بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 14 مايو 2011

الفصل الأول من رواية أسد القفقاس




























منير عتيبة






أسد القفقاس
رواية

كريمة..
العالم فى حجرة أبى

تأخر أبى اليوم أكثر من المعتاد. يزداد تأخره يوما بعد آخر فى الفترة الأخيرة. ويزداد قلقى عليه. أعلم ما يشعر به، وما يفكر فيه. لكنى لا أملك له شيئا.
هل أذهب إليه الآن؟
أحيانا يسعده أن أذهب إليه. نتحدث. نضحك، أو أضحك أنا بينما هو يبتسم بوقار وشجن. لكنى أحيانا أشعر أنه يتضايق من وجودى معه هناك. كأننى شاركته فى عالم يملكه وحده. أو كأننى ضيعت عليه شيئا كاد يمسكه بيديه أو يتيقنه بروحه.
يميل إلى الانفراد بنفسه. يزهد فى الحديث. يستبطن مشاعره الداخلية. يعيد تقييم حياته الطويلة. يحاسب نفسه بشدة على كل ما فعله. وبشدة أكبر على ما لم يفعله.
أنا وإخوتى وكل من رافقوه فى رحلته إلى الحج؛ لم نشعر بغربة فى المدينة المنورة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لهذه المدينة سر ما. سر يجعلها تحل فى نفسك محل بلدك الأصلى بمجرد مقامك فيها. لا تقوم بدور البديل. لكنها تمثل سلوى عظيمة. لعله هو نفسه السر الذى به احتضنت رسول الله وصحبه ودعوته.
أفتح شباك حجرته. أطل منه بأمل أن أراه قادما. الشارع شبه خال من المارة. الجو بعد صلاة العصر شديد الحرارة. لكنه هناك. أعرف أنه هناك. وبالتالى فهو لا يشعر بحرارة الجو من حوله.
ها هو قادم من بعيد. ها هو يقترب.
لا.. لا أحد.
ما بك يا كريمة؟ القلق سيجعلك تخرفين وترين خيالات خارجة من رأسك أنت فقط.
لن أدع نفسى نهبا لقلقى عليه. صحته فى الأيام الأخيرة غير مطمئنة. سأرتدى ملابسى وأذهب إليه حالا.
***
ألتقى فى طريقى بالسيدة زهيرة؛ جارتى، قادمة من السوق. أسلم عليها. نتحادث قليلا. تعرض علىّ إرسال خادمتها معى. أشكرها. أواصل طريقى إليه.
ترف على شفتي ابتسامة. عندما أخبرته بما حكته لى السيدة زهيرة؛ ضحك. كانت من المرات القليلة التى أسمع فيها لضحكته صوتا. الأميرة الهندية التى أسلمت رغما عن أهلها، ثم ماتت وهى تصلى. ودفنت فى الهند. ثم وجدوا جثمانها فى البقيع بالمدينة مكان جثمان رجل غير صالح دفن بالبقيع. لأن أرض البقيع لا تحتضن إلا أجساد الصالحين.
- إنها حكايات الجهل يا ابنتى!
ثم يبتسم. ويخبرنى عما يروجه أحد حراس مقابر البقيع. يقول إنه يرى فى كل ليلة قوافل إبل من نور أبيض، وقوافل إبل من قطران أسود. على الأولى أكفان بيضاء تفوح منها رائحة مسك فردوسية. وعلى الأخرى مزق سوداء نتنة الرائحة. تجلب الأولى كل ليلة أرواح وأجساد المؤمنين الصالحين الذين ماتوا فى أى مكان فى الدنيا. وتدفنهم فى البقيع. وتأخذ الأخرى أرواح وأجساد من دفنوا بالبقيع من غير الصالحين.
عندما سأله أبى:
- ومن يقود تلك القوافل؟
- يقود قوافل النور ملائكة من نور، وجوههم مبتسمة. ويقود قوافل الإبل السوداء ملائكة غلاظ شداد، متجهمى الوجوه.
- وأين يذهبون بأرواح وأجساد غير الصالحين؟
- يذهبون بها بعيدا.
- بعيدا أين؟
- والله يا شيخ هذا لا أراه. أنا أصف لك ما أراه بعيني فقط (!!) ربما يلقونها فى أعماق الجحيم.
ويضحك من جديد..
- العامة يخترعون الحكايات. ويضيفون إليها. ويصدقونها حتى لو كانت منافية للعقل. فاحذرى أن تصدقى أى شئ دون أن تعرضيه على إيمانك وعقلك.
- لكننى أعلم أن مقابر البقيع مباركة.
- إنها أكثر من مباركة يا ابنتى. إن بها أكثر من عشرة آلاف صحابى ومعظم أمهات المؤمنين، وإبراهيم ابن النبى، وبنات النبى، والعباس عمه، والحسن حفيده. وغيرهم وغيرهم. وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها مقبرة بين سيلين غربية، يضيء نورها يوم القيامة ما بين السماء إلى الأرض، وقال لأم قيس : ترين هذه المقبرة، يبعث منها سبعون ألفاً، وجوههم كالقمر ليلة البدر، يدخلون الجنة بغير حساب.
***
أراه من بعيد. واقفا يتأمل مقابر البقيع. أقترب منه. تجاوز الثانية والسبعين من عمره. يتوكأ على عصا سوداء ذات مقبض فضى. لكنه ما زال مشدود القامة كفارس أمضى عمره كله فوق حصان. لم يشعر بوجودى بجانبه. وقفت صامتة.
داعب ذقنه الطويلة ثلجية البياض. تأمل بعينيه الحادتين القبور المنثورة أمامه بخشوع ومحبة:
- يا سادتى! هل يتحقق حلمى وأدفن معكم؟ أغسل بدموعى أقدامكم الطاهرة.
تلوح ابتسامة وليدة على شفتيه وهو يتخيل نفسه مدفونا بجوارهم. ثم يمسحها بسرعة كذنب يكفر عنه:
- لا يا فتى! لا تستحق كل هذا النعيم!
رفع عصاه. وضعها بمحاذاة كتفه الأيمن. أغلق عينه اليسرى. أطلق بفمه صوت فرقعة كأنه يطلق رصاصة من بندقية. ضحك بشدة:
- رائع! ضربة صائبة!
عاد يجعد ملامحه غير راض عن نفسه:
- بل طائشة! ضربة طائشة يا فتى!
ألقى العصا على الأرض. تأمل قبور صحابة رسول الله بالبقيع. هطلت دموعه:
- السلام عليكم يا سادتى! لا أستطيع أن أمنع نفسى من الحلم بأن أدفن معكم. لكنني أعلم علم يقين أننى أقل من أن أحلم بذلك. لطالما تمنيت أن أموت شهيدا. تنطلق روحى من عقال هذا الجسد الفانى وهو يسقط من فوق حصان منطلق بين الغابات الكثيفة، ككثير من صجبى وأتباعى. أو تغادره وهو راكع أو ساجد قبيل معركة يستمد العون من الله. أو بعيد معركة يسجد لله شكرا على النصر. يا سادتى! وها أنتم ترون، ما زالت روحى سجينة الجسد الذى يعمل فيه الزمن بمعاوله، لم أرزق الشهادة. وفى النهاية استسلمت. نعم استسلمت.. استسلمت.
ألقى بجسده على الأرض بجوار العصا. مسح دموعه بكمه. أمسك العصا. أشار بها إلى شئ فى الفضاء لا يراه إلا هو:
- لماذا استسلمت يا فتى؟ لماذا لم تقاتل حتى النهاية؟
- لكن أية نهاية؟ نهايتى أم نهاية من كانوا معى؟ وهل ألقى بهم إلى هلاك محقق بعد أن تخلى عنا الجميع؟
- كان يجب أن تحاول. لا تستسلم.
- أنا لم أستسلم بسهولة، لم أستسلم بسهولة.
- لكنك فى النهاية استسلمت. هل خفت من الموت؟ هل حرصت على الحياة لدرجة أن تلقى سلاحك وتمد يديك إلى العدو يكبلهما، وتضع مصيرك بين يدي رحمة عدوك؟
- لم أخف الموت. ولم أختر الحياة لأجل نفسى. بل لأجل من كانوا معى. كنت مسئولا عنهم. ولم يكن يحق لى أن ألقى بهم إلى التهلكة.
- خمسة وعشرون عاما تخوض غمار حروب مهلكة، فلماذا لم تكن تفكر فى التهلكة، هل ضعفت فاستسلمت؟ أم يئست من النصر فألقيت السلاح؟
- نصر؟ أى نصر؟
- النصر النهائى على العدو.
- ومن قال أننى كنت أبحث عن النصر النهائى أو أنتظره؟
- فلماذا يا فتى؟ لماذا إذن؟
- يا أبى! يا أبى!
اقتربت منه. أفاق. لاحظ أنه ما يزال يرفع العصا فى الفضاء تجاه الآخر الذى كان يحاسبه. نظر إلىّ. ابتسم.
- ألن تعود إلى البيت يا أبى؟
ينظر إلى تربة البقيع الرمادية، والقانية. يرفع يديه أمام وجهه. ينظر إلى السماء:
- السلام عليكم دار قوم مؤمنين. أتاكم ما توعدون. غداً مأجورون. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل البقيع. السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين. ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين. وإنا إن شاء الله بكم للاحقون.
يمسح على صدره بيديه. يلتفت إلىّ:
- هيا يا ابنتى!
***
- ناولينى شربة ماء يا كريمة.
كان وجهه متغير اللون كمن عاد من سفر طويل. جسده الممدد فوق السرير ينتفض انتفاضات خفيفة. ناولته الماء. شرب وحمد الله. تعلقت عيناه بسقف الحجرة. اتسعت عيناه. همهم بشئ لم أسمعه. عيناه تتحركان فى كل أرجاء الغرفة. يبتسم. يكشر عن أسنانه. يتهلل وجهه. تنزل من عينه دمعة. تنضغط ملامحه بألم. تنفرج أساريره.. قرأت على صفحة وجهه كل ما يمكن أن يمر به إنسان من مشاعر فى حياته كلها. رأيت فى عينيه انعكاسا غريبا لجبال داغستان الشامخة يكسو قممها الجليد، إنه يحب هذه الجبال. يعشق الغابات التى أرى ظلال فروع أشجارها الآن تتحرك فى بؤبؤي عينيه. أسمع صوته بصعوبة:
- يا كريمة! يا كريمة!
أقترب بأذنى من فمه:
- ما الذى أتى بكل هؤلاء إلى حجرتى؟ كيف تسعهم الحجرة؟
نظرت حولى. لم أر أحدا. لكنه كان يراهم بالفعل. كانوا يقينا معه.


هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،، شكراً لجهودك وجميل ان احد يهتم بكتابة التاريخ ،،لكن للاسف حابه اقتني هذه الروايه وقرائتها ياليت ترسلين لي رابط تحميل الروايه الرجاء عدم تحاهل رسالتي