بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

الثلاثاء 26 أكتوبر2010م.

نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 26 أكتوبر لقاءً أدبيا بعنوان "ناقد فلسطينى ومبدعون سكندريون" حيث قدم الناقد الفلسطينى د.عمر عتيق قراءة نقدية فى عدد من قصص مبدعى الإسكندرية هم؛ أحمد الملواني "قطرة أخيرة"، رشاد بلال "فخر"، رمزى بهى الدين "السائق ..!!"، شريف محمد أنور "الرجل على الكرسى ... جوار الحائط"، محمد عطية محمود "شــــــــرفــــــة"، هيثم الوزيري "ديك العشة"، و صرح الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر أن د.عمر عبد الهادى عتيق يعمل أستاذا في جامعة القدس المفتوحة بفلسطين وأنه تلقى قراءته النقدية للأعمال القصصية للمبدعين السكندريين عبر شبكة الإنترنت فى محاولة المختبر الدائمة لمد جسور التلاقى الأدبية بين النقاد والمبدعين فى جميع أنحاء الوطن العربى.
السائق ..!!
قصة: رمزى بهى الدين

ينهمر المطر غزيراً ، عند خروجك من دار السينما ، المفتوحة مداخلها ومخارجها على ميدان فسيح ، يعج بالسيارات والناس .. الجليد يغطى الشوارع والطوارات .. الناس يرتدون معاطف المطر ويضعون القُبَّعَات ، والشقة التى تقيم فيها بعيدة عن الميدان والطريق إليها معقد ، وأنت غريب فى هذا البلد ، الذى لم تزره من قبل، ولم يكن مر على وصولك إليه سوى عدة أيام..!!
يضطرك الأمر أن تنادى على سيارة أجرة .. تركب .. تكتشف أن سائقها رجلُ مُسن - ربما - تجاوز السبعين ، له وجه أحمر مُتغضِّن ، وشعر أبيض مُستَرسل ، يظهر من تحت قُبَّعة ، وضعت بعناية على رأس صغير نسبياً ..!!
تخبره عنوانك .. ينطلق دون أن يعلق .. عندما يستدير مع الشارع الأول ، تصيح عليه : Pardon .. الشارع التالى .. دون أن يلتفت إليك، يهمهم بشئ لا تفهمه ويستدير .. يدخل الشارع التالى فتصيح : Pardon , Pardon .. الشارع الذى يليه من فضلك ..!!
يتوقف .. يلتفت إليك بنصف وجه وعين واحدة .. يدير المحرك وينطلق ، دون أن يدخل الشارع الذى أشرت إليه .. يستمر فى سيره وأنت تنادى عليه ، لتنبهه أنه ترك الشارع ، وترجوه أن يلف ويوصلك إلى منزلك بالعنوان الذى ذكرته من قبل ..!!
يصيبك الهلع ، عندما يُزَمْجِرُ ويستدير بسيارته على الرصيف الزلج ، استدارة على شكل حرف C ، وفى رجة عنيفة يوقف السيارة ويلتفت بجذعه النحيل ووجهه الهضيم ، ناظراً إليك شذراً بعينيه الزرقاوين الصغيرتين ، صارخاً فيك ، آمراًًًًًًًًًً إياك ، أن تترك السيارة .. تنظر مدهوشاً دون أن تعلق ، فترى وجهه المسحوب يزداد احمراراً ، وأرنبة أنفه المدبب الصغير تنتفض من شدة الغضب وهو يرعد فيك قائلاً : أنه لن يوصلك إلى أبعد من هذا ..!!
تُحدِّق فى سَيماءِ العجوز متعجباً ، لا تنطق بكلمة .. يحدجك بنظرة ذات مغزى .. تصدر من أعماقه تنهيدة طويلة قبل أن يقول : أنك أهنته إهانة شديدة وينزل من السيارة .. بعصبية يشد مقبض الباب فينفتح .. يرمقك بنظرة غاضبة وهو يقول : إن سيارته ليست للأجانب ولابد أن تغادرها حالاً..!!
تصيح فيه غاضباً : أنك لم توجه إليه أى إساءة ، ولم تفعل شيئاً سوى حثه - دون جدوى - على توصيلك إلى عنوانك ، وتُعقب بحدة ؛ أنك لن تستطيع بحال ٍ والجو هكذا - أن تنزل من السيارة .. تلتزم الصمت برهة قبل أن تعود وترجوه أن يوصلك إلى منزلك ، ممنياً إياه ببقشيش كبير ، وافتراق فى مودة.
لم يرد على كلامك .. لم يُعِرْكَ أى أهتمام، وإنما يصرخ فيك مُجدداً أمره بسرعة المغادرة قائلاً : إنه لن يتحمل بقاءك أكثر من ذلك.
تعبر عيناك زجاج شباك السيارة فترتطم بالأمطار الغزيرة فى الخارج ، فترد فى تصميم قاطع بأنك لن تستطيع - مطلقاً - أن تغادر السيارة ، مهما كانت الأسباب..!
ينتصب الصمت بينكما لحظات ، يقطعها صوته الغاضب قائلاً : إما أن تترك السيارة حالاً أو يقودك إلى قسم الشرطة ، وهناك سيطالبك بتعويض عن تلك الإهانات ، بالإضافة إلى تبديد الوقت ، فترد بعد صمت : أنك تفضل أن يتوجه بك إلى قسم الشرطة عن نزولك من السيارة ..!!
بعصبية شديدة يدير المحرك ويندفع .. يتوقف أمام باب القسم .. ينزل من السيارة .. بغضب يصفق الباب .. تنزل أنت كذلك .. تجوس عيناك خلال المكان فتكتشف أن قسم الشرطة لا يبعد سوى عدة بيوت عن المنزل الذى تقيم فيه .. تبتسم وأنت تغلق باب السيارة .. تمصمص شفتيك متعجباً وتسير بجواره .. تدخلان من باب القسم. تتوجهان إلى غرفة المأمور .. يسألكما عن طلباتكما ، فيبادره العجوز بقوله ، أنك اهنته أكثر من مرة إهانات بالغة .. تحدجه بنظرة تعجب واستنكار وتنظر إلى المأمور الذى يطلب إليك أن تدلى بشهادتك ، بعد أن يفتح دفتره ويمسك بقلمه ، ويبدأ فى تدوين بياناتك أولاً ، ثم روايتك من بداية إعطائك عنوانك للسائق ، والاستدارتين الخاطئتين ، وهمهمات الرجل ، وتعمده ترك شارعك ، وثورته ، وقراره الأخير ..!!
وعندما كان يعلق بهمهمات على أجزاء من شهادتك ، كان المأمور يتوقف عن الكتابة ، ناظراً إليه ، معنفاً إياه على همهماته ..!!
بعد أن تنتهى من روايتك ، يشكرك المأمور ، ويلتفت إلى العجوز طالباً منه أن يدلى بشهادته هو الآخر ، حتى يستطيع أن يحسم الأمر.
لم يكن لديه ما يشكوه ، سوى ترديده بصوت غاضب وهو يرفع يده إلى ما فوق رأسه، مسدداً بصره إليك: إن هذا الأجنبى أهاننى أكثر من مرة ، لقد عاملنى معاملة البُلَهاء ، وهذا لا يمكن احتماله مطلقاً ..!!
يتوقف المأمور عن الكتابة ، يرفع رأسه عن الدفتر الموجود أمامه .. بغضب ينظر إليه ويأمره أن يصف بالتفصيل ماحدث وأن يصحح مايراه غير صحيح من كلامك ، ناظراً إليك وهو يحنى رأسه انحناءة خفيفة قائلاً : Pardon Monsieur .
لم يزد العجوز على ما قاله شيئاً .. لم يكن لديه أى اتهام سوى ترديد الكلام الذى سبق أن ردده ، فيلقى المأمور بقلمه ويحِّدجه بنظرة غاضبة قائلاً فى صوت قاطع: إن الأمر أصبح واضحاً تماماً) ويتجه إليك قائلاً : (إنك أنت الذى وقع عليك الضرر فى هذا الموضوع..!! .. يلتزم الصمت برهة وعيناه تتقافزان على وجهيكما بعدها يقرر ؛ أن يقوم السائق بتوصيلك إلى باب منزلك ، دون أن يتقاضى أى أجر ..!!
يبتهج داخلك .. تنفرج أساريرك .. تفرح ولا تكاد تبين .. يطلب منك المأمور - فى أدب - الاطلاع على بطاقة هويتك ، كإجراء متبع طبقاً للقانون فى مثل تلك الحالات .. يسقط فى يدك .. ينقبض داخلك .. يَتقطَّبُ جبينك .. يدق قلبك دقات سريعة وتلوذ بالصمت لحظات ، يتراءى لك خلالها صورة مكتبك وقد وضعت عليه بطاقة هويتك ، التى يُطْلَبُ من الأجانب المقيمين ، أن يحملوها طوال الوقت ، طبقاً لقانون البلاد.
يخرجك من دائرة الصمت ، صوت المأمور وهو يكرر طلبه بالاطلاع على الهوية ، فتبادره والكلمات تخرج من فمك مبعثرة : نظرا..ً للأمطار .. الغزيرة ، فانك تركتها بالمنزل ، خشية أن يبللها المطر ، وأنك سوف تأتى بها غداً صباحاً ، وستكون ملتزماً بذلك ، ومحترماً لهذا القرار .
قلت ذلك دون أن تدرى أنك اقترفت أمراً لا يُغتفر ، وأنك تسببت فى تبدل كل شئ فى لحظة .. تنظر فترى وجه المأمور تجمد وهو ينظر إليك قائلاً بحدة : Pardon mon chair إن ذلك يخالف التعليمات ولا يتماشى مع الظرف الراهن..!!
يسود الصمت لحظات قبل أن يحطمه صوت المأمور قائلاً وهو ينظر إلى السائق العجوز : نظراً لحقيقة أن السماء تمطر بغزارة ، فانه سيطالبه بتوصيلك حتى باب منزلك ، ويرفع يده التى تمسك بالقلم ، مشيراً تجاهك قائلاً أنه سيطالبك أنت بأن تدفع له ، ليس فقط أجر التوصيلة كاملة ، من البداية إلى النهاية ، بل أيضاً مقابل الوقت الذى ضاع منه ، منذ حضوره إلى قسم الشرطة ، ثم يضع قلمه ويقفل دفتره وهو ينظر إلى السائق سائلاً إياه ، إذا كان قد ترك عَدَّاد سيارته يعمل ، فيومئ الرجل برأسه مؤكداً ذلك.
ينهض المأمور واقفاً وهو ينظر إليك قائلاً: إذن إلى اللقاء أيها السيد .. ولم ينس أن يذكرك بضرورة إحضار بطاقة هويتك فى الصباح.
تغادران القسم .. تحدِّق فى وجه العجوز فترى بريقاً يتلألأ فى عينيه الصغيرتين ، إلا أنه لم يبدِ أى دلالة على انتصاره ..!!
تركبان السيارة .. يوصلك حتى باب المنزل ، دون أن ينطق بكلمة ، وقبل أن تفتح الباب لتنزل ، تناوله أجره .. يتفقده باهتمام .. تنزل وقبل أن تغلق باب السيارة لتنصرف ، يفاجئك صوته : Monsieur .. تنظر فتراه يطل برأسه الصغير من الشباك ، يسألك وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة : هل نسيت وعدك بالبقشيش الكبير والافتراق فى مودة ..؟!.
تعانق ضحكاتك قطرات المطر ، الذى كان لا يزال ينهمر ، وتهرول داخلاً الى المنزل الذى تقيم فيه ..!!
*******

قراءة نقدية بقلم د.عمر عتيق (فلسطين)
تكاد قصة السائق تفي باستحقاقات البناء الفني للقصة القصيرة من حيث المعمار اللغوي الذي يحفل بالجمل القصيرة الموحية المعبرة المختزلة لدلالات مضمرة ، والفضاء المكاني الذي يمنح المتلقي مشاهد تصويرية تقترب من شريط سينمائي ، كذلك حرص الكاتب على صياغة حبكة فنية لافته ، ورسم بمهارة الأبعاد النفسية للسائق والراكب ... وكنت أتمنى على الكاتب أن يحافظ على حرصه فيكسر رتابة البناء الزمني الذي اتخذ خطا زمنيا صاعدا خاليا من أي انعطافات زمنية من الحاضر إلى الماضي لتوفير المزيد من المتعة والتشويق للمتلقي وبخاصة أن ماهية الحدث من حيث الضغوط النفسية للسائق ، والاضطراب والقلق للراكب تستوعبان كسرا زمنيا للعودة للماضي من خلال المونولوج الداخلي . كما أن عنوان القصة ( السائق ) لا يشكل عتبة تمكن المتلقي من استشراف آفاق القصة ، إذ إن العناقيد الدلالية للقصة يمكن أن توحي بعنوان آخر أكثر تماهيا ومرآوية مع الأحداث .
وأزعم أن بوصلة القصة تومئ إلى ثلاثة أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية صاغهما الكاتب بوساطة مشهد يومي تحول فيه المألوف إلى إيحاءات وتأملات ومنبهات ... فأما البعد الاجتماعي فتجسده البنية النفسية للسائق وهي بنية مشحونة بالتوتر والاحتقان والصمت الذي يسبق الانفجار وهي بنية نفسية تتجلى بلغة السائق كلاما وحركة ، ولعل لغة الجسد أبلغ في الدلالة على حالة التوتر والاحتقان اللذين تمثلهما الصورة الوصفية ( يلتفت إليك بنصف وجه وعين واحدة \\ فترى وجهه المسحوب يزداد احمراراً \\ وأرنبة أنفه المدبب الصغير تنتفض من شدة الغضب) . ولعل هذه الصورة الوصفية للسائق تشكل مزاجا عاما يشغل مساحة اجتماعية واسعة .. لكن القصة لا تخلو من الإشارة إلى أن ذلك التوتر النفسي سرعان ما يزول حينما يتوافر بريق المال وهو ما تبدى بقول السائق : (يسألك وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة : هل نسيت وعدك بالبقشيش الكبير والافتراق فى مودة ..؟) ، ويعد هذا مؤشرا إلى أن الاحتقان النفسي والتعبير الفسيولوجي الحاد نتيجة لحالة اقتصادية خانقة .
وأما البعد السياسي فيكمن في الدلالات المضمرة لقوانين الطوارئ التي تكشفت آثارها في حرف مسار الحقيقة وإبراز ضبابية القانون وذلك حينما تحول الموقف إلى مصلحة السائق بسبب نسيان الراكب بطاقته الشخصية . وأما البعد الثقافي فيتجلى في العلاقة بين الأنا والآخر ... الأنا التي يمثلها السائق ، والآخر التي يمثلها الراكب الأجنبي ... وهي علاقة مؤسسة على موروث ثقافي يستحق التأمل وإعادة صياغة .


(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 26 أكتوبر2010م)

-----------------------------------------

الرجل على الكرسى ... جوار الحائط
قصة: شريف محمد أنور

وجدته كما فى كل صباح ، جالسا على الكرسى بجوار الحائط فى أول الزقاق،يمسك بورقة الجريدة القديمة ، يهش بها الذباب الذى يقف فوق قدمه المنتفخة العارية .
يراقب حركة بقعة الضوء الصغيرة على الأسفلت غير المستوى ، ينظر إلى شرفة الدور الأول -علوى– من البيت أمامه ، يجدها خالية ويتأفف ...يمسح نظارته السميكة ويرفعها بيده المرتعشة باتجاه الشمس ، ويضعها مجدداً فوق أنفه .
يبحث عن بقعة الضوء فيجدها قد وصلت للجدار الذى يسد الشارع . يتأكد من وجود عبارات السباب القديمة فوق الحائط بألوانها الكثيرة ، ويبحث عن الجديدة التى تركها أبناء الأمس .
تصعد عيناه إلى الشرفة .... لا تزال خالية . تضطرب يده وهو يبعد الذباب بعنف ، فيطير الذباب ، وتطير الجريدة القديمة . تبقى ذبابة واحدة ، يمد يده إلى الأوراق على الأرض فلا يصل .... ينظر من جديد للشرفة بيأس ، ويكون الغروب .

قراءة نقدية بقلم د.عمر عتيق (فلسطين)

تتعانق المشاهد التصويرية الواقعية مع الإيحاءات الدلالية الرمزية ، إذ إن عزل عناصر المشاهد التصويرية عن الجينات الرمزية يجعل الأقصوصة مساحة للدراسة الاجتماعية السيكلوجية وبخاصة مشهد ذاك الرجل الذي اعتاد الجلوس في الزقاق بجانب الجدار ، يطرد الذباب عن قدمه المنتفخة العارية ... أو مشهد عبارات السباب والشتائم التي تشوه حائط الزقاق . ولكن المسبار النقدي الأدبي يختلف وظيفيا عن المسبار الاجتماعي .
إن التامل في المشهد السردي هو قراءة سيمولوجية في صورة التقطتها عين كميرا من زاوية فنية تعي ما تريد قوله .. فذاك الرجل القابع في زقاقه ليس مشهدا إنسانيا يجسد البؤس ويثير الشفقة بل هو كيان اجتماعي يجسد الانتظار والترقب والأمل بالتغيير والتجديد ، والجريدة القديمة ليست أداة أو وسيلة لطرد الذباب وهي ليست وسيلة بريئة من الإيحاءات السياسية ... فهي رمز للإحباط من الخطاب الإعلامي السياسي الذي يمضغ الوعود ويهضم القرارات والتوصيات التي ينتظرها ذلك الكيان الاجتماعي المنتظر المترقب ، وما الذباب والقدم المنتفخة إلا شرارة رمزية تضيء جيوب الفقر المعتمة ... كما أن العلاقة بين بقعة الضوء والشرفة الخالية تشكل مفارقة تكاد تكون البؤرة الدلالية التي تدور حولها الأقصوصة ، فبقعة الضوء التي تبدو صغيرة وتبرق على إسفلت غير مستوي تمنح ذلك الرجل أملا في تحقيق حلم ما ... لكن الشرفة التي ينبغي أن تطل منها تباشير الحلم مازالت خالية ... وعلى الرغم من وصول بقعة الضوء إلى الجدار الذي يستند عليه الرجل إلا أن الشرفة تبقى خالية مما يتمناه ذلك الرجل .... إنه السراب الذي يكمن في تلك البقعة ... سراب حلم ... ويأس من التغيير والتجديد .

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 26 أكتوبر2010م
)

------------------------------------------

شــــــــرفــــــة

قصة: محمد عطية محمود


اخترق ضوء الصباح خصاص الشرفة؛ لينبسط على أرجاء الحجرة، التي تبتلع سريراً لفرد، ومنضدة من الخوص المضفر، وكرسيا مترنحاً.. يستند بظهره الى فم الباب المفغور على باقي الشقة الواسعة، المغلق على عتمته .
اهتز خيال وحدات الخصاص على حوائط الحجرة. ضوّت ـ بوهن – الكريستالات الثلاث، المدلاة من نجفة قديمة – غطى التراب هيكلها – تنتصف السقف المتساقطة منه قشور طلائه.
استلقى الضوء على تجاعيد الوجه المستسلم لنوم متقطع، بعد أرق معاند؛ فانتفض – بعد كمون – البدن العجوز بشعره المهوش ولحيته غير الحليقة، لترتطم السيقان اليابسة – المتصلبة فيها عروق خضراء متشابكة – ببلاط الأرضية العاري، مع طقطقة مفاصل الركبة والفخذ بألم متكسر ، بينما سعت القدمان تبحثان عن مداسهما المختبىء تحت السرير الواطىء .
لحظات، وانتفضت ضلف الخصاص، بدفعات متتالية من أيد ارتعشت حتى استجمعت قواها ، ثم احكمت قبضتها، فغزا الضوء بكامل شدته فضاء الحجرة، وجاوزها في اتجاه الممر الضيق بين الحجرة وباقى الشقة، من حول البدن الشاخص على عتبة الشرفة، بارز البطن من بين دفتى قميص مفتوح – على لحم عار – لا يخفى بثوراً تتناثر على البطن، وأسفل الثديين المترهلين يغطيهما الشعر الأبيض، في حين ذهبت العينان المدهوشتان يمين وشمال الشرفة الخالية إلا من أصيصين فارغين يستقران على سياج الشرفة لصق الحائط على الجانبين .
تقدم بخطوات مترنحة نحو السياج. اتكأ بيديه عليه، وانحنى صدره فوقه. حدّقت العينان بنظرات مهتزة فى شروخ قمة السياج التى تسرح نحو واجهته الخارجية، وتتسع في خطوط تكشف عن أسياخ حديدية صدئة، وتضيق في خطوط أخرى تتوازى وتتقاطع حتى تتسع مرة أخرى.
تبرم الوجه العابس مغمغماً ، ثم التفت بنصف جسده الى داخل الحجرة، لتخايله انعكاسات الضوء التى ازدادت على الكريستالات الثلاث، فاهتزت الجفون المتهدلة، ثم أُغمضت نصف إغماضة عادوت بعدها خطواته – التى تخلت قليلاً عن ترنحها – عبور الحجرة، نحو داخل الشقة الذى بدأ يتسرب إليه الضوء.
تخلت عنك عافيتك؛ فصرت تشحذها بليل يطول عليك بلا نوم.. تتقلب فيه ذكرياتك .. تعادوك فيه سمات أيامك الخوالى كخيالات مارقة.. تبث فيك آثار صرامة تصرفاتك، حميتك، جديتك وسط أقرانك، نشاطك الرياضي الذي فاق الجميع فى الفروسية، الرماية، سباحة المسافات الطويلة في معسكرات النشاط ، وسباقات العدو فى الصباح الباكر.. لا تمل من تذكيرك بطولك الذى كان فارعاً، شدَّة البدلة (الميري) على جسدك الذي كان ممشوقا، والتماع نجومها المستقرة على كتفيك ترسخهما، وتزيد من زهوك..تكسبك انحناءتك الخفيفة، وأنت تنظر الى الأشياء من أعلى بشموخ .
لا يشفع سهاد ليلك لجسدك أن يستريح أو يخلد الى خمول – كأضعف الإيمان – تحتاجه، والشمس طالعة على الدنيا ..تنذر بالحياة التى .....
على باب الحجرة اصطدم بالكرسي، فانزلقت أرجله المائلة، وازداد ميلها. أدركته يداه بانحناءة موجعة، لترده إلى الحائط. ومضى يحاول أن ينفذ عن رأسه ما استغرق فيه .
من المطبخ اتاه صوت جلبة، ارتطام أوان، احتكاك أكواب زجاجية، مع خرير مياة صنبور يشتد ثم يخف، ثم ينقطع، ثم يعود الى الشدة، ثم يصمت؛ ليحل محله حفيف اقدام متباطئة، ولكنها تخدش صمت الشقة المتناهي.
تشاركك حياتك، منذ كانت ربيعا يانعا تتألق فيه زهور عيونكما النضرة، وتتلألأ نجوم لياليكما السعيدة التى كانت تتمطى فيها ابدان الرشاقة، مع الدفء، مع الحيوية النابضة .
لم تبدأ حكايتكما معاً كحكايات العشق المتخمة بدراما الزمن الذي يتري أمام عينيك – الآن – ممسوخاً، مجبولاً على التراخى وعدم الاتزان، والميوعة، بل أتت الحكاية من رحم تقاليد راسخة؛ لتضعها الأقدار أمام عينيك آية للوقار، مع الجمال، مع الاحتشام .
كانت زهرات عمركما تنضاف إلى عقدكما الراسخ، كحبات مرمرية تنهمر واحدة تلو أخرى، تلو الثالثة؛ لترصعه ولتصير كنوزاً تتدلى من رحم الحب المتعقل، لكن الأيام تفرض طقوس دورانها، فيمضي كلٌ في درب يخصه تاركا عبق وجوده يسرى فى المكان الذى ولد فيه، برغم البعد وحنين الاشتياق ....
صرتما وحيدين .. بات كل منكما يعزف لحن وجوده بموازاة الآخر على مشاعر هادئة كما بدات
خرج من الحمام، حليق الذقن.. يجفف بمنشفته قطرات الماء المتساقطة من شعره الفضي، الذي التأمت خصلاته والتصقت ببعضها منسحبة إلى خلف رأسه، وابيّض لون جبهته لامعاً.
اتجه نحو الشرفة تشمله ارتعاشة خفيفة تدغدغ حواسه.. يستجمع رغبة أكيدة فى ترميم شموخ السياج، التي كان يلحقها دوما قبل ان تستفحل. اقترب.. عاود الاتكاء بيديه على قمة السياج، والانحناء بصدره عليه؛ ليتفقد الشروخ بعينين شبه ثابتتين، بينما حلّ إلى جواره عبق خفيف لا يفارق إحساسه، مع ظل ابتسامة امتدت معها يد معروقة، لم تزل تحتفظ بملمسها الناعم البض، على يده نافرة العروق مربتة.
أشاعت فيه لمسة دفء عادلت ارتعاشاته، بينما تؤكد اليد الأخرى على وضع صينية شاى الصباح على قمة السياج .



قراءة نقدية بقلم د.عمر عتيق (فلسطين)
يتماهى الوصف المكاني مع البعد النفسي للشخصية المحورية ، إذ إن المشهد المكاني الحافل بتفاصيل الفقر والبؤس يقود المتلقي إلى التفاعل الانسيابي مع المشهد الإنساني ، فالكرسي المترنح والسقف المتساقط يندغم مع صفات الشخصية التي يجتاحها الترنح والترهل والعجز .
ويوظف الكاتب ثلاث تقنيات سردية ؛ فقد أباح الكاتب لنفسه أن يكون ساردا كلي المعرفة ، خبيرا بالتفاصيل الدقيقة للمكان وراصدا للصورة الجسدية للشخصية ، ومحللا نفسيا للعلاقة بين المكان والإنسان . ثم تحول إلى سارد يرصد المكان والحدث وسلوك الشخصية من بعيد بوساطة السرد بضمير الغائب ، نحو قوله : (تقدم بخطوات مترنحة نحو السياج. اتكأ بيديه عليه، وانحنى صدره فوقه) . وسرعان ما تحول إلى تقنية سردية ثالثة حينما شرع بتوظيف ضمير المتكلم الذي يقترب من تقنية المونولوج الداخلي كما في قوله : (تخلت عنك عافيتك؛ فصرت تشحذها بليل يطول عليك بلا نوم.. تتقلب فيه ذكرياتك .. تعادوك فيه سمات أيامك الخوالي كخيالات مارقة ) . إن هذا التناوب بين التقنيات الثلاث يجسد رؤى فكرية في منهج التوصيف والتغيير ؛ إذ إن السارد حينما يكون كلي المعرفة فهو يمثل نموذج الكاتب الذي يسعى إلى وصف الواقع وتغييره وفق مخزونه الفكري وبنيته النفسية ، وحينما يكون السارد مراقبا للحراك السردي من خلال ضمير الغائب فهو يجسد نموذج الكاتب الذي يكتفي بالتوصيف تاركا خيارات اتخاذ موقف ما للمتلقي الذي ينبغي عليه أن يختارا أسلوبا لتغيير واقعه ، وحينما يوظف السارد ضمير المتكلم من خلال المونولوج الداخلي فهو يحرض على استنهاض الطاقات الخلاقة الكامنة في أعماق المتلقي.
لا يخفى أن غاية التقنيات الثلاث التي تؤسس لمنهج فكري سلوكي للتوصيف والتغيير تنسجم مع الرسالة المضمرة للقصة المعلنة ، فالشخصية المحورية التي غاب اسمها ( وغياب الاسم مقصد فني واع ) تختزل كل الذين أفنوا أعمارهم في إعلاء صرح الوطن وخدمة المجتمع الإنساني ... من حماة للوطن ومفكرين ومبدعين ... ولكنهم الآن يصارعون العجز والمرض انتظارا للموت ... ولا أحد يطرق أبوابهم !!!!

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 26 أكتوبر2010م)

------------------------------


فخر
قصة: رشاد بلال




توفى الى رحمة الله تعالى بعد حياة حافلة فى محراب الحق والعدالة ، المرحوم المستشار عزت ابراهيم السبعاوى ، والد أحمد عزت رئيس محكمة ، ومحمد عزت القاضى ، ومنى عزت وكيل النيابة الأدارية ، ومحمود عزت الطالب بكلية الحقوق .
وشقيق اللواء شرطة عنتر ابراهيم السبعاوى ، وعم ايمن عنتر رائد شرطة ، وأمجد عنتر نقيب شرطة ، وأدهم عنتر الطالب بكلية الشرطة .
وشقيق الدكتورة عزة ابراهيم السبعاوى الأستاذة بكلية الطب زوجة الأستاذ الدكتور عبد المنعم اسماعيل عميد كلية الطب ، وخال الدكتور اسماعيل عبد المنعم المدرس بكلية الطب ، والدكتورة عبير عبد المنعم المعيدة بكلية الطب .
وستشيع الجنازة عقب صلاة ظهر اليوم بمدافن الأسرة بالأمام الشافعى .
والعزاء ليلا بجامع عمر مكرم بميدان التحرير ، ولاعزاء للسيدات.
تلغرافيا آل السبعاوى شارع النيل برج العرب القاهرة.

قراءة نقدية بقلم د.عمر عتيق (فلسطين)
لعل الكاتب رشاد بلال – الذي تشرفت بلقائه – قد تعمد الابتعاد عن مقومات السرد القصصي في نصه ( فخر ) بغية كسر المألوف في تصوير زوايا المشهد الاجتماعي ليوجه سياط نقده إلى شريحة اجتماعية تستغل المسميات الوظيفية ذات القدرة على النفوذ والتحكم .. والبعد الطبقي المقيت . وقد وظف الكاتب حادثة مألوفة ليقول ما هو غير مألوف ، فمن المألوف أن نقرأ خبر نعي يتصدر الصفحة الأولى في صحيفة ... أو ينزوي في ركن داخلي من الصحيفة إذا كان المتوفى يفتقر إلى تلك المسميات الوظيفية والبعد العائلي المثقل بالأوسمة والألقاب كما تجلى في نص ( فخر ) .
إن التأمل في العلاقة بين العنوان ( فخر ) ومضمون النص يشكل دلالة ثنائية ضدية ، فالفخر الذي يحمل في حناياه قيمة اجتماعية مشبعة بالرضا والسمو والنبل ... يتحول إلى تفاخر وتباهي على الرغم أن السياق هو الموت والحزن .... لقد أضحى الموت مساحة للتفاخر في وسائل الإعلام .. وميدانا يتنافس فيه بعضهم للكشف عن مكانة العائلة ونفوذها . إن اختيار القضاء والأمن والعلم أيقونات إعلانية في سياق الموت أو النعي يكشف عن ظاهرة اجتماعية تستحق الدراسة والتشريح والتقويم .
كما لا يخفى أن اختيار الأسماء ( السبعاوي ، عنتر ... ) يشير إلى إشكالية النفوذ السياسي التي تتفاخر بها فئة ... وتعاني منها الفئات الأخرى .

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 26 أكتوبر2010م)
--------------------------------------

ديك العشة
قصة: هيثم الوزيري

في أعلى مكان من العشة وقف الديك مزهوا نافشا ريشه.. ملأ صدره بالهواء وأطلق صيحة عالية ناظرا لأبعاد فوقية لا يدركها إلا هو.. ملأ صدره مرة أخرى وصاح ناظرا إلى ما تحت قدميه حيث باقي سكان العشة الذين أسلموا رؤوسهم ومناقيرهم للأرض في عملية نقر جماعية .
انفتح الباب وامتدت يد قابضة على الديك .. حاول الفرار .. صاح صيحة الذعر.. أطبقت اليد عليه .. انغلق الباب ولم يعد بعدها إلى عشته.
ظل المكان العالي شاغرا إلى أن رفع ديك صغير رأسه عن الأرض واعتلاه..
وقف قليلا نافشا ريشه .. ملا صدره بالهواء وأطلق صيحة عالية.

قراءة نقدية بقلم د.عمر عتيق (فلسطين)
يتشكل الفضاء السردي للقصة من مدارات اجتماعية وأدبية قديما وحديثا ، فلا يخفى أن البناء الرمزي مستمد من ظلال كليلة ودمنة التي تعد رافدا للقصة الرمزية ، ولعل السياق السياسي الذي دفع بيدبا فيلسوف الهند لتأليف الكتاب يتقاطع في بعض الجوانب مع قصة ( ديك العشة ) ، وأزعم أن البعد السياسي الذي شجع ابن المقفع على ترجمة كتاب كليلة ودمنة لا يختلف عن البعد السياسي الذي دفع زميلنا إلى اختيار السرد الرمزي لتحميله رؤى سياسية محددة . أما اختيار الديك شخصية محورية للرؤى السياسية المقنعة فيرتبط بالموروث الاجتماعي الثقافي الذي يعد الديك رمزا للريادة والسيادة وغيرهما من الدلالات التي تنطوي في منظومة القيم العليا . وإذا كان الديك قناعا فهو قناع يتسم بالشفافية التي تؤهل المتلقي لكشف القناع وملامسة الدلالة المرادة .
وأكاد أجزم أن قصة ( ديك العشة ) تتناغم رمزيا ودلاليا مع قصيدة ( الديك ) للشاعر نزار قباني ، إذ تتوافق القصة والقصيدة في حالتين متضادتين ؛ الأولى : حال الديك المتجبر المتكبر الذي لا يرى أحدا فوقه ، ويرى الجميع أسفله ، وهو ما تبدى في وصف الكاتب : (في أعلى مكان من العشة وقف الديك مزهوا نافشا ريشه.. ملأ صدره بالهواء وأطلق صيحة عالية ناظرا لأبعاد فوقية لا يدركها إلا هو..) وهي حال تتوافق مع الفضاء العام لقصيدة القباني التي نقتطف منها ( حين يمر الديك بسوق القرية \\ مزهواً ، منفوش الريش .. \\ وعلى كتفيه تضيء نياشين التحرير \\ يصرخ كل دجاج القرية في إعجاب \\ يا سيدي الديك \\ يا مولانا الديك....... )
والثانية : المصير الذي آل إليه الديك في القصة إذ (انفتح الباب وامتدت يد قابضة على الديك .. حاول الفرار .. صاح صيحة الذعر.. أطبقت اليد عليه .. انغلق الباب ولم يعد بعدها إلى عشته.) وهو يناظر مصير الديك في قصيدة القباني التي ورد في مقطعها الأخير (حين الحاكم سمع القصة \\ أصدر أمراً للسياف بذبح الديك \\ قال بصوت الغاضب \\ (( كيف تجرأ ديك من أولاد الحارة \\ أن ينتزع السلطة مني \\ وأنا الواحد دون شريك ). ويحسن التنويه ان البناء اللغوي للقصة قد غادر المألوف الرمزي في بعض المواضع نحو قوله : وأطلق صيحة عالية ناظرا لأبعاد فوقية لا يدركها إلا هو .

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 26 أكتوبر2010م)


--------------------------------------------------------


قطرة أخيرة
قصة: أحمد الملواني


عندما نمت تلك الليلة شاهدت الحلم الأول لي منذ سنوات.. كانت الآنية النحاسية تفور وتفيض بحملها فيحتل ماؤها القذر المكان، حتى إنني عندما استيقظت، شعرت ببلل في جانبي الأيمن. تحسست الكارتونة المفرودة تحت جسدي، لم تكن مبللة كما توقعت، فأدركت أن الحلم استيقظ معي للحظات، وأن ما شعرت به في جانبي ليس إلا صقيع الشتاء الذي ربما قد حل، تدعمه الاهتراءات المتزايدة في جانبيّ ردائي، فعزمت أن أكتب طلبًا للإدارة، لتزويدي برداء جديد.. وكحل مؤقت، تقلبت على جانبي الأيسر محاولاً العودة للنوم. لم تكن المؤثرات المعتادة ـ كرائحة العفن، أو قرص الرطوبة لجسدي، أو صوت القطرات المصطدمة بقاع الآنية النحاسية ـ لتصد النوم عني، ولكن نظري المتلاحم مع الظلام الدامس، ليمنحني رؤية (خفاشية)، هو ما أربك عقلي بمثير جديد، فاعتدلت جالسًا..
ـ آسف لإيقاظك.
هكذا قال، فلم أجبه..
ـ حاولت ألا أحدث جلبة.. لي فترة أتأمل نومك صامتًا خشية إفزاعك.
ضحكت. حبوت على أربع حتى اقتربت من جسده المتكوم لصق الجدار الرطب.. أكد لي بصري، ما توقعته أذناي، فصحت:
ـ تفزعني؟!! أنت أفضل شيء حدث لي منذ سنوات...
لفترة شعرت أن الكلمات تضيع مني، وكأن عقلي ـ لطول الصمت ـ قد فقد القدرة على تجميع الانفعالات في أقوال..
ـ أنا أفهم ما تفكر به وإن لم تقله.. فلا يقلقك أمر الكلمات.
شجعني قوله، فوجدت طريقي مندفعًا..
ـ الليلة علمت أنني لم أفقد القدرة على الحلم.. والآن أنت أمامي، فأدرك أن خيالي مازال قادرًا على التحليق.
رسم ابتسامة وقال:
ـ أتظنني خيالاً؟
فأجبته:
ـ بالطبع يا جدي أنت كذلك.. أنسيت أنك مت منذ سنوات؟!
بكفه صافح خدي في لمسة طالما اشتقت لها..
ـ ولماذا لم تقل: أنك أنت الذي مت؟ ربما أنا رؤية البرزخ الخاصة بك؟
أهز رأسي بعنف رافضًا منطقه.. فيقول مبتسمًا:
ـ ربما نحن نجلس الآن في منطقة وسطى بين الموت والحياة.. ربما أنا لم أمت تمامًا.. وأنت لا تحيا تمامًا.
أرفض كذلك هذا المنطق.. أبتعد عنه لشبرين.. أحاول أن أصفي عقلي من عاطفة تعلقي به، لأرى الأمور فى نصابها السليم..
ـ كلا.. أنا ما زلت هنا.. هذا عالمي لم أغادره.. هذه زنزانتي.. وتلك رائحة العفن التي تصدرها قطرات المجاري الناشعة من السقف.. اسمع.. هذا صوت ارتطام القطرات بقاع الآنية النحاسية.. هذا عالمي.. أنا مازلت هنا.. أنت من أتيت إلي، وليس العكس.
يهز رأسه:
ـ صدقني أنا نفسي لا أعرف الحقيقة.. أنا فقط أفكر، وأحاول أن أتكهن.. فسامحني إن أخطأت.
تضحكني كلماته..
ـ أسامحك؟ بالعكس.. أنت يجب أن تسامحني إن كنت قد جلبتك ـ بطريقة سحرية ما ـ إلى عالمي.. صدقني يا جدي.. بقدر ما أشتاق إليك، بقدر ما يصعب علي أن أراك هنا معي.
يقترب مني.. يربت على كتفي، فأستكين تحت الضغط الحاني لكفه..
ـ وجودك هنا خطأ يا بني.. ربما لهذا جئتك.. لكي نصحح هذا الخطأ.
بأمل أسأله:
ـ كيف؟
يضايقني صمت رَسم على وجهه قسمات قلة الحيلة، فأفقد أملي رويدًا..
ـ ربما إن عرفنا سبب وجودك هنا..
يعاودني الأمل، فأصرخ:
ـ أنا أعرف...
أكاد أخبره.. ولكن شيئا قبيح كالنسيان يعرقل انسياب كلماتي..
ـ تكلم يا بني.. لم أنت هنا؟
أهز رأسي يأسًا..
ـ لقد نسيت.
ـ نسيت؟!
ـ نسيت كل شيء.. نسيت سبب وجودي هنا.. تمامًا كما نسيت من قبل شكل النهار، وحياتي خارج هذا الحبس.
يبتسم جدي..
ـ يبدو إذن أن إقامتي معك هنا ستطول.
يحزنني قوله..
ـ كلا يا جدي.. أنا اعتدت المقام هنا.. أما أنت فلا.. صدقني حياة الحبس لا تليق بك.. على الأقل من أجل صحتك.
ينفجر ضاحكًا حتى يسقط جسده ممددًا على الأرض الباردة.. ومن بين ارتجافات جسده، وتهدج صوته، يقول:
ـ أية صحة يا عبيط؟!! أنا ميت!
أفهم موطن السخرية في قولي، فأتمدد بجواره من شدة الضحك.
يأتي الصمت تدريجيًا.. نلتقط أنفاسنا.. نلهث.. يسترخي جسدانا.. يتلاصقان..
ـ أتعلم يا جدي.. برغم كل شيء.. أنا أحب وجودك هنا معي.
يمسك كفي، ويقول ما تمنيت سماعه:
ـ وأنا لن أتركك أبدًا.
أعتدل جالسًا، وتتدفق كلماتي حماسة..
ـ أتعرف.. سأكتب للإدارة، أطلب كارتونة نوم إضافية.. ومضاعفة وجبات الطعام..
يقول:
ـ أنت تكتب طلبات للإدارة؟
ـ هو أمر شبه مرفوض.. ولكنني أفعلها بشكل ودي.
يعتدل جالسًا بدوره، مبديًا رغبة في العلم..
ـ وكيف هذا؟
أشير إلى عقب الباب المرتفع قليلاً..
ـ عندما يدفعون لي طبق الغداء.. أحيانًا يكون به بعض الأرز.. هذا الأرز لا آكله، وإنما أرسم بحباته في الطبق حروفا على شكل كلمات الطلب الذي أريده، وأدفعه إليهم من تحت الباب.
يهز رأسه إعجابًا، ويسألني:
ـ وهل يلبون طلباتك؟
أبتسم متذكرًا:
ـ فعلوها مرة واحدة فقط.. ذاك اليوم عندما اكتشفت أن سقف الزنزانة ينشع بماء كريه الرائحة.. تلك القطرات المتتابعة الهابطة من علٍ كانت تهددني بالغرق.. كتبت شكواي.. ليلتها فتح باب الزنزانة للمرة الأولى منذ أن ألقوني بداخلها.. جاءني جندي بتلك الآنية النحاسية الصغيرة.. وضعها تمامًا أسفل القطرات المتساقطة.. صحت به: ولكن هذا ليس حلاً.. فماذا سأفعل بالآنية عندما تمتلئ وتفيض بمائها؟ أين سأسكب هذا الماء؟ جاوبني قائلاً: اطمئن.. الآنية لن تفيض أبدًا! الغريب أنها بالفعل لم تفض حتى الآن.. بل إنها حتى لم تمتلئ.. برغم مرور سنوات لها على هذا الحال.
ـ أمر عجيب.
ـ بل ومستفز كذلك.. لدرجة إنني نسيت خوفي الشديد من أن يغرق المكان في الماء القذر.. وبت أدعو الله أن أراها تفيض قبل أن أموت!
ضحك جدي..
ـ لا تقلق.. يبدو أننا لن نخرج من هنا أبدًا.. وبالتأكيد لدينا كل الوقت لانتظار فيضانها.
ضحكت بدوري.. زحفت نحوه.. مددت جسدي ووضعت رأسي على فخذه..
ـ حدثني يا جدي.. لقد نسيت الكثير من حكاياتك.. احكها لي من جديد.. فلدينا كل الوقت كما تقول.
يربت على رأسي..
ـ من أين أبدأ؟
أجيبه:
ـ من البداية.. أريد أن أتذكر كل شيء.. أريد أن أستعيد كامل كلماتك..
يلتقط نفسًا عميقًا.. يحرره.. يفتح فمه ليبدأ.. ولكن صوت صرير الباب يسكته. الباب يفتح بمشقة بعد طول انغلاق.. يبرز على عتبته جندي ينادي باسمي.. أهرع إليه، فيبشرني:
ـ إفراج.
أصرخ حتى يضيع صوتي.. أمسك بذراعي جدي، أجبره على القفز معي في الهواء، متجاهلاً سنوات سنه المتقدم.. أنطلق نحو باب الحرية.. أعبره.. أنظر خلفي فأجد الجندي يصد جدي عن العبور..
ـ هو فقط.. أما أنت فستبقى هنا.
أعود إليه.. أصرخ فيه:
ـ أنت لا تفهم.. إنه ليس حقيقيًا.. هو من صنع خيالي.. مجرد خيال..
يبتسم الجندي.. يقول وهو يدفعني أمامه:
ـ ولهذا السبب تحديدًا.. يجب أن يبقى هنا.
أحاول أن أتملص منه فأفشل.. يقودني إلى نهاية الممر المظلم.. يغيب عني باب الزنزانة، ورائحة جدي.. يدفعني عبر سلم حلزوني صاعد.. وقبل أن أتبدد، أصرخ بكل ما بقى لي من قوة:
ـ اجعلها تفيض يا جدي.. أرجوك.. اجعلها تفيض..

قراءة نقدية بقلم د.عمر عتيق (فلسطين)
تجسد قصة ( قطرة أخيرة) لونا سرديا أطلق عليه جمهور النقاد أدب المنام أو المنامات ، وهو السرد الذي يحفل بالخيال والإثارة والمفاجأة والتشويق ... وقد يميل بعض النقاد إلى وصف قصة ( قطرة أخيرة ) بأدب الفانتازيا اعتمادا على التماهي بين البعد الواقعي والبعد الخيالي اللذين يصبغان أحداث القصة ، إذ أبدع الكاتب في مزج المشاهد الواقعية بمشاهد مغرقة في الخيال .
يوهمنا الكاتب - ببراعة – في بداية القصة أن الحوار الذي دار بينه وبين جده المتوفى هو حوار حقيقي واقعي وذلك من خلال تقنية التصوير الواقعي حينما أخبرنا بضمير المتكلم أنه استيقظ من نومه ليجد جده المتوفى يرافقه في زنزانته .
ويشكل البعد المكاني ( الزنزانة ) فضاء مشبعا بعناقيد دلالية ... ولعل أكثر العناقيد سطحية هو دلالة الزنزانة على مأساة المعتقل السياسي ، وهي دلالة أزعم أنها مستبعدة من الرسالة المضمرة للقصة على الرغم أن القصة حرصت على التفاصيل الوصفية الدقيقة للزنزانة والمعتقل الذي يقبع فيها منذ سنوات . أما العناقيد الدلالية العميقة للزنزانة فهي تفاصيل المعاناة والأعباء التي يرزح تحتها المجتمع ، فالزنزانة الضيقة هي المجتمع الواسع الذي ينمو فيه القهر والإحباط إلى حد لا يليق بالموتى وهو أمر تجسد في قول الشخصية الرئيسة لجده المتوفى : (صدقني يا جدي.. بقدر ما أشتاق إليك، بقدر ما يصعب علي أن أراك هنا معي........ \\ كلا يا جدي.. أنا اعتدت المقام هنا.. أما أنت فلا.. صدقني حياة الحبس لا تليق بك.. على الأقل من أجل صحتك.) ويزداد المشهد سوداوية حينما يصعب التمييز بين الحي والميت ؛ الحي الذي يتنفس القهر في زنزانته أو مجتمعه ... والميت المدفون تحت التراب ، وذلك في الحوار الفانتازي بين الشخصية والجد المتوفى ، نحو قوله : (ولماذا لم تقل: أنك أنت الذي مت؟ ربما أنا رؤية البرزخ الخاصة بك؟) .
ولا يخفى أن الآنية النحاسية في وسط الزنزانة النتنة التي تتجمع فيها المياه الكريهة المتساقطة من سقف الزنزانة تحدث عصفا ذهنيا للقارئ الناقد المتأمل ... وتفجر حزمة من التساؤلات ؛ لماذا اختار الكاتب أن يكون معدن الآنية نحاسا ؟ وعلام تدل المياه الكريهة التي ترشح من سقف الزنزانة ؟ وإلام يرمز عدم امتلاء الآنية وانتظار فيضانها ؟ ... تساؤلات تفتح أبواب الإجابات على مصارعها ... !!!!!! هل ترمز الآنية النحاسية إلى مؤسسات بعينها يتراكم فيها الفساد ؟ أم ترمز إلى أولئك الصابرين القابضين على الجمر وقد طال انتظار رفضهم لتراكم المياه الكريهة ؟!

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 26 أكتوبر2010م)


ليست هناك تعليقات: