بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 17 مايو 2010

الثلاثاء 4 مايو 2010م .




الغريب والمنزلاوى وأبو شليب ووجدى وعبد الموجود يمثلون 5 محافظات بمختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية





فى محاولة للتواصل مع الحركة الإبداعية خارج الإسكندرية نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 4 مايو الساعة ندوة بعنوان "أصوات قصصية من خارج الإسكندرية" حيث ناقش الأديب عبد البارى خطاب بعض الأعمال القصصية لعدد من المبدعين غير السكندريين، وهى قصص "رغيف الخبز" لابتسام الغريب من المنصورة، "تقاطع" لسعيد عبد الموجود من كفر الدوار، "ذبح الموت" لسميرالمنزلاوى من كفر الشيخ، "الوجه الغائب" لفخرى أبو شليب من طنطا، "بيتزا" لوائل وجدي من القاهرة. يدير المختبر الأديب منير عتيبة.حققت الندوة تواصلا محمودا بين المبدعين والنقاد السكندريين ومبدعين من خمس محافظات مصرية، حيث أكد عتيبة أن الإسكندرية هى العاصمة الثقافية الأولى بالنظر إلى المنتديات الأدبية بها من حيث عدد المنتديات وعدد الحضور بالندوات وجدية المناقشات مثل ندوة الاثنين وإطلالة واتحاد الكتاب ومصطفى كامل والقبارى وغيرها، قدمت الندوة د.عبد البارى خطاب ناقدا لأول مرة لإثراء الحركة النقدية السكندرية التى يسعى المختبر إلى إثرائها على مستوى النقد الإبداعى والأكاديمى معا. تميزت القصص المقروءة بالندوة بمستوى فنى جيد فى معظمها، وبعضها نال استحسانا كبيرا من الحضور، كما أثار معظمها جدلا حول أسلوب الكتابة القصصية وتقنياته وعلاقته بالتقنيات الروائية، والمضامين التى تحملها القصص بداية من الواقعية الصريحة حتى الواقعية النفسية والسحرية وغيرها.
ذبح الموت
قصة: سميرالمنزلاوى (كفر الشيخ)

في وقدة النهار، وصخب الدفن، وطنين الذباب الأزرق، وشحيج الحمار المربوط فى عمود، داهمني شعور أن ما يهبطون به ليس جثة ، إنما هو عبد الهادي المنهمك في حياته الجديدة. القبو القمئ ليس إلا خدعة تصرفنا عن رؤية بساتين وأنهار وقصور وملائكة. ثمة غراب على نخلة سحوق، يهوى برأسه في سكون مطبق. بضع كلاب يغرسون خطومهم في التراب الناعم الحار ويزومون كأنهم يسمعون ما لا نسمعه. لعلها أصوات من نسميهم موتى ترحب بالراحل إليهم.
تجار آلات الري ومعهم جانب كبير من المشيعين وأعضاء المجالس توقعوا منذ البداية خرقا لقوانين الطبيعة، إلا أن الميت سار رزينا غير عابئ بما يدور في رؤوسهم. حين كان يهل في مدخل أي محل يقف صاحبه ليصافحه ، فاحصا الغنيمة التي قد تكون رجلا أو رجلين برفقته. يسأله بود عن طلبه ويخدمه بنفسه:
- غبت عنا لعله خير.
- الحال واقف ربنا ييسر الأمور .
يقول لعماله بعد انصرافه أنه وجه السعد وأحد عجائب العرفا التي لا تنقضي: فهي التي خرج أهلها ليحولوا دون هدم هدار حجز المياه، و قتلوا خمسة جنود جاءوا لمجاملة ثرى. وفى شوارعها نزف ضابط المباحث– مهران- كرامته لما صفعه العمدة أمام الكل. شهدت غيطانها صراعا محتدما بين البحراوية والشرقاوية قتل فيه ثلاثون واستخدمت البنادق والمدى والمسدسات واستعين بالنساء كطعم، ولم تنته الحرب -رغم تهديد الحكومة بإزالة بؤرة الشر هذه- حتى مات معظم الرجال! هي نفسها -ويا للعجب- مقام الصالح محمد وفا ومزار المحبين من أقاصي كفر الشيخ حتى حدود الغربية، حيث القلوب واسعة يأكلون وينامون ويسفحون دموعا حارة لدى الفراق. لا شك أنه يستحق هذا القول ، فلاح بجلابية وتلفيعة يقرأ ويكتب بصعوبة ويقطن بلدا مشاغبا يصير أمهر من المهندسين خريجي الكليات في الفك والتركيب وإصلاح الأعطال دون مليم واحد!؟ في أيام الشح تخبأ له الكيرلوسكار الهندية ، يقول الصبي:
- حجزتها لك من شهر .
يمد يده في السيالة فيعطيه البقشيش. يقول المعلم:
- لو سمعت الشركة بدعايتك الجبارة لأعطتك مكافأة ضخمة!
- يا سيدي الأرزاق على الله، ماكينة عفية، شابة جاموس تحرث وتحلب، الماركات الأخرى مثل ورق السجائر!
رنات التليفونات النقالة لم تكف ، وصلت دسوق وقلين ، والعزب والقرى والتوابع:
- هل كان مريضا؟
- كان هنا منذ يومينّّّ!
يتأمل الذين لم تسمح ظروفهم بتأدية الواجب، وجوه سكان بلده المدبوغة، يسألونهم:
- صحيح عبد الهادي جمعه مات؟
- الله يرحمه .
تنتابهم حمى المعرفة لكن لا أحد يملك سوى شظايا معلومات ، سقط في الطريق إلى الغيط!.
يتعلق الزبون دائما بعيني عبد الهادي وحين يلمح فيهما القبول تنطفئ حسرته على رزمة الفلوس التي ابتلعتها الخزانة الفولاذية. يومه يبدأ في الغيط -إذا لم يطلبه أحد- ويظل هناك حتى يسمع آذان الظهر ثم يجلس أمام الدار تحت الظلة. تأتيه وجوه غريبة يجرى فيها العشم. يخلع التلفيعة والجلابية ويبقى بالكلسون والفانلة ثم يزعق على منصور فيحمل طست الغسيل بين يديه، يقول له بصوت خفيض:
- هات لترين بنزين.
من حقيبة قماشية تخرج المفاتيح، وبينما تجرى الذراعان النحيلتان فوق العدد والخراطيم تنحل قطعة قطعة وتسقط بصوت مكتوم. يسيل فرحه بالناس أحاديث حلوة يشربونها مع الشاي عن أول آلة ركبت في المبنى الكبير. ينتقل إلى زمن آخر فيلبسه الشباب، وتعلو نبرته. كانت تزفر فيتشمم بشغف الهواء المخلوط بالعبير. لقد ولد ونزل من بطن أمه ليكون بجوارها. سنوات مضت ثم تغيرت الدنيا واشترى العمدة واحدة صغيرة يبرق طلاؤها الأزرق في الشمس. همس لنفسه: معجزة..
لما ألح ابنه لم يجد مفرا من الشراء وترك صديقته في بيتها. الضرة عاشت معه فى الجرن وقال الناس: الزوجة الجديدة لحست عقله! حزن وسهر الليل كله. كلب حي خير من سبع ميت! التقط هذه الحكمة لا يدرى ممن! لكن هل ماتت أم حكم عليها بالإعدام؟. هي التي صنعت منه بنى آدم يتميز على سائر الناس وهمست له ساعات الظهر الأحمر بما يسرها وبما يؤلمها: هل تحتاج إلى تزييت، أو وقود أم أن الشوائب وصلت إلى قلبها؟ ألهمه الله أن يخرط قرصا معدنيا فوق المحرك ليحميه، وولد الاختراع في ورشة بهلول، كلما أخبروه بتهافت الناس عليه يقول بانكسار: أنا لم أفعل شيئا كله بإذن الله. عثر العيال -في أوان هياجهم- على المبنى المهجور فمارسوا فيه قلة الأدب. خبط كفيه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم فك حبيبته القديمة وهدم الجدران، أنكر على نفسه الراحة التي شعر بها بعد ذلك!.
يعود من رحلة الحكايا الحلوة، ويعود معه الرجال الجالسون على الحصيرة يجذبون منها أعوادا من السمار لتخفيف الانفعال.
يمسك القطع بين يديه ويضعها على المشمع، كأنه -بجسمه النحيل ورقبته الطويلة ووجهه المسحوب- كاهن فرعوني ينكب على تحنيط جثة عزيز! .
امتلأ الجسر بالعربات الخاصة والأجرة والدراجات النارية والحمير والأقدام وراء الذى استعار موته من موت الآلات الفجائي، وربت أبناء السوق على كتف منصور ليثبتوا حضورهم!. كان ذلك مناسبة تفلسف فيها المتحذلقون والوعاظ وأفرغت النساء أحزانهن وتاب الخطاة مؤقتا وثرثر الأوباش وبلطجية الانتخابات وحكى التجار لصبيانهم وزوجاتهم وعيالهم. يتعين على البلد الكبير المنتفخ بالفقر والعنطزة وعبادة الماضي أن يلقى الموضوع كله وراء ظهره بعد أيام، و يتأهب لإضافة منصور! وبالفعل خرج الشاب المفجوع ضامرا مكور العينين ليروى ترقيدة الأرز التي نسيت، وأراد أن ينعى جمل المحامل إلى ماكينته الصامتة، لكنه قال لنفسه: لابد أنها تعلم، فكل ما على الأرض يحس و يتألم مثلنا! كانت خواطر مزدحمة عصبية قد مرت في باله و شعر بمرارة في فمه وقلبه.
انحنى وأدارها بكل عزمه راسما نصف دائرة. لم ينطق المحرك !. ظل باردا لا يبالى.
- لم تدر منذ الوفاة لابد أنها تحتاج إلى تسخين.
عاود الكرة مرات ، ثم قفز على اللحف النحيل فانزلقت قدمه الحافية وتركت علامات أصابعها. البادرات بدأت تحترق من الشواظ ، لمعت في ذهنة فكرة الاستعارة ، هز رأسه ليشتتها. ما أن تسمع العرفا عن العطل حتى تستدعى الموضوع لتربط في ذيله الخبر الجديد. سيقلق أبوه وينبض العرق الذي يشبه رقاص الساعة في رقبته وستعمر القعدات ويقول التجار: كنا متأكدين أن حادثا غريبا سيقع. وسيتسلل الولد الذي يراسل جريدة مجهولة ليصور. عاد بالطست والبنزين وقلع هدومه ولعبت أصابعه في بطن الحديد حتى امتلأ الوعاء، سآتي بعد العشاء هادئا وأركبها! .. تعشى ورد على سؤال أمه:
- سقيت؟
- من الصبح!
خرج إلى الجامع، جلس بعيدا عن حلقات المنتظرين. رذاذ كلماتهم -عن الفن الذي ورثه وكيف يمكن تحويله إلى ذهب– أصاب أذنيه! كان يخشى أن تنمو حماستهم إلى حد السخرية من الفقيد، وقتها لن يكون الولد المؤدب الساكت، سيضرب الجعيص فيهم بالجزمة! أنقذه الآذان، ووقف يحاول أن يخلى قلبه لله ، تسارعت شفتاه ترتلان و تبعدان به عن الجامع والعرفا. ختم واستغفر وخطف السكة إلى الغيط حاملا الكلوب. كان ملآنا براحة الصلاة ، وبهجة الموسيقى تعزفها جوقة الضفادع، لم يسمح للكلام المسروق أن يفسد سروره . كان على بعد خطوات من الجرن، سمع صوتا جعله يجفل ويلتفت في ذعر:
- يا الهى !.
تهاوى إلى الأرض لا يشعر بجسده ، كان أبوه بالكلسون والفانلة منحنيا يديرالذراع، فتطقطق الماكينة عدة طقطقات يعقبها الهدير، ثم شلال المياه.

إطلالة نقدية بقلم/د.عبد البارى خطاب
يبدأ القاص بعد العنوان المثير للدهشة " ذبح الموت " ... بدفقة من لغة فنية تصويرية , تضع المتلقى مباشرة فى قلب الحدث ..
" فى وقدة النهار , وصخب الدفن , وطنين الذباب الازرق ..... " وبحرفية متميزة , يصنع متتالية من الرموز الفنية " المفاتيح " . تحدد بوضوح مضمون الرسالة " الهدف " ....
" داهمنى شعورا ان ما يهبطون به ليس جثة , انما عبد الهادى المنهمك فى حياته الجديدة ..."
" القبو القمىء ليس إلا خدعة .... تصرفنا عن رؤية بساتين وأنهار وقصور .... "
" ... بضعة كلاب يزومون وكأنهم يسمعون مالا نسمعه .... لعلها اصوات من نسميهم موتى ترحب بالراحل اليهم ... "
خمسة سطور فى بداية القصة , فيها جمال اللغة الفنية المنتجة للبلاغة , والرموز الفنية المنتجة للمضمون , فى تكامل مع العنوان , الذى هو احد الرموز الفنية لدراما القصة .
سطور قليلة تتشكل منها " قصيصة " ذات رمزية وتكثيف , توضح بجلاء فكرة الكاتب فى ان الموت ماهو الا انتقال من عالم الحياة الارضية الخشنة , الى العالم الاخر , " حيث البساتين والانهار والقصور " , وان من نسميهم موتى , هم فى الحقيقة احياء فى " عالم البرزخ " وانهم " الموتى " يرحبون بالوافد الجديد .....
تلك الفكرة ليست من خيال او " فانتازيا " ... بل من فهم واع للفكر الاسلامى ... ويحضرنى هنا الحديث الشريف " ان نفس المؤمن اذا قبضت تلقاها اهل الرحمة من عباد الله , كما يتلقى البشير فى الدنيا فيقولون : انظروا اخاكم حتى يستريح , فانه كان فى كرب شديد ...." وقول سعيد بن المسيب " اذا مات الرجل استقبله ولده كما يستقبل الغائب "
ثم ينتقل بنا الكاتب الى الزمان والمكان قبل حادثة الدفن ... ليوضح ان عبدالهادى " المتوفى " كان يعمل فى اصلاح ماكينات الرى ... وانه كان رجلا صالحا ..." ... انه وجه السعد وأحد عجائب العرفا التى لاتنقضى ..... " , وان حبه لماكينة الرى يصل لدرجة العشق , وكأنها الزوجة الشابة الجديدة .... الى اخر تلك الاوصاف التى يسردها الكاتب باستفاضة ... ليوضح ان الرجل لم يكن رجلا عاديا .
كما يستطرد الكاتب فى وصف القرية وأهلها ليحدد فكرة فرعية , فى انها القرية – الظالم اهلها – والتى يعيش فيها هذا الرجل الصالح ....ويسر بنا السرد الى فكرة فرعية اخرى , ان منصور ابن الرجل الصالح , رغم انه متعلم ... لم يصل لخبرة الاب الموهوب فى اصلاح وتشغيل ماكينات الرى ......
وتنتهى القصة بالمفاجئة ... حيث وجد منصور اباه المتوفى يدير ماكينة الرى مساء ....
يعود بنا الكاتب فى السطر الاخير الى مفهوم روحانى مرة اخرى , يحمل فى طياته " الفصل والوصل " بين العالم الارضى وعالم البرزخ , فرغم الفصل بين العالمين ... الا ان الاتصال بينهما وارد ... وهى ايضا ليست بفكرة من خيال او " فانتازيا " ولكنها مرتبطة بعلم ماوراء الطبيعة " الميتافيزيقيا " او ما يعرف بالخوارقية .....
لقد نجح الكاتب فى تشكيل بنية جمالية للسرد , وبنية موضوعية فكرية و ثقافية للمضمون ......
وما يزيد من جمالية القصة ايضا امكانية قرائتها من النهاية , لتكون هى البداية ... ويصير العنوان فى هذة الحالة هو نهاية القصة .
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 4 مايو2010م)

*******************
رغيف الخبز
قصة: ابتسام الغريب (المنصورة)


وقفت تفتش في أكياس القمامة . ملابسها رثة . وجهها متسخ . تكاد لا تميز ملامحها . لا يرتسم علي وجهها أي تعبير إلا البراءة . لأول وهلة يخيل إليك أنها امرأة عجوز مع أن عمرها لا يتجاوز العشر سنوات . رائحتها كريهة وبشرتها متقرحة . تعيش دائما بجوار أكوام القمامة لا أحد يلقي لها بالا .
كانت لا تري وسط أكوام القمامة في أحد جوانب الشارع الكبير, وكأنهما اندمجا معا , حتي وجدت رغيف خبز, جاف , متعفن . سال لعابها عليه . أطلت برأسها الأشعث , أخيرا , ممسكة بالرغيف بقبضة فولاذية , اتجهت إلي عمود قريب لتجلس جواره وتستمتع بالوجبه الأولي منذ ثلاثة أيام , وتحدق بعينيها الجاحظتين في السيارات المسرعة التي لا تتوقف أبدا.
ما أن جلست حتي فاجأها كلب كبير, أشعث , قبيح , أطبق فكيه بقوة علي الرغيف . حصل عليه مع أنها قاومت بشدة . جري مسرعا بعرض الشارع ولكن فاجأته أول سيارة مسرعة اصطدم بها بقوة ولم تتوقف.

إطلالة نقدية بقلم/د.عبد البارى خطاب
القصة تشكل لقطة سينمائية صامتة , لطفلة متشردة تعيش وسط اكوام القمامة – وكأن المجتمع لفظها ايضا - .... وجدت رغيف خبز متعفن , جلست لتأكله بعد جوع .... جاء الكلب الشرس واخذه منها عنوة .... فنال جزاءه مصطدما بالسيارات المسرعة .......
من بين ثنايا النص نكتشف المحذوف السردى , والمسكوت عنه , الذى يترك مساحة ايجابية لمشاركة القارىء , من خلال رموز ذات دلالة ابداعية متمثلة فى الاتى على سبيل المثال :
" وجدت رغيف خبز متعفن .." , سال لعابها عليه ..." , " تستمتع بالوجبة الاولى منذ ثلاثة ايام .." .... تلك الرموز تعطى دلالة لمدى الفقر الذى تعانيه تلك البلدة ... حيث القمامة فقيرة .... فرغم ان الفتاة " تعيش دائما بجوار القمامة " لم تجد ما تأكله منذ ثلاثة ايام ... كما ان الكلب ايضا اخذ يقاتل من اجل لقمة خبز جافة ....
هذا المشهد الاخير بين الطفلة والكلب ... استدعى من ذاكرتى مشهد الطفل والكلب عند احمد حميدة فى مجموعته " تراتيل نسج الطواقى " حيث الطفل الجوعان يعطف على الكلب الجوعان ويشاركه اللقيمات
فى تفاصيل النص بعض التضارب مثل .."... تكاد لاتميز ملامحها .." و "... لايرتسم على وجهها اى تعبير الا البراءه ..." مما يتطلب حذف احدهما ....
بشكل عام نجحت الكاتبة فى تشكيل لقطة معبرة عن الواقع الحياتى لمعاناة اطفال الشوارع....

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 4 مايو2010م)

***********************
الوجه الغائب
قصة: فخرى أبو شليب (طنطا)

كنا نسيناه ، لا نعرف له عنوانا منذ زمن بعيد ، يبدو أنه عرف من الصحف ، شد على يدىّ مواسيا بكلمات قليلة دون أن ينظر فى عينى ، جلس فى آخر السرادق واضعا ساقا فوق الأخرى ، بدا قميصه الأبيض كبقعة ضوء وسط بدلات المعزين الداكنة ، شديد الشبه بأبى ،لكنه أكبر بعدة سنوات ، أثناء الفاصل بين تلاوتين للقرآن جلست بجواره ، ليست لديه رغبة فى الحديث عن أحوال العائلة ، كلماته مقتضبة ، هادئة وحزينة ، يكاد يكتفى بالإيماءات ، أبديت رغبتى فى زيارته فقدم لى كارتا به رقم تليفون ، واسمه مجردا من لقب العائلة ، قلت :
- أرجو أن تزورنا قريبا .. ودائما.
- إن شاء الله.
- إخوتى يودون زيارتك ، لكنا لا نعرف العنوان.
انفض السرادق فى وقت متأخر من الليل ، دعوته للمبيت ، على الأقل أوصله إلى محطة القطار . قال بحسم:
- لا داعى.
من كان يلومه لو لم يحضر ! لم نره منذ أيام الجد والجدة ، نتذكره فقط عندما نقلب ألبومات الصور القديمة ، لملمت ذكرياتى البعيدة عنه ، لم تتح له شهادة الابتدائية القديمة سوى وظيفة متواضعة بالحكومة ، يزور بيت العائلة بعد أن تزوج ، تقدم له الجدة غداءً شهيا ، ثم تستأثر به العمة فى الشرفة ، يتحدثان طويلا، ويضحكان كثيرا ، عند انصرافه يُـقَبل يد الجد ، ترافقه الجدة إلى باب الشقة ، تدس فى يده بعض النقود وتعطيه "عامودا" به غداء اليوم التالى .
ذات مساء كانت عندنا ضيفة بدينة ، عند انصرافها قال إنها أتت ومعها الشلتة التى كانت تجلس عليها ، أسرعت العمة إلى الشرفة لتدارى ضحكها ، قالت الجدة :
- الله يجازى شيطانك.
كان نحيلا ً ، كما هو الآن ، متوسط القامة ، شديد العناية بمظهره ، يرتدى ساعة ذات ميناء سوداء وأرقام فوسفورية وسوار معدنى يتسع على رسغه ، يحرك ذراعه بسرعة فيستدير السوار كى يستطيع أن يعرف الوقت. يفخر بأنه يسافر بالقطار مجانا إلى أى مدينة يشاء ، أرانى كارنيه مصلحة السكة الحديد.
لا أعتقد أن أحدا سواى كان يعرف عنوان بيت عزوبيته الذى استأجره عند إحدى ضواحى المدينة ، اصطحبنى إلى هناك ذات يوم وفاءً لوعده عندما أكون فى "المسامحة" التى نقضيها ببيت العائلة . تبادل مرة نخبا مع أبى - بعيدا عن الجد والجدة - فى كأسين صغيرتين مملوئتين حتى المنتصف بسائل شفاف قال إنه زبيب ، صاح عند اصطكاك الكأسين : إسّـو . سألته عن معنى الكلمة ، ضحك وأعطانى رشفة من كأسه لها طعم الينسون المخلوط بالشطة ، بعدها أحسست كأنى أجر جفنـّى.
بيته صالة واسعة تنبعث رائحة الياسمين من أصص صغيرة بها ، عند نهايتها درج خشبى دون سياج يؤدى إلى الطابق الثانى المكون من حجرة ملحق بها حمام ومطبخ ، الأثاث مقعدان من الخيزران وسرير سفرى ودولاب خشبى قديم ، وطاولة صغيرة فرد جريدة على مفرشها الأبيض قبل أن يقدم لى الغداء.
كان يحمل مسدسا صغيرا ً سمح لى أن أطلق منه طلقتين ، أيامها كانت الثورة فى بدايتها ، وكان منضما لهيئة التحرير ، حدثنى بإعجاب عن ضابطين برتبة صاغ كأنى أعرفهما ، فى المساء اصطحبنى إلى مأدبة أقامتها الهيئة بأحد الكازينوهات المطلة على النيل ، جلست بين رجال مختلفى الأعمار يرتدون ملابس عسكرية ، بعضهم تخلو أكتافه من الرتب ، وعند رأس المائدة اثنان على أكتافهما نسور معدنية ، خمنت أنهما من حدثنى عنهما.
آخر مرة رأيت العم كنت فى الثانية عشرة من عمرى ، ثم سافرت أسرتى الصغيرة إلى السعودية حيث أعير أبى إلى إحدى جامعاتها. لاحظت تلك المرة أن ملابسه اتسعت قليلا ، وأن ألوانها اقتربت كثيرا مما كان يرتديه أبى. فى أول أجازاتنا السنوية صار بيت الجد موصدا ، واستقرت العمة مع زوجها بإنجلترا، أعتدنا أن نقضى إجازاتنا التالية في المصيف وزيارة بعض أقارب أمى والاستعداد للعودة للسعودية . تسأل عنه العمة فى زياراتها المتباعدة للوطن فلا تظفر بإجابة ، كفت عن السؤال بعد سنوات قلائل ، لم نره حتى اليوم الذي عرف فيه من الصحف.
أظن أنه سيأتي في ذكرى الأربعين ، حينئذ يكاد الأمر يقتصر على أفراد الأسرة ، يجتمعون بالبيت وقد تحرروا من مظاهر الحداد ، يتبادلون أحاديث عائلية لا تخلو من دعابات ، ستتاح الفرصة لحديث أكثر حميمية ، سنعرف ما صارت إليه أحواله. جاءت العمة ولم تصدق أنه جاء معزيا ، سألتنى عن شكله ، صحته ، زوجته ، أولاده ، عنوانه ...
سافرت وهى أكثر حزنا كأنها فقدت الأخوين فى وقت واحد ، أوصتنى أن أجده بسرعة وبأية وسيلة.
عند الضاحية التي اصطحبني إليها صغيرا لم يكن هناك ما يشبه الصورة التي في خيالي ، المكان مثل قلب المدينة ، ساكنوه لا يعرفون بعضهم البعض ، تجولت حتى الظهيرة ، لم أسأل أحدا ، سيكون سؤالى أشبه بمن أرسل خطابا إلى ابنه فكتب على المظروف "ولدى بالقاهرة". الكارت يغفل ذكر العائلة والتليفون ليس له وجود ، الاسم يحمله آلاف من الرجال : أحمد فؤاد محمد. ومض الحل فى ذهنى عند صلاة الظهر ، قصدت هيئة التأمينات والمعاشات ، ظهر العنوان كاملا على شاشة الكمبيوتر ، مساكن السلام ، بلوك 12 شقة 4 .
عند بيته تكاثر الأطفال حول سيارتى ، ساكنة الطابق الأرضى امرأة ضئيلة الحجم شاحبة البشرة ، تبيع الصابون والسكر والشاى والسجائر من شباكها الواطئ ، أوصيتها بالسيارة ، أنصت فلم أسمع للجرس صوتاً ، طرقت الباب مرتين ، فتحه شاب فى العشرين يرتدى بنطلون بيجاما وفانلة بها ثقب عند موضع الكبد ، أجلسنى بالصالة الصغيرة ، بها أريكة ومقعدان ، فى ركنها مكتب معدنى صغير عليه بعض المراجع الأجنبية ، شممت رائحة الياسمين تنبعث من الشرفة الصغيرة ، قال إن العم حدثه عنى كثيراً ، أطلعنى على صور قديمة للعائلة من بينها صورة لى معه في حديقة الحيوان ، بعد دقائق قدمت لى القهوة سيدة تتشح بالسواد.


إطلالة نقدية بقلم/د.عبد البارى خطاب
هى حكاية الابن الاكبر الذى لم يكمل تعليمه , ينتمى لاسرة ميسورة الحال .... ونظرا للفارق المادى والاجتماعى بينه وبين شقيقه وشقيقته ... اختفى واختفت اخباره ... حتى جاء معزيا فى وفاة شقيقه .....
غرق الكاتب فى تفاصيل لاداعى لها ... " زيارة الضيفة البدينة " , انخاب الزبيب ..." المسدس واطلاق الرصاص " ضباط الثورة والرتب " , ساكنة الطابق الارضى ضئيلة الحجم شاحبة البشرة , تبيع الشاى والسكر والسجائر ....." الخ ... فانفلت منه خيط الحبكة الدرامية للقصة القصيرة...
للكاتب موهبة فى السرد السهل ودقة فى ملاحظة التفاصيل قادرة على إنتاج قصة جيدة.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 4 مايو2010م)

*****************
بيتزا...
قصة: وائل وجدي (القاهرة)

دوامات العمل لا تنتهي. تنوء بحملك الثقيل، حقيبتك مهترأة، متخمة بالخطابات، تحملها من شارع إلى شارع. حر، برد، مطر لا يهم. المهم - من وجهة نظر رئيسك - أن تحافظ على الأسرار التي تحملها. ولا عليك سوى أن تهز رأسك، وتمتثل. تتمنى أن تترك العمل بهيئة البريد لكن الأبواب موصدة...
اليوم، تشعر بسعادة - على غير العادة - رغم أن صروف الحياة كما هي، تصحو من نومك مبتهجًا كأنك عائد من رحلة غامضة حول الأرض في كبسولة، إحساس يقلقك لكنك فرح به.
على فورك، تقرر أن تتخلص من حملك اليومي، لن تذهب إلى العمل، يوم واحد تشعر فيه بكسر الروتين ودوائره اللانهائية. ستخرج من حوائط شقتك الباردة، تسعى أن تقوم بأي شيء تحبه من غير أوامر، تكبل يومك في شرنقة لا تستطيع اختراق خيوطها مهما حاولت. قبل أن تصفع باب شقتك، تتحسس جيبك، وتطمئن أنك لم تنس حافزك الشهري، ستصرفه بأكمله مهما كانت العواقب.
مرة واحدة تفعل أمرًا تحبه. تحفظ الشوارع بأشجارها وحفرها. كل المعالم تضعها في رأسك، كل شارع له رائحة تختلف عن غيره، تميزه بمنخاريك. في أحايين تكره شارعًا، تضطر أن تسير فيه، لكن - الآن - لن تجبر على شيء لا تحبه. أنفك يقودك إلى شارع تحبه، تولع برائحته، لا تعرف بالتحديد ما هو السبب في شعورك الطاغي؟ كل ما تعيه أنك تحس إحساسًا مختلفًا عن معظم الشوارع التي تمر عليها - يوميًا - تحلم أن تصبح الشوارع مثل هذا الشارع الأثير لأنفك وروحك في آن.
لا تفعل سوى تتأمل الوجوه والأجساد المارة أمامك أو بجانبك، تملي عينيك بالجمال، الذي لا تراه في يومك - المعتاد - نهد يكاد أن يفط من مكمنه، بسمة، لفته، ضحكة، تشعر أنك إنسان له قلب ومشاعر، يهفو إلى حضن يضمه يطبطب عليه، يخفف عنه حمله الذي يزيد باطراد غريب.
كثرة المشي، ترهقك، تحتاج أن تجلس في مكان ما، معدتك تؤلمك من الجوع، لن تأكل ما تألفه كل يوم الفول، الطعمية والباذنجان المقلي. عندما تتصفح الجرائد من زملائك أثناء توزيع الخطابات، تلمح إعلانًا عن "البيتزا"، وخصائص المكونات وأسعارها التي تجعلك لا تفكر على تذوقها، لكن - اليوم- لا أسعار ولا شيء يوقفك عن تجربة ما تريد.
تدخل محل "البيتزا"، تصطنع ابتسامة بلهاء، تجلس على أقرب منضدة صادفتك، لم تهتم بالقعود وسط مدخنين أو غيره. المهم أن ترتاح وتأكل. تطلب "بيتزا" الخضروات، تجربها مرة في حياتك، تعود إلى تأملك، تشعر أنك غريب وسط كائنات أخرى، من يريد أن يرفع صوته أو ضحكاته - الهستيرية - لا غضاضة، من تريد أن تنام على صدر من معها أو تحضنه لا مانع، شاب يهدهد شفايف رفيقته بأصابعه، يضع يده بين فخذيها... تذوب وتذوب، وتتلاشى وسط الوجوه والمناضد، والضجيج...

إطلالة نقدية بقلم/د.عبد البارى خطاب
هى قصة شديدة الارتباط بالواقع الحياتى لساعى البريد الغارق فى دوامة العمل الروتينى الذى يكرهه .. لكنه مجبر " فالابواب موصدة " .. كما يعيش الوحدة فى شقته الباردة .
تأتيه لحظة سعادة " على غير العادة " حيث قرر عدم الذهاب للعمل ليوم واحد ... وصرف حافزه الشهرى على وجبة بيتزا , ليجربها ولو لمرة واحدة فى حياته ........
من خلال نسج التفاصيل الدقيقة للشوارع , واستخدام حواس الرؤية والرائحة , واضافة الظلال لتشكيل صورة فنية للواقع ... وبمساعدة الحوار الداخلى , واظهار التناقضات داخل المجتمع .... تمكن الكاتب بدرجة ما من التأثير على القارىء .
ولكن استخدام ضمير المخاطب فى هذه الحالة لم يكن على نفس الدرجة من التوفيق خاصة فى حالة الحوار الداخلى .
ولكنه كان موفقا فى وضع نهاية مفتوحة للقصة " ...تذوب وتذوب وتتلاشى وسط الوجوه والمناضد ... " فهل المقصود هنا تلك الفتاة مع رفيقها .... ام انه يوجه حديثه لساعى البريد... مستخدما ضمير المخاطب ... حيث ان النهاية المفتوحة تجعل المتلقى مشاركا فى تصوير باقى الحكاية حسبما يتمنى .
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 4 مايو2010م)
*************************
تقاطـــــــع
قصة: سعيد عبد الموجود (كفر الدوار)


تواجها بالمصادفة .
- سيجارة ؟
- لا لا إننا لا ندخن .
كان الأول قد شرع يتجول في الساحة الرملية بين المباني والسور الخرساني المرتفع منفردا عن زملائه الذين خرج معهم منذ قليل وكان الأخر يدور بلا هدف بجوار أقرانه المكومين في ركن من الساحة بأرديتهم الداكنة ولحاهم السوداء ، أشعل الأول سيجارته منحنيا على نفسه متفاديا الهواء البارد الذي لا يفتأ يثور ، أخذ نفسه الأول :
- لماذا أتوا بكم إلي هنا ؟ .. إنهم لا يحتجزوننا معا !
وضحك ، ابتسم الأخر ابتسامة ذابلة :
- إنهم يرحلوننا .. يرحلوننا من مكان إلي أخر كل حين .
- سحب الأول نفسه الثاني :
- منذ متي وهم يحتجزونك ؟
- ثلاث سنوات .. وأنت ؟
- ستة أشهر .
ثار الهواء ، لفحهما برطوبته وذرات الرمل التي أثارها ، مسح الأول بشرته الملساء وسوي شعره الرهيف الذي بعثره الهواء ، خلع نظارته السميكة ليمسحها ، بدت عيناه متورمتين ومجهدتين بدون النظارة وراح الأخر ينفض ذرات الرمل عن وجهه المرهق المدفون في لحيته الكثة ، سأل الأول :
- لماذا ؟
صمت الأخر طويلا محدقا في وجه الأول وعينيه ، أخيرا تمتم :
- لا يصدقون أننا هجرنا كل شيء ! .. وأنت ؟
- غضبوا لأننا نزلنا إلي الشارع مع الآخرين . ومط شفتيه بسخرية ممزوجة بمرارة :
- :- ويعتبرون بياناتنا السياسية منشورات سرية !
ثار الهواء ثانية ، راح الأخر يمسح حبات رمل استقرت في ذاويتي عينيه واختلطت بمائهما ، أخرج الأول كيس مناديل ورقية من جيب سترته ، سحب واحدا منه ، ناوله الآخر وراح هو يمسح عدستي نظارته ، سأله الأخر :
- هل يسمحون لكم بزيارات عائلية ؟
- لا .
سكت برهة ثم أردف :
- فقط لمحامين من الحزب .. وأحيانا يأتي البعض من حقوق الإنسان .
تطلع إليه الأخر بدهشة ، أعاد الأول نظارته التي مسحها ، عاد يسحب أنفاس سيجارته
- وأنتم ؟
مسح الآخر ماء عينيه الذي سال على وجهه وشعر لحيته ، حدق في الفراغ الأصفر طويلا ، أخيرا تمتم بأسي :
- لا يدلون ذوينا على أماكننا .
مرت لحظات من الصمت كسرها الأخر إذ أخرج زجاجة عطر صغيرة من جيب سترته وسحب راحتى الأول وفردهما ، مرر عليهما فوهة زجاجته ، فعل نفس الشيء لنفسه ومسح وجهه ولحيته ، فاحت رائحة مسك نفاذة ، ابتسم الأول :
- شكرا .
ورمي عقب سيجارته التي نفذت وسأل الأخر :
- وكيف يـ .. ؟
تاهت نظرة الأخر في الأفق البعيد ، شرد طويلا أخيرا قال :
- ذات مرة وقفت على رجلي ووجهي إلي الحائط عشر ساعات .
صمت قليلا ثم أردف :
- يومها صليت الظهر والعصر وأنا على هذا الوضع .
- ثم سأل :
- - وأنتم ؟
- ثمة تجاوزات دائما ونحن نحتج .
بدا الاستغراب على وجه الآخر ، أخرج عود سواك نظف به أسنانه ثم مد يده في جيب سرواله ، أخرج تمرات مدها إلي الأول الذي نظر إليه متساءلا فقال :
- لا يعدم الأمر حراس ريفيون طيبون يوصلون لنا مثل هذه الأشياء .
ثم أردف وهو يبتسم ابتسامة شاحبة :
- ثمة بشر دائما .
راحا يلوكان التمرات ، سأل :
- كم مرة يسمحون لكم بالتجول خارج العنابر ؟
- مرة في الأسبوع .. ساعة واحدة وأنتم ؟
- نادرا .
ثار الهواء مرة أخري ، أكثر عنفا هذه المرة ، دفعهما بشدة ، تشبث كل منهما بذراع الأخر متنحين عن اتجاهه ، سكن الهواء فاستقرا ، مد الأول يده في جيب سترته ، أخرجها مطوية على بعض أوراق نقدية مدها بهم إلي جيب سترة الأخر :
- دعهم معك .
- لا لا
فيما راح يحاول رد يده باستماتة :
- لا نحتاج للنقود كثيرا .. ربما تحتاجهم أكثر .
صمم الأول بالحاج :
- تأتينا النقود .
أخيرا كف الأخر عن رد يده ، تملكتهما لحظة صمت ، فجأة هتف احدهما :
- لم نتعرف !
- ياااه .. فعلا !
- لحظتها انتبها على مرأى الحارس الذي اندفع إليهم شاهرا رشاشه آمرا الأول بالابتعاد دافعا الأخر إلي قطيع زملائه الذين صفوهم استعدادا للتحرك.

إطلالة نقدية بقلم/د.عبد البارى خطاب

بداية القصة مثيرة , عبارة عن حوار يثير الدهشة
_ سيجارة ؟
_ لا لا نحن لاندخن
كلمة نحن هنا احد الرموز الهامة التى يستخدمها الكاتب بحرفية عالية ...
ثم ينتقل سريعا لوصف تسجيلى للقطة عادية , حين التقى السجينان مصادفة داخل السجن , مستخدما تعبير الاول وتعبير الاخر للتمييز بينهما ... رغم وجود فوارق كثيرة , كان يمكن للكاتب ان يستخدمها ...
الجدير بالملاحظة هنا عزف الكاتب بتميز على الارقام ... " اخذ نفسه الاول ... " , " سحب الاول نفسه الثانى .." , " ثلاث سنوات " , " ستة اشهر " , " عشر ساعات " ...
ثم يأخذ الكاتب فى تكوين الاطار المادى لحركة الشخصيات وانفعالاتها مستخدما حركة الهواء للوصول الى هدفه ... وهو الدخول فى مكنون النفس البشرية وقت الشدة ...
" اشعل الاول سيجارته منحنيا على نفسه .. "
" ثار الهواء . لفحهما برطوبته ............."
" ثار الهواء ثانية , راح الاخر يمسح حبات رمل استقرت فى زاويتى عينيه ......... فأخرج الاول كيس مناديل ورقية ..... ناوله للاخر
ثار الهواء مرة اخرى , اكثر عنفا , دفعهما بشدة , تشبث كل منهما بذراع الاخر ... سكن الهواء فاستقرا .."
الجدير بالذكر هنا ان الحوار والسرد يشتركان معا فى بناء حبكة القصة فى تناغم بديع .
واخيرا نطل على العنوان " تقاطع " كرمز درامى للقصة وهدف اساسى للسرد ... فرغم ان السجينان من معارضى السلطة ... الا انها تفرق بينهما فى المعاملة داخل السجن ... هذا من ناحية , ومن ناحية اخرى فان المجموعتان متعارضتان فى الافكار والتوجهات لدرجة لايمكن لهما الالتقاء ... فأصبح التقاطع هو التعبير الفنى الهندسى المعبر للحظة اللقاء العابرة تلك ... وهنا يترك الكاتب مساحة لمشاركة القارىء , باستخدام فن المحذوف السردى ... ليحصل القارىء على متعة اكمال فراغ فضاء النص .

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 4 مايو2010م)

ليست هناك تعليقات: