أن تؤدي للعض.

وذات يوم جاءوا ليأخذوا الكلب , وشكروه علي حسن ضيافته له . ولم يستجيبوا لرجائه بأن يتركوه لديه , حتي بعدما تعهد لهم بأن يعامله كواحد من أفراد الأسرة.
ولم يندهش في الصباح التالي عندما لاحظ أن الناس في الشوارع يمشي كل منهم برفقة كلب , تتدلي من عنقه ميدالية ذات نقش مميز ......

تعليق نقدى بقلم الناقدة التونسية/كوثر ملاخ
تعانق عيناك العنوان فلا يلفتك في البداية خاصة حينما تطالعك شخصية الكلب و تجد العلاقة طبيعية بينهما .فالحراسة مهمة موكلة إلى الكلب منذ بدء الخليقة ..لكنك ما تلبث أن تهتدي إلى أن المبدع قد يكون تعمد وضع عنوان غير لافت للنظر ، فعوض أن يختار عنوانا مثيرا قد يفقد إثارته هذه بعد المضي في قراءة النص ، انتقى عنوانا يدهشك حين تكتشف أن الحارس ليس تذكيرا بالدور الطبيعي للكلب ، إنما هو إضفاء لمعنى خاص و فريد على مفهوم الحراسة وتحديدا يكمن الإختلاف في العهدة الموكلة إليه حتى يحميها.
تفرض علينا القصة للنفاذ إلى بعض عمقها أن نتخذ من الشخصية الرئيسية محورا لقراءتها.... و حتى نحدد معالم هذه الشخصية علينا تتبعها في شبكة من العلاقات ينسجها المبدع أولها علاقة الكلب بحامد و زوجته. فهذا الكلب دخل عليهما عنوة ، فرض عليهما ، أحسا بالنفور منه لأنه يبدو عدوانيا ،نسجل هنا حضور ضمير الجمع الغائب (هم أحضروا...) لعل الفاعل هنا معلوم لذا هو مسكوت عنه: هو العرف أو العادات التي تقضي بضرورة وجود حارس لضمان السلامة ، بل لعله ضمير عائد على السّاسة و لهذا حضرت صيغة الجمع....المفارقة تكمن في قبول حامد للكلب بل في أنه أضحى بمثابة الجلد له يصاحبه في جميع الأنشطة حتى عند خلوته مع زوجته. وهو عريس حديث عهد بالزواج و لذلك دلالة في نظري إذ أن هذا الكلب لا يحضر إلا حينما يؤسس الواحد منا أسرة .......ما الذي يضطر حامدا إلى قبول الحارس ؟ الإجابة تمر عبر المفهوم الجديد للحراسة كما أورده المبدع ...هذا المفهوم يتضح في ما يرفضه الكلب ...أولا يرفض رفض حامد لوجوده ...الحراسة إذن تؤتي أكلها بتجذير عقلية الحارس الذي يحميك حتى من نفسك أو أساسا من نفسك ...رفض الرفض هذا _إن صحت العبارة _يحيل على أن كل سلطة (روحية أو فعلية) تستمد شرعيتها من إيماننا بها و تتوخى لفرض نفسها علينا أسلوب الترهيب من رفضها و يشد أزر هذا المعنى أن الكلب حارس لا ضد الخطر الخارجي بل إنه يحمي حامدا من نفسه ...هناك ثنائية هامة تترجم هذه العلاقة و تشرحها هي فكر حامد و عضة الكلب ...الحارس يحمي الشخصية من الرفض لذلك اسمها حامد ، عليه ألا يكون لاعنا رافضا ساخطا ...يريده الحارس اسما على مسمّى : يرى غياب الديمقراطية و الفساد المتسبب في الفقر فلا يفكر مجرد التفكير في الرفض....الحارس يهتف عبر النص قائلا : "الخطر الوحيد الذي يمكن أن يواجهه الإنسان المعاصر هو انتقاد سلوك أو توجه سياسي في وطنه و لا خطر عليه سوى من ذلك" ...اللصوص ينهبون الوطن و لا يمثلون خطرا بل كشفهم هو الخطر حتى بينك و بين ذاتك لأن هذا هو بذرة نمو الوعي السياسي في الفكر ...والوعي تهمة كبرى. فالمنطق يدعو إذن بأن نخنق بذرة الرفض لنجهض الوعي و نضمن السلامة. هذا هو المجال الذي يعمل فيه الحارس و لسائل أن يتساءل: ماهي وسيلته في الحفاظ على أمن هذا المجال ؟ ...ترد العضة وسيلة ردعية للحامد إذا ما أغواه شيطان الوعي أن ينشط ....و الثابت أن الرفض في القصة كان ثلاث مرات أما العضة فكانت مرتين.. و لعلي لا أعدو الحقيقة حينما أجزم بأن هذا الأمر منطقي في تتابع أحداث القصة لأن رفض حامد لسلطة الكلب و حضورها أمر لا يهدد وجود الكلب فهذا الوجود أضحى أمرا واقعا لذلك اكتفى بالزمجرة ، بينما رفضه لغياب الديمقراطية و للفساد يهدد تهديدا صريحا حامدا قبل بقية الأطراف. بعد أن ينجح الحارس في اتمام مهمته مع حامد يحمل معه شهادة نجاحه وهي تمسك حامد به فيعلمنا الباث بذكاء أن الكلب هو جيل من الكلاب مدربة لتقبر الرفض و هنا تتسع الدائرة لتظهر علاقة جديدة بين الكلاب و بقية سكان المدينة ....هو تدرج في بناء النص من الخاص إلى العام ...من المفرد إلى الجمع ....تدرج أثار في ذهني سؤالا : أي مدينة هذه يعيش أفرادها مسلوبي القدرة و الرغبة في التفكير في سلبيات الوضع ؟ أي أمة هذه يعيش أفرادها جميعهم مصحوبين بحارس يعضّهم إذا ما فكروا في حالهم فما بالك إذا فكروا في تغيير واقعهم بل كيف سيفكرون و هذا الحارس يعوقهم عن مجرد الخاطرة ؟ أدهشنا المبدع خالد السروجي غير أنه لم يندهش كما ذكر على لسان حامد في خاتمة القصة إذ وجد كل فرد في المدينة صار تابعا لرقيب يعضّه ليعظه و هنا لم يعد الكلب يتبع سيده بل صار الكلب سيدا علامته المميزة ميدالية ...يرتقي الكلب الكريم إلى كل من له ميزة الوعي بخطر الوعي. يكتسي الكلب أثواب رموز متعددة لعل أهمها الخشية رديف السلامة...خشية لم تجسد في قصة "الحارس "في ثوب جبن أو خنوع بل اتخذت شكل الحكمة (يبدو هذا في تصوير ذكاء الكلب الخارق ...ذكاء لا تتمتع به الزوجة ،ولم أقرأ في هذا تقليلا من شأن الزوجة بقدر ما قرأت فيه إعلاء لشأن الخشية ،إعلاء لا يجب أن يفهم على أنه ترحيب بها أو دعوة إليها بل على أنها واقع مفروض و موجود كان في التاريخ مسجلا تحت عنوان التقيّة و لازال موجودا في العصر الحديث غير أنه أصبح جهازا منظما بحيث لم تعد مسألة التقية مطروحة للبحث هل هي حكمة أم سلبية بل اعتمدناها بفضل الرقيب أو الحارس فضيلة ..على أننا نشير إلى أن القصة قد تقرأ بمفهوم أوسع فيصبح الكلب كل سلطة تعوقك عن التفكير أو إعمال العقل كالتعصب أو الطائفية أو غيرهما أضف إلى هذا أن للكلب مكانة في المجتمعات الغربية أيضا فننفتح بذلك على استفهام خطير : ما هي حدود العلاقة بين القصة والواقع العربي و ما هو دور المجتمع الغربي في هذه الرقابة ؟ فعلا قصة عميقة في رموزها أجاد فيها المبدع إذ وظف كل رمز في إطار بناء سردي متين و اعتنى بالتفاصيل التي يمكن أن تكون مؤشرات يهتدي بها القارئ ...و إذ أشكره فإني أشكر الله أن الكلب الذي يصاحبني لم يعضني في بعض المواضع الواردة من التحليل.

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 21 سبتمبر2010م)


























فلنقبِّل جميعاً قرابين الطوفان
قصة: سامح بسيوني

*روح النهر
1 ـ النهر العطشان:
زئير (النهر المقدًّس) يمور.. يستفحل..
ينظر إليه (روح النهر) بانقباض في حدقتيه.. يؤدي لـ (النهر العطشان) صلاته الحاسمة بأن يوسع سطحه الرقراق تقبيلاً.. تتكثَّف في ذهنه الحقائق..
2 ـ خطر الطوفان:
في (المحفل) يقف..
إلى الشعب العاشق للتقبيل.. الطوفان سيهطل على الأبواب.. سيقلِّع الأشجار والبيوت.. سيمحو البشر..إلا إذا.........................
تقديم القرابين،لا بديل.. روياً لعطش (النهر المقدَّس).. سدَّاً لزحف الطوفان.. الأموال.. الأطفال.. إلا إذا......................................
قبِّلوها قبِّلوها.. القرابين القرابين.. لكل قربان قبلة تنجيه وصاحبه من شبق الطوفان.. وتذكَّروا أن (نهركم المقدس) هو الذي علَّمكم عشق التقبيل.. قبلة مختلفة ستكشف ماهية (الفتاة القربان الأعظم).. وحدها تكفي ليشربها (النهر المقدَّس)، فيُشل الطوفان في مهده.. (قبلة بطعم العدالة) التي لا يرضى بغيرها (نهرنا العظيم).. فليسرد كل من (رؤوس الناس)_ [الأكثر عشقاً للتقبيل من الشعب] _ واقعه في نفسه.. و(روح النهر) مطَّلع على أغوار النفوس.. وليحمل كل منهم اللقب الذي أضفاه عليه (النهر المقدَّس) اشتقاقاً من واقعه.. من ير نفسه ظالماً فليقبِّل.. من ير نفسه مظلوماً يلقي قربانه لـ (النهر المقدس) دون قُبل.. فـ (النهر المقدس) لا تستسيغ مياهه قرابين الظالمين.. لن يقيم (روح لنهر) سدَّاً أمام داره.. لن يعتلي جبلاً.. كونه الروح يعصمه من طوفان الجسد..
*صدى الحياة
1 ـ النهر العطشان:
زئير (النهر المقدًّس) يمور.. يستفحل..
تنقبض إليه عينا (صدى الحياة).. يئط عرشه تحته.. يرتج.. حياة الشعب لا تحيا إلا بتتويجه عليهم ملكاً!!
صلواته لـ (النهر المقدَّس) وفَّرت له انتزاع العرش.. لكن.... متأخِّراً جداً.. جداً.. جداً.. احتمل رجم الناس له بالحجارة.. إصابته بشلل في رجليه.. لينقذهم من إمبراطورية خالية من لذة التقبيل إلى حكمه العامر بالشفاه المتقابلات.. ظلم (صدى الحياة) الناس بتأخره في انتزاع عرشه، وحرمهم من عظمته طويلاً..
2 ـ خطر الطوفان:
في (المحفل) يقف..
بيدين مائيتين يحمل عرشه.. يقبِّله.. يأتي بولي العهد.. يقبِّله.. زوجاته العشر.. يقبِّلهن.. أولاده الخمسون.. يقبِّلهم.. نقوده.. يقبِّلها.. يقيم سدَّاً حول قصره.... يعلِّي القصر سبعة أدوار.. يقطن الدور الأخير ليعتصم من الماء..
اسم (الفتاة القربان الأعظم ):.........................!!..
*بقايا إمبراطور
1 ـ النهر العطشان:
زئير (النهر المقدًّس) يمور.. يستفحل..
الخمر يدلقها (بقايا إمبراطور) في حلقه.. يمارس طقس تقبيله لدموعه الذي عشقه منذ حلَّت به الكارثة!!.. لن يندلع طوفانك يا (نهر).. (بقايا إمبراطور) وقد انتزعت منه عرشه وأقعدت أعلاه من لا يستحق يعرف أنك نهر عربيد.. رفضت تحريمه للقبلات على شعبه حتى لا يغرق في شهواتها الساخنة.. لا يعرف (النهر اللعين) الفارق بين إمبراطورية سابقة عفيفة، ومملكة حالية تفك أربطة الشهوة القُبَليَّة.. (هل لازال النهر المقدس يثير في نفسه شبه خشية؟!!)
ظلم (بقايا إمبراطور) نفسه.. إسهال حنيَّته على شعبه أغرقه في اغتصاب العرش منه..
2 ـ خطر الطوفان:
في (المحفل) يقف..
يحمل أطفاله الستة.. قبلات ست.. زوجاته الثلاث.. قبلات ثلاث.. لا مال له.. لا دار.. يحفر في العراء.. يغرس فيها جسده عدا رأسه البارز.. الصخرة الملساء غطاءاً.. يراهن على دفن نفسه إن هاج طوفان (النهر اللعين) مبرهناً على صدقه غير المألوف..
اسم (الفتاة القربان الأعظم ):.........................!!..
*أصحاب الوجوه الشنيعة
1 ـ النهر العطشان:
زئير (النهر المقدًّس) يمور.. يستفحل..
(وجه شنيع) منهم غسله (النهر المقدَّس) من سرقة القبلات إلى وزارة الأمانة القُبليِّة في الحكم الملكي الحالي.. (وجه شنيع) آخر عاد إلى صلاته لـ (النهر المقدس) بعد انقطاع حجَّر شفتيه، فأثابه بوزارة الشعائر الروحية.. (وجه شنيع) آخر.. وآخر.. وآخر......... كل (أصحاب الوجوه الشنيعة) _ المنبوذين سلفاً في العهد الإمبراطوري _ قلَّدهم (النهر المقدس) وزارات العهد الملكي.. لكن الملك يهددهم بتأييد من حاشيته بخلعهم منها إن كفُّوا عن هتك البيوت والأعراض، لدعم أركان عرشه.. يشويهم بعذاب أبشع من وجوههم!!.. ظلم (أصحاب الوجوه الشنيعة) ملكهم بمعارضتهم تنفيذ أوامره..
2 ـ خطر الطوفان:
في (المحفل) يقفون..
يحملون الشارات الذهبية لوزاراتهم.. كل (وجه شنيع) يقبِّل شارة وزارته.. نقودهم.. كل (وجه شنيع) يقبِّل نقوده.. رفيقاتهم.. كل (وجه شنيع) يقبِّل رفيقته.. يدخلون المنفى الصلبي مع (أولاد الحرام).. أحبَّ إليهم من نهم الطوفان..
اسم (الفتاة القربان الأعظم ):.........................!!..
*سيف الكون
1 ـ النهر العطشان:
زئير (النهر المقدًّس) يمور.. يستفحل..
يعلم الجميع أن (سيف الكون) هو المقاتل الأعظم.. أي سلاح في يده هو أداة لرحمة أعدائه من أطرافه الأربعة مجرَّدة، وشفتيه الصلبتين اللتين أذاق بهما الكثيرين طعم (قبلة الموت).. وهبه (النهر المقدَّس) القوة القاصمة لصلاته بإصرار شفتيه.. حوَّله إلى معاون للملك ساعده في تخليص عرشه بعد أن كان قاطع طرق.. راح الملك يهرس الفقراء _هو ووزراؤه_ بساعد (سيف الكون) الذي لم يقطع طريق فقير في الماضي.. بطن (سيف الكون) التي لا يمتلئ خواؤها تصرخ فيه بأوجاع لا تنتهي.. ُتؤَجِّرهُ إلى من يملك غذائها، ليملأ جزءًا ضئيلا منها، يقيم شيئاً من سواعده، فطول الجوع سيميته فوراً.. ظلم (سيف الكون) قوته بإخضاعها لمن يطعِم..
2 ـ خطر الطوفان:
في (المحفل) يقف..
يحمل سيفه الوحيد الذي رحم به أعداءه من أطرافهم كثيراً.. لا يستطيع تخيل صيرورته قرباناً.. شفتاه تمتنعان عن تقبيله.. تدفع يد خفية رأسه من داخله.. تطبق شفتاه على الحدِّ المسنون.. تسيح دماء شفتيه تغسل السيف.. يقبله سيفه قبلة أكثر دموية.. بطنه تنشق.. موت بطوفان دمه المندلع خير من موت بطوفان آسن..
اسم (الفتاة القربان الأعظم ):.........................!!..
*طعم الليل
1 ـ النهر العطشان:
زئير (النهر المقدًّس) يمور.. يستفحل..
منذ غسل لها (النهر المقدس) ساقيها، رآهما (طعم الليل).. صارت كونه اللانهائي.. طوال الليل يناجي شبَّاكها المغَّلق.. يحدو بغنائه غرامها.. ترفض قبلته التي يتوق إليها أكثر من توقان (النهر المقدَّس) لطوفانه.. يهري يديه وثنايا جسده تقبيلاً باستمرار فظيع.. هو الخبير في فنون التقبيل!!.. ظلم (طعم الليل) قلبه إذ أحب بلا أمل..
2 ـ خطر الطوفان:
في (المحفل) لا يقف..
تنتظر شفتاه ملاقاة شفتيها الناعمتين.. هي قربانه الذي لا يملك غير حبه..
*شفاه سكَّر
1 ـ النهر العطشان:
زئير (النهر المقدًّس) يمور.. يستفحل..
(شفاه سكَّر) بشفتيها المكتنزتين.. مطليتين بأنين العشق الأحمر.. إحداهما صناعية.. أكل الحقيقية قاطع الطرق اللعين.. قرض بأنيابه الشبقة لحم شفتها السفلى، بعدما قرضت هي قلبه بسنياتها اللؤلؤية، مستلذه بطعمه وطعوم قلوب أخرى..
ذلك المجنون بها لا يعلم أنها ترفض أن يطفئ شفتيها بقبلته لخوفها من كشف زيف شفتها السفلى.. ينتشي سحرها المجمَّل بهيامه الغيبوبي اليائس تحت شباكها، الذي تُحكم إقفاله إن لمس أذنيها حثيثه.. تتمنى لانهائية الليل ليستمر غناؤه مضخِّماً حلاوتها التي لن يخدشها نقص شفة واحدة، رغم أنها تحرمها متعة التقبيل الذي ينشيها مزيناً فتنتها في القلوب والعقول!!.. حتى لو كانت تلك المتعة تنقلب لهيباً يحرق مقبِّليها ومريدي تقبيلها، ويذيب عقولهم في أبشع جنون..
تغسل في (النهر المقدَّس) ساقيها.. يعشقها (النهر المقدَّس).. ينبض بها قلبه وكيانه.. ينتصب لها ظهره الرقراق إذا انعكست عليه صورتها أو لامس جريانه اللامع أضواء سمانتيها.. لا يعنيها حب (النهر المقدس) بأكمله لها طالما لن يوفيها متعة قبلة واحدة!!..
ظلمتها شفتها الحقيقية.. كانت أطرى من احتمال التقبيل المحتوم..
2 ـ خطر الطوفان:
في (المحفل) لا تقف..
مظلومة هي.. لن تقبِّل إخوتها الصغار.. لن تقبِّل القلوب التي دهستها.. نعم، يجب أن تكون مظلومة.. أي قبلة ستنزع شفتها الضعيفة.. الفضيحة!!.. لكن... (النهر المقدًَّس).........!!
*الفتاة القربان الأعظم
في اندفاعة (طعم الليل) وقبلته المعنَّفة لـ (شفاة سكَّر)..... كان يقبَّل المحبوبة اكثر من القربان.. اقشعرت أعين الناس.. احدودبت.. بين أسنانه شفتها السفلى الزائفة.........
نعم.. هذه هي (قبلة بطعم العدالة)!!
عرف (روح النهر) اسم (الفتاة القربان الأعظم)..
أيقنه من تضاعف زئير (النهر المقدَّس).. فورانه الحامي..
احتضانها بمياهه: الوحيد الذي سيعقر ظمؤه..
*...........................
في (المحفل) يقفون..
(طعم الليل) ساتر أمامها.. لن يدعها تحلُّ قرباناً ولو أهلك الطوفان العالمين.. (صدى الحياة) يأمره.. (أصحاب الوجوه الشنيعة) يهددونه.. (سيف الكون) يسبح في دمائه مصوباً إليه سيفه، متمسكاً بأنقاض حياة.. (بقايا إمبراطور) يزكي ضحكاته بجرعات خمره.. (شفاة سكَّر) تتعثَّر كليماتها في دموعها.. (روح النهر) يتأمل المشهد السقيم.. راح الجميع يقبلون الهواء في ضياع فتتصادم قبلاتهم في الفراغ وتعلو أصوات ارتطامها..
أبى (النهر المقدس) إلا أن يقبل (الفتاة القربان الأعظم)..
(النهر المقدَّس) يلتهب زئيره.. يتعاظم ظهره الرقراق.. يزحف لسانه المائي خارج مجراه المرسوم على هيئة شفتين عملاقتين.. يـ...............................................................................................

تعليق نقدى بقلم الناقدة التونسية/كوثر ملاخ


تكفي قراءة أولى لقصة المبدع سامح البسيوني لتلاحظ أن أهم سمة تسمها هي التجديد الذي وضح في استحداثه لشكل متميز و مضمون طريف 1) على مستوى الشكل : أخضع المبدع القصة إلى نوعين من التبويب : أ) تبويب خارجي بدا في إسناد عنوان لكل مقطع سردي، و إخضاع كل مقطع إلى عنوانين فرعيين ثابتين هما " النهر العطشان " و " خطر الطوفان (نستثني هنا المقطع الأخير الذي جاء خاتمة للقصة فخلا من هذين الفرعين)...... ب ) تبويب داخلي يربط هذه العناصر حتى لا تبدو متنافرة .و من مظاهر هذا النوع أن يختم المبدع كل مقطع وارد تحت عنوان النهر العطشان بإقرار من المظلوم و ما هو وجه الظلم المسلط عليه في حين تنتهي بعض مواضع خطر الطوفان باسم الفتاة القربان الأعظم و كأن العبارة توقيع و إمضاء يحذر عبره القارئ من عدم اكتشاف اسم الفتاة أو يذكره بضرورة التعرف عليه...نجد في هذا السياق تكرارا لبعض العبارات مثل ّ زئير النهر يستفحل " أو "في المحفل يقف " ...هو تكرار جعله الكاتب وسيلة تربط بين العناصر و تؤكد بعض المعاني و تذكر بأخرى 2) على مستوى المضامين : بين ثنايا القصة تنام إشكاليات تهدهدها يد الكاتب بالتصريح مرة وبالتلميح والرمز أخرى .و لعل أول ما يلفتك فيها حضور الإنسان بمختلف أبعاده روحا و جسدا ، خيرا و شرا فالقصة زاخرة بتجارب عشق كثيرة : ترى العشق الصوفي ، عشق الجسد ، عشق الروح ....فتصبح القصة دراسة في هذه الضروب يستنتج منها القارئ مدى إسهام كل ضرب في سمو الفرد أو في انحطاطه بحسب النوع المستهلك ...على أننا لا نشعر بثقل الدراسة رغم تعمق المبدع فيها ،و ذلك لأنها معروضة في شكل سردي يحتوي تجارب كان فيها الحب بلا أمل ينتهي أو يبدأ بالظفر بالمحبوبة (قصة عشق طعم الليل و شفاه السكر ) فتجلى مدى إسهام العشق في سعادة الإنسان أو شقائه و كل هذا يعكس بلا شك تمجيدا للعشق وجعله ضرورة لاستمرار الحياة ...و كثيرا ما اقترن العشق هنا بمفهوم القداسة بل تجاوزه الكاتب ليعرض مسألة النسب ( الأبناء الشرعيون و أبناء الخطيئة ) و يستوقفك هنا حدث بسيط غير أنه دال فولي العهد يقبل الزوجات العشر و الأبناء الشرعيين بينما تجده في "أصحاب الوجوه الشنيعة يكتفي بتقبيل الأبناء غير الشرعيين فلا تلبث أن تقرأ بين السطور أن المتعة و إن حضرت في العلاقتين الآثمة و الشرعية تختلف في موقفنا منها و أن الفرد ينفر بصفة تكاد تكون فطرية من الخطيئة يمكن عموما الإقرار بأن الشخصيات على تعددها و اختلاف خصائصها في هذه القصة تحيل في جملتها على مفرد هو الإنسان في مختلف أبعاده و بمختلف تناقضاته ، بل أيضا تعكس نظرة لسلم أخلاقي و لمواقف من تجربته الوجودية كموقفه من العدل و الظلم فتلمح عدا ما هو شائع عن نور العدل و قساوة الظلم نماذج لا تعد طلبتها في الحياة العدالة بقدر ما ترمي إلى البرهنة على ظلم الغير لها حتى يقبل النهر المقدس قربانها .وكأننا بصوت خفي في النص يصرح بأن مأساة الإنسان تبدأ في أنه يعتبر نفسه مطالبا لا بإثبات عدله بل بأنه ضحية ظلم الآخرين له هي لعمري قضية لا بد من الوقوف عندها طويلا وقفة متأمل يحاسب نفسه لا غيره. صحيح أن كل هذه القضايا تبقى رهينة تأويل القارئ لها و تعد لذلك ذاتية و نسبية .غير أن الأكيد أن معالجة المبدع للقضايا السياسية جلية واضحة المعالم بل و متكاملة العناصر ....المبدع أرّخ هنا في أسلوب حكائي لمسألة السلطة و العرش ....فتجد الإمبراطورية العفيفة ،امبراطورية عفا عهدها و عوضتها مملكة آثمة . و إن حاولنا تطبيق هذا العرض على التاريخ لجاز لنا أن نرى صورة الدولة الإسلامية المشرقة و إن كان الخليفة مفرد ا فيها و تباينها مع الدولة الحديثة التي حضرت فيها وزارات أطلق عليها المبدع أسماء غاية في السمو (وزارة الأمانة القبلية ، وزارة الشعائر الروحية ....) ولكنهافي الواقع مجرد هياكل لا تعكس تسمياتها طبيعة القائمين عليها فهم أصحاب الوجوه الشنيعة ...حاشية المملكة الآثمة القصة مغرقة في الرمز و الرمز مغرق في العمق و لعل أكثر الرموز التي تفوق فيها المبدع رمز شفة السكر ...يحيل على حضارة فقدت شفتها الطبيعية ،فأصبحت صناعية مزيفة و فقدت بذلك متعتها الكاملة كما يفقد الإنسان ما هو فيه فطري فتصبح سعادته مستحيلة لفقدانه الروح التي بها ينهل من هذه السعادة.الطوفان مفهوم آخر قدمه المبدع بمعنى مختلف ...إنك لا ترى في الطوفان خطرا أو عقابا كما حدث في قصة سيدنا نوح عليه السلام بل هو طوفان متعة قد يكون هو الآخر رمزا لثورة تهدف إلى الإرتقاء بالذات الإنسانية و تنقيتها مما يشوبها و من هنا جاء العنوان دعوة لتقبل القرابين واضحة دون شك فرادة مضامين القصة غير أننا نسجل أن المبدع اعتمد بنية شديدة التعقيد ..بنية نراها سلاحا ذا حدين فهي تدفع القارئ إلى إعمال العقل فينشط بفضلها ذهنه غير أنها قد تشتت ذهنه و تجعله يتوه أحيانا عن المعنى و المغزى لكثافة الرموز وعدم وضوح العلاقة بينها أحيانا مما يجعل القصة منضوية تحت أدب النخبة .

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 21 سبتمبر2010م






















القبلة الأولى ..... أما بعد
قصة: د.عبدالبارى خطاب


قال صاحبى : سأعرفك اليوم على نادى الارامل ... ذهبنا بالسيارة الى الابراهيمية , فى انتظار صديقته... دلفت اليها , قبلته وألقت الى بالتحية .
صديقته سمراء مثل كوب خروب منعش , معطر بالعنبر المرح وحلو الحديث والقفشات والنكات ....
وصلنا الى زيزنيا فى انتظار نانى هانم , هكذا قال صاحبى ... اشرقت مع همسات الغروب , فرنسية القوام والعطر والرنين , وكأنها من قصر لويس الالف عشر , شقراء كذهب بندقى وقت الاصيل , جلست بجوارى , ارسلت قبلاتها تعطر الهواء لصاحبى وصديقته , تعارفنا فألقت بكلمة اهلا , رددت عليها بهمهمة , لو جمعت حروفها , اعتقد ستكون اهلا بك ....
على باب فيلاتها بشاطىء المعمورة , وقفت سيدة انيقة , تستقبلنا بحفاوة وترحاب , انها كريمة هانم , سيدة مجتمع من الطراز الراقى , تخبرك بهذا اناقتها وذوق كل قطعة فى مسكنها , ودفىء حضن استقبالها لاصدقائها , حيث اصبحت واحدا منهم فور هبوطى من السيارة , يؤكد لى هذا ضغطة رقيقة من اناملها وقت تشابك الايدى بالسلام .
وثيرة هى المقاعد الملتفة حول منضدة عليها خيرات الارض والسماء , فى تنسيق بديع مثل حديقة يابانية , تعزف سيمفونية شهية ..
جلست بجانب صديقى , التمس منه الدعم , وفى مواجهتى الاخريات من هوانم نادى الارامل , كما يطلقن هن على انفسهن , مصحوبة دائما برنين ضحكات .. تعنى منتهى الحرية .
مع حلو الف صنف من الطعام , صغيرة قطعه , حلوة المذاق وضحكات القلوب ذات الظلال الحزينة , رغم زينتها الظاهرية ...تغنى الحديث بكلمات الاغانى والحانها , تبادلن الغناء ... احسست بصدى الكلمات فى قلوب الارامل وانعكاسها على حمرة نشوة الوجوه ,على وهج عيون تغلفها دمعة حائرة مابين الذهاب والاياب , دمعة مثل نجمة صيفية فى سماء غاب قمرها , تهمس ثم تخنقها العبرات , لتعاود الهمس من خلف سحابة الذكريات ...
استأذنت للذهاب للحمام , قامت نانى هانم لتساعدنى فى معرفة الطريق .... انتظرتنى بالمنشفة كجارية من الف ليلة احضرتها الجان ..... فاجأتنى بأوراق وردها الاحمر على شفتى ودخولها فى مملكة احضانى مثل الراقصة الهندية ذات الالف ذراع .... اناملها تدغدغ عنقى والرأس , يداها تسحب ذراعى لتطوقها كسوار , الف يد تفتح ازرار قميصى , وأخرى تمرح فى غابة صدرى , ومثلها تتمسح بظهرى كقطة اوحشها الفراق .......
أسلمت الروح لبارئها , وكأنى فى نفق الضوء الواصل بين عالمين .....حشود من البشر تتجمع من اليمين , فاغرة الفاه , متسعة الاحداق , عرفت منهم أبى وأمى وأساتذتى منذ روضة الاطفال . وفى اليسار حشد اخر من القساوسة والشيوخ والرهبان , خلف السباب , بعمائمهم متعددة الاشكال والالوان . ومن بعيد خيول فرنسية تثير خلفها زعابيب غبار , تحمل سيوفا تفتك بالهواء ....
أفقت على صوتها المذبوح يقول " يخرب بيت اهلك " ...لملمت انفاسى وساعدتنى فى غلق المفتوح والمفضوح , وقادتنى أسيرا وسط سعادة العيون , وكأنه قد تحقق المراد ......
جلست باقى السهرة بجانبى , بداخلى , فضاعت منى كلمات الاغانى والالحان , وسط صوت طبل افريقى يضرب شديدا بداخلى , تهتز معه اوتار القلب والوجدان ..........
ودعتنا صاحبة الدار بنفس طريقتها فى الترحاب , واختصتنى بضمة الى حضنها , لا أدرى ان كانت تهنئة ام مواساة ....
سارت بنا السيارة على الكورنش , والبحر فى هياج , ورذاذ المطر الخفيف تحول الى شلال هابط من السماء , يغلق علينا الطريق , فلا فكاك .... مع توقف السيلرة , تحركت القطة الناعسة فى دفىء صدرى , فأيقظت الراقصة الهندية من سبات ... امسكت وجهى بكلتا يديها وشدته الهوينا لتتقابل الشفاه , يدور بينهما حديث ناعم بأبجدية الهمسات , ثم يرتفع الايقاع فتطاير الفراشات , لتحملنى من جديد الى نفق الضوء الواصل بين الحيوات ... اتنسم روائح الجنة وثمارها , احس لهيب النار وفحيحها , ارى آدم وحواء هابطان من السماء متعانقان ... يعود لى الوعى على صوت جملتها الشهيرة ... ومن بعدها كلمتان , آمرتان , وصلنا , انزل ...
هبطت من السيلرة مسحوبا بيدها , مصحوبا بكلمات وداع ... لاأدرى وصلنا الى اين ؟ وكيف وصل بنا المطاف ...
فتحت الباب , اضاءت نورا , يتعاقب مع اضائته انوار ... وكأنه نفق الضوء يسير بنا الى غرفة نومها فرنسية الطراز ....
رحبت بى بطريقتها مع تغير الايقاعات , فالراقصة الهندية بعد عزف المزمار , رقصت على دفوف شرقية , ثم فرنسية النغمات ... لم اشعر هنا بغير لهيب النار وألوانها الزرقاء والبيضاء والحمراء ..... فأخذت اضرب بسيفى مستمتعا بالانين والآهات ....


تعليق نقدى بقلم الناقدة التونسية/كوثر ملاخ
إن ذوق المستقبل يشترط حتى يشبع نهمه من المتعة عدة مقاييس خاصة بكل قارئ و من أهم ما يحدد متعة القراءة عندي صعوبة محاصرة ما ورد في الأثر صعوبة تقترن بتزاحم المعاني التي توحي بها القصة بحيث ترسلك إلى عوالم تحلق فيها و تستمتع بها دون حد و لكنك لا تحسن ترجمة متعتك و لا وصفها. هذه بعض مظاهر الحالة التي عشتها و أنا أقرأ القبلة الأولى للدكتورعبد الباري خطاب.القبلة الأولى قصة جمعت بين ثراء المضامين و تنوع الرموز و نسيج من العلاقات حاكها المبدع ليحلق بنا عبر سماوات مختلفة و متباينة, لكن العجيب أنها غير متنافرة فتجد القراءة تقودك إلى أخرى تكملها و تعضدها. الحدث الممهد لدخول عالم القبلة هو دعوة الصديق للراوي إلى نادي الأرامل.....لم اختار المبدع الأرامل بالذات ؟ لأن الدمعة فيه "نجمة صيفية في سماء غاب قمرها "على حد تعبيره "دمعة حائرة بين الذهاب و الإياب "و القبلة هنا "كقطة أوحشها الفراق "...النشوة مقترنة بالألم...إذن لا نجد النادي هنا مكانا واقعيا بقدر ما هو رمز للفقدان و للشوق إلى اللقاء ، فقدان سببه غياب توأم الروح, و لئن عمد الكاتب إلى الإيهام بواقعية المكان (حضور الإبراهمية ، زيزينيا ،شاطئ المعمورة ،نادي الأرامل ) فإن الدعوة تبدو في الأصل دعوة الروح إلى البحث عن توأمها ، عمن يكمل ذاته و يكون مثله روحا, أرملة فقدت و حنت و تاقت إلى تعويض وضع مأسوي (حرمان الأرملة من المتعة و الأنس ) إلى وضع فيه انصهار الذات مع ذات أخرى . هذا التعبير عن الذات الإنسانية مطلقا يوازيه تعبير آخر عن الحضارات الإنسانية فنجد "حديقة يابانية و راقصة هندية و دفوفا شرقية , و نغمات فرنسية..." هذه المزاوجة بين معجم الفن و أسماء الحضارات و حضور الحديقة تبرز قناة التفاعل الثقافي و روعته و ما يوفر للإنسان من اكتمال المتعة ,,, غير أننا نجد في المقابل الكاتب يحيل على علاقات صراع حضاري مجسدا في الغزو الفرنسي ..و كأ ننا به يهمس : إن أرقى مظاهر التلاقح الحضاري هي مجال الروح و إن أدنى مظاهره السياسة و الاستعمار فيقدم بذلك لقارئه على طبق من ذهب مفتاح التفتح الإيجابي على حضارة الآخر. إن القراءات المتعددة التي تفرض نفسها على كل قارئ يمكن محاولة محاصرتها بمفهوم يؤلف بينها هو القبلة ...من خصائص القبلة متعة عذارتها لأنها لم تستهلك بعد ، هي القبلة الأولى بين آدم و حواء ، لا يجب إذن دخول عالم النص بالمفهوم المتداول عن القبلة تلك التي ابتذلت لأنها تنبع من الجسد و ترضيه بل هي قبلة السمو بالجسد إلى عالم ذوبان روح في روح أخرى ...قبلة كانت بدايتها مباغتة ، فاجأت البطل الراوي و المبادرة فيها كانت لحواء ، هي المرأة تدعوك لتطلعك على عوالم السحر ، هي الوطن الذي يغريك بشهده و يدفعك إلى أن ترتشف منه ...لو أضفنا إلى هذا عنصرا أرى ضرورة التذكير به في هذا الموضع و هو أن هذه المرأة أرملة لخرجنا من ذلك بأن المرأة تضحي رمزا للوعة الموت فتستحيل القبلة نداء للحياة ... هي دعوة الوطن الذي فقد الكثير من أبنائه كل حر حتى يجدد عبره طاقته و يعوض ما خسره. القبلة في البداية وسيلة للقاء ، بعدها تصبح غاية في ذاتها هي الدخول إلى عالم السمو ، عالم يصل بين عالمين : الواقع و الخيال ، الجسد و الروح ، المادة و المشاعر ,,,تختلف التسميات لكن المسمى واحد ...القبلة منفذ لتاريخ خاص (الأب ، الأم ، الأساتذة و الطفولة ) تاريخ أهل اليمين تاريخ ولادة و مجد و أمن و بناء ، و هي في الآن ذاته منفذ لتاريخ عام (رجال الدين و الخيول الفرنسية ...)تاريخ أهل اليسار و الحرب و الصراع ....القبلة صيغة لقراءة تأليفية لتاريخ الإنسان في حفاظه على المقدس و التراث و مواجهته تحديات الحاضر وإغراءات حضارة الآخر...القبلة أخيرا و ليس آخرا نعمة تصلنا بالعالم العلوي بعد أن نسلم الروح كما يقول المبدع إلى بارئهاإن القصة محيرة فعلا فمكانها و زمانها و صورة الإنسان فيها و قبلتها و فعلها البشري و احتفاؤها بمتعة الحس و الشعور كله يبدو محددا واضحا و في الآن ذاته مطلقا و غامضا و من هنا تأتي مشاركتنا دون أن نشعر في سحر القبلة التي لا تعلم أين و لا كيف نصنفها. أختم بملاحظة حول الأنثى الحاضرة في قصة القبلة : هي السمراء و الشقراء و تستوقفني شخصية كريمة هانم التي اعتنى المبدع بوصف لحظة اللقاء (تشابك الأيدي بسلام ) و لحظة الوداع (ضمة لا يدري تهنئة أم مواساة) لنقول إن اللقاء حتمي بين الرجل و المرأة لإقرار السلام ، حتمي بين الحضارات و مشروط بالأمن و المصافحة علامة على التوحد غير أننا نستشرف المستقبل مع المبدع ماذا بعد القبلة فلا نعرف هل أن اللقاء في كل الحالات هزيمة نتقبل عليها التعازي أم أنه فرح و نصر؟ يبقى السؤال معلقا على جدار الغيب غير أنه من الواضح أن الاطلاع على هذا الصنف من الأدب حتمي حتمية القبلة و اللقاء لما فيه من نقل الروح إلى عالم بين عالمين لطالما تاق إليه الإنسان من وراء الكتابة و القراءة و لا شك في أن من قبل هذا النص لا يمكنه أن يقف عند حدود القبلة الأولى لما يكتشفه من أبعاد تتجدد مع كل قراءة ....هذا هو الابداع الذي عودنا عليه المبدع الدكتور عبدالبارى خطاب.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 21 سبتمبر2010م)
























البيت الواقع
قصة: صلاح بكر

أغلقت سماعة الهاتف، والعبارة عالقة بأذني:
ـ ... البيت وقع
تركت العمل، وزملائي الذين يكرهونني. خطواتي تدفعني للوقوف أمام البيت.
أبحث تحت أنقاض البيت عن جثث، أشلاء.. الأصوات تخرج من الغرف. الغرف أعرفها، وتعرفني. أغوص بنظري إلى الحنايا.. كنت أختبيء بداخلها أثناء خروجي من المدرسة، والعاصفة الصوتية تطاردني:
ـ ... يا بليد الفصل، انشالله (.......) العصر
هاجس يحدثني: " لابد من سقوط البيت "
يتعلق نظري بالدور الأول، يسكنه الفرارجي، سارق الفراخ، أعرفه جيداً.
كنت أصعد ليلاً لأتمم على الدجاج، فوق السطوح. عندما صعدت البارحة، وجدت أبواب العشة مفتوحة، وأمه تلقي الماء المغلي المخلوط بالريش قائلةً :
ـ اطلع يا ولا يا سيد علشان ترُم عضمك
وجدت الحزن يرسم خريطة للشقاء بداخلي.
الدور الثاني تسكنه نورا، أول من ارتدت البنطلون الـ ( هيلانكا ).. يبرز مؤخرتها.
أخذت تتراقص على أنغام الـ ( موبايل ) و تقلد فتيات الـ ( كليبات ).
الدور الثالث، ابن عمي الفوقاني السيد. أخوه الكبير كان يقرأ الكتب السوداء، وشمس المعارف، الكتاب الأسود على ضوء الشموع، حتى أمسكت النيران بطرف جلبابه. أخذ يجري بالشارع و النيران تزداد اشتعالاً. نغلق الأبواب والنوافذ؛ حتى لا تتسرب داخل غرفتنا.
وجدت الواجهة القديمة تنظر إلىّ بحزن، وتسقط أمامي منهارة، وأصوات الجيران تأتيني من خلال الأحجار.أبحث عن غرفتي، غارقة في الصمت .. أصابني الفزع.. أترنح، أشعر بسقوط جسدي أمام البيت الواقع.

تعليق نقدى بقلم الناقدة التونسية/كوثر ملاخ
أول ما يطالعك في القصة عبارة تعلق بأسماعنا :البيت وقع ....تقع معه قلوبنا و نواصل الدرب لنعرف ..فنرى يما زاخرا و في عمقه نلمح أن البيت الواقع لا يمثل سقوط بيت و إن كان هذا ظاهر المعنى ...ترى واقعا واقعا بمعنى حاصلا ومفروضا على الكل و ترى واقعا واقعا بمعنى الانهيار والسقوط. نجد تدرجا في البنية السردية مقنعا ...أما عن مقومات السرد فهي* _ الراوي هو هنا راو غير محايد بمعنى هو شخصية فاعلة في النص متفاعلة مع أحداثه و بما أن الفعل و التفاعل سلبيان فيهما اكتفاء بالتسجيل و المشاهدة فقد خطر بذهني أن هذا الراوي ليس سوى المواطن العربي اليوم و قد يكون هذا من أسباب انهيار البيت*_الزمن :نسجل عودة إلى الوراء أو استرجاعا للماضي و عموما هما زمنان :الماضي و الحاضر. وغياب المستقبل منطقي بعد سقوط البيت فلا مستقبل للأنقاض*_ المكان و الشخصيات : لا يمكن الفصل بينهما لأننا نشعر أنهما لدى المبدع في القصة وحدة لا تتجزأ...عموما تتوزع الأمكنة إلى نوعين :-مكان ثانوي : مقر عمل الراوي و المدرسة ....المشترك بينهما أن الفضاء يحيد عما أعد له فمقر عمل السارد يخيم عليه الكره و التباغض رغم أنه فضاء معد افتراضا للتعاون و الوحدة ...بالمثل المدرسة في المتعارف عليه فضاء للمعرفة و تجدذير السلوك الحضاري و تنمية الشخصية بتدعيم الثقة في النفس تصبح هنا مجالا للعنف (عبارته عاصفة صوتية) و مسرحا يهتز على ركحه اعتداد الفرد بنفسه و بذكائه (عبارة يا بليد الفصل). ...و قد يكون هذا من أسباب انهيار البيت..أما عن المكان الرئيسي فهو واحد البيت : تمر صورته عبر زمنين ما قبل السقوط و ما بعده أو أثناءه ...و قد بدأ المبدع بوصف المرحلة الثانية الحاضر و يختص البيت هنا بانتشار الجثث و بحزن يخيم على الواجهة القديمة و بغرفة غارقة في الصمت يبحث عنها فلا يجدها... المكان معهود خبره الراوي و خبر هو الراوي ...البيت هنا دون شك هو الوطن و الوطن العربي تحديدا , كلاهما حضن يحتويك و يؤويك ، تستقر به و عليه ...كلاهما واجهته القديمة حزنت ثم انهارت ، تراثنا مقومات أصالتنا ما يعد بصمة الإبهام التي تعرفنا و تروي تاريخنا تئن من التناسي و التلاشي و الضياع ...يسقط البيت أو الوطن مخلفا أشلاء و ضحايا بشرية و هو ما يحدث في غرف بيتنا العربي في فلسطين و العراق و غيرهما حروب لا يكون ضحاياها سوى سكان البيت العربي وفي المقابل كل الغرف يلفها الصمت...و قد يكون هذا من أسباب انهيار البيتأما قبل وقوع البيت يعد هذا البيت في ذاته واجهة تعرض نماذج من المجتمع ...العمارة عبارة عن ثلاثة طوابق و السطوح كل طابق لا تربطه بغيره علاقة فيم عدا الدور الأول و السطوح الرابط هذا الفرارجي على حد تعبير المبدع سارق فراخ لذلك نجده في علاقة مع السطوح حيث الفراخ رأيت في هذا تعبيرا عن طبقة دنيا (الدور الاول) تعيش الحرمان فتقتات من التسلق و نهب خيرات الأثرياء... علاقة صراع طبقي سببه الحرمان ووسيلته الانحراف لسد النقص و قد يكون هذا من أسباب وقوع البيت ....في الطابق الثاني نموذج لشباب اليوم في زيه و اهتماماته و فراغه من غذاء فعلي للروح تجسده نور التي أعادتني إلى الواجهة القديمة مرغمة ففهمت لماذا تئن الواجهة ...الواجهة هي الأصالة التي أضعنا جذورها ونور هي المعاصرة التي احتسينا حتى الثمالة قشورها (الموبايلات والكلبيبات والهيلانكا ....) ولعل هذا من أسباب وقوع البيت....الطابق الثالث يسكن فيه السيد نموذج للمثقف الذي يستهلك و يجتر الكتاب دخيلا كان أم أصيلا ...النيران تمسك بجلبابه ...الشموع فيها إحالة على بدائية الوسيلة المستعملة في المعرفة و الجلباب فكر عربي يقبل على الدخيل عليه دون أن يهيء له الأرضية الملائمة فيحسن استغلاله لذلك كان العلم وبالا عليه و لذلك حاول البعض غلق المعابر حتى لا تتسرب الكتب السوداء و دخان الحريق إلى الغرف الأصيلة...بحدث واحد (الحريق ) و شخصية واحدة (السيد) أرى المبدع وفق في اختزال مواقفنا في التعامل مع الحضارة الغربية بين رفضها و قبولها... إن البنية الحكائية في القصة بسيطة و موظفة لخدمة قضايا مصيرية للذات العربية و ما تواجهه من إشكاليات في عصر العولمة غير أننا نشعر بالحرج من الخاتمة فالمبدع يختم بشعوره بسقوط جسده أمام البيت الواقع , شعور فزع حد الترنح و في عبارة سابقة يقول أن "هاجسا يهتف لا لبد من سقوط البيت " تصبح القصة صيحة تحذير إذا ما أفرغنا لا بد مما تحمله من معنى الضرورة و نقرأها تبعا لذلك على أنها عبارة شرطية :إن لم يصلح وضع البيت فهو واقع لا محالة ...هذه القراءة نأنس لها تأويلا و افتراضا حتى لا نحبط ذواتنا غير أن واقع القصة لا يبرز مطلقا صوتا يخرج من صمت غرفة ليعطينا أملا في ترميم البيت أو إعادة بنائه ..قد يكون صوت المبدع ذاته و قصته البيت الواقع صوت حر يبث فينا الوعي بخطورة ما يحدث فيكون الوعي بالخطر في ذاته أملا في عدم الوقوع ومنطلقا للنتفكير في سلامتنا و نهضتنا وإذ نسجل النفس التشاؤمي الذي لف القصة فإننا نأمل أن يطل علينا المبدع برائعة أخرى يعنونها البيت الصامد ضد الوقوع أو ما يشبه هذا العنوان ..


(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 21 سبتمبر2010م)