بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 1 مارس 2011

قراءة الدكتور أحمد المصري في رواية " زيوس يجب أن يموت "

بحثا عن الحرية.. قراءة في رواية (زيوس يجب أن يموت)
د/ أحمد محمود المصري

الأدباء المبدعون في كل زمان ومكان يحملون مشاعل الحرية ومصابيح التنوير،وهم أجدر من غيرهم على القيام بهذا الدور،لما منحهم الله من بصيرة نافذة وقدرة فائقة على الكشف تسبر أغوار الأمور، وتدرك حقائق الأشياء،تستشرف المستقبل وترسم صورته المأمولة،والأديب المبدع عصفور مغرد يحلق في سماء الحرية لا يستسلم للقيود ،ولا يرضى بالتحليق بديلا.
وكاتبنا أحمد الملواني أحد هذه العصافير المغردة في سماء الإبداع ،وروايته:(زيوس يجب أن يموت) شاهدة على تميزه ، وناطقة بموهبته الروائية الواعدة ،تغري المتلقي بقراءة صفحاتها ، وتدفعه دفعا إلى التفاعل معها ،والغوص في بحار معانيها، ومشاركة الكاتب تجربته الفنية،وبالرغم من أن هذه الرواية تعد الأولى بالنسبة لصاحبها إلا إننا نشعر بتمرس صاحبها وتمكنه من أدواته الفنية بشكل يوحي بامتلاكه لخبرة كبيرة في مجال السرد الروائي مما يدل دلالة قوية على أننا أمام كاتب موهوب لديه من الموهبة والقدرة على الإبداع ما يؤهله لإثراء السرد الروائي بإبداعات مستقبلية تضعه في مكانة متميزة بين المبدعين الذين أهلتهم موهبتهم لتصدر المشهد الإبداعي في عصرنا الحديث.
وإذا كان عنوان الرواية يعد المفتاح السحري لفك شفرة التشكيل ونظاما سيميائيا له أبعاده الدلالية والرمزية التي تغري الباحث بتتبع دلالاته ومحاولة فك شفراته الرامزة فإن كاتبنا قد تخير لروايته عنوانا يوحي بدلالات كثيرة ،ويطرح في ذهن المتلقي أسئلة عديدة حول المقصود منه، فعندما نقرأ عنوان ( زيوس يجب أن يموت ) قد نتصور أن الكاتب يتحدث في روايته عن أسطورة يونانية قديمة محاولا إعادة صياغتها وتقديمها بصورة جديدة يسهل على المتلقي التفاعل معها ، وقد نتصور أن الكاتب يستخدم عنوانا رمزيا ، أويرتدي قناعا أسطوريا يهدف من خلفه إلى نقد سلبيات المجتمع وهي تقنية من أهم سمات الحداثة عموما التي تنضوي على عملية استدعاء أو استحضار أو استرجاع تستهدف إشراك المتلقي في تجربة المبدع من جهة وفي المحتوى المعرفي الذي تستحوذ عليه الإشارة أو القناع من جهة أخرى , والحق أن كاتبنا في روايته يستقطع زمنا كاملا ويطرحه أمامنا بكل أحداثه وشخوصه وآماله وآلامه , يطرح هذا الزمن أمامنا في لحظة معيشتنا الراهنة من خلال بنية روائية مفارقة يصلها بالحاضر عبر خيوط خفية غير معلنة , لكي تعالج هموما وقضايا معاصرة بدهاء روائي واضح يدل على براعة كاتب الرواية وتمكنه من أدواته الفنية بشكل ملموس, وبالتالي فإن عنوان روايتنا شديد التلاحم مع متنها النصي , بحيث يمكننا القول إن هذا المتن قد جاء تفصيلا موسعا للعنوان , كما أن إدراك العنوان يعد مقدمة ضرورية لإدراك المتن ؛ فعندما يقول المؤلف في عنوان روايته " زيوس يجب أن يموت " فإن المتن الروائي يعطينا مبررات هذا العنوان ومسبباته ويجعلنا في نهاية الرواية نردد مع المؤلف عنوانه الصادم فنقول : حقا إن زيوس يجب أن يموت , وزيوس هنا رمز واضح للقهر والقمع وكبت الحريات وللسلطة الظالمة التي تقهر الضعفاء وتتفنن في تعذيبهم وإذلالهم .
وروايتنا هي في الواقع روايتان , أو بالأحرى رواية داخل رواية , وكل رواية منهما لها أحداثها وشخوصها ولغتها المميزة لها عن أختها ؛ فإحداهما تتناول عالما أسطوريا يجسد صراع الإنسان ومعاناته ضد الظلم والقهر بأسلوب يقترب كثيرا من التراجيديات اليونانية الكلاسيكية , بينما الثانية تتناول واقعنا المعاصر بكل ما فيه من سلبيات وأزمات طاحنة , ورغم ما يبدو للوهلة الأولى من تباعد بين الموضوعين فإن ثمة خيوط كثيرة تربط بينهما ؛ لأننا سرعان ما نكتشف أن جميع أبطال الرواية الثانية يشتركون مع بطل الرواية الأولى في نفس المصير .
وإذا كانت القدرة على بناء الشخصية تساوي في الغالب بناء القصة أو الرواية الجيدة , بمعنى أنه بقدر براعة الكاتب في رسم شخصياته الروائية بقدر ما يكون عمله ناجحا،فإن أحمد الملواني يمتلك هذه القدرة التي مكنته من تقديم شخوص روايته تقديما مقنعا جعلها تتحول من مجرد شخوص ورقية إلى شخوص من لحم ودم نراهم في حياتنا ونقابلهم في طريقنا بل ويتشابهون معنا إلى الحد الذي يجعلنا نشعر أنهم يمثلوننا ويعبرون عنا تعبيرا صادقا وحقيقيا؛ وذلك لإجادة المؤلف بناء شخصياته عبر الوصف الخارجي لها ، أو الحوار الذي يدور بينها ، أو المنولوج الداخلي الدائر في نفوسها، أو الاستعانة بالشخصيات الثانوية لتوضيح أفكار الشخصيات الرئيسة وصورها، وغيرها من وسائل رسم بناء الشخصية الروائية .
وتدور الرواية الأولى حول كرونوس الفلاح البسيط الذي يراه جيرانه رمزا للشؤم ومحلا لغضب الآلهة، ويشيعون أنه معاقب يحمل القحط أينما حل، وأمام هذا القهر يصرخ كرونوس قائلا: أيعرف أحدكم جريمة لي؟ فيصمتون مما يدفعه إلى القسم بأنه سيلقنهم جميعا درسا لن ينسوه، وأته سيتحدى الآلهة التي ظلمته وسيسعى لتغيير مصيره، وفي سبيل تغيير هذا المصير يخوض كرونوس رحلة طويلة شاقة مليئة بالصعاب والآلام تبدأ بأسر ديونيسيوس له لمدة خمس سنوات عانى فيها من الذلة والمهانة والجوع والعطش تنتهي بخروجه إلى معبد زيوس ليعلن ثورته عليه وعدم التذلل له،ثم يسقط في يد عصابة من اللصوص يحولونه إلى خادم لهم بهدف بيعه بعد ذلك.
وفي أثناء خدمته لهم يعرف هيرميس ربهم الذي يأخذ حصة من كل سرقة يقومون بها في سبيل حمايته لهم ومباركتهم وهنا يقرر كرونوس سرقة وعاء الخير من زيوس وليحقق هدفه يلجأ إلى خطة ماكرة لخداع الآلهة وتأليبهم على بعض فيخدع كلا من : هيرميس إله السرقة , وهيفستيوس إله النار , وآرس إله القتال وعن طريق خداعهم يكتسب قوة كبيرة تمكنه بعد ذلك من قتل آرس بل وقتل هرقل نفسه وعند هذا الحد يلتقي يزيوس ويفاجأ بأنه لم يغضب لمقتل ولديه آرس وهرقل وإنما يعرض عليه أن يلعب دوريهما ويصبح حامي مجد الآلهة وتابع كلمة زيوس على الأرض ويوافق كرونوس على هذا العرض ويرى فيه تغييرا لقدره ورسما جديدا لمصيره يحمل من الخير قدر ما حملته البدايات من فقر وتعاسة.
أما الرواية الثانية فتدور حول الكاتب الروائي أحمد الذي درس الهندسة لكنه وجد نفسه في الأدب فتفرغ له وبرع فيه , وله صديقان هما عبد الرحمن مكاوي ومحمد عطوة , الأول يعمل بشركة أدوية كبرى تتم خصخصتها فتستحوذ عليها شركة أردنية تسهم بها بنسبة كبيرة شركة إسرائيلية فيقرر الثورة على هذا الوضع ومواجهته , والثاني صاحب شركة مقاولات وعضو في جماعة الإخوان المسلمين وهذا كان كفيلا بأن يجعله ضيفا دائما على السجون وعرضة لكثير من الاتهامات .
ويجمع بين الأصدقاء الثلاثة صديق مشترك هو أستاذهم في كلية الهندسة يوسف قطيط وهو نموذج مثالي للأستاذ الجامعي الذي يحتضن طلابه ويدعمهم بصورة دائمة , يرفض الظلم ويناضل من أجل الحرية , لا يتحمل قلبه المرهف ما يلاقيه من نكران ومعاملة سيئة من السلطة التي تقهره أكثر من مرة ؛ فهي بداية تعاقبه على انضمامه إلى حركة 9 مارس المطالبة بحرية الجامعة فتضطهده وتمنعه من السفر إلى أحد المؤتمرات العلمية بحجة عدم موافقة الأمن , ويصل القهر إلى مداه عندما يصفعه ضابط صغير على وجهه في إحدى المظاهرات ليسقط مصابا بتلف في المخ ؛ لأن كرامته لم تتحمل هذه الإهانة في إدانة واضحة من المؤلف لسياسة القمع الغاشمة السائدة في مجتمع بوليسي يواجه الكلمة باللكمة والحجة بالعصا .
والحق أن خيوطا كثيرة في هذه الرواية تستحق الدراسة والاهتمام إلا أنني سأكتفي بالإشارة إلى بعض التقنيات التعبيرية البارزة التي فرضت نفسها على البناء الروائي في روايتنا التي بين أيدينا .
ومن أبرز هذه التقنيات ما يلي:

(1) براعة الاستهلال
ثمة علاقة وثيقة بين بداية الرواية والبنية الداخلية لنصها ؛ وذلك لأن البداية الجيدة تعد جسرا يعبر عليه القارئ ليلج إلى عالم الرواية التخيلي , ويدرك إطارها الكلي , ولعل أبرز ما يميز البدايات الروائية المتميزة يكمن في لفت انتباه المتلقي إلى مضمون الرواية والتفاعل مع أحداثها وشخوصها , وقد بدأ أحمد الملواني روايته بجملة على لسان بطلها يقول فيها :- " أنا كرونوس " وهي بداية جاذبة للاهتمام تدفع المتلقي إلى التساؤل عن طبيعة هذا المتكلم ومحاولة التعرف على قصته , وهو ما يقوم به المؤلف بعد ذلك عندما يسرد قصته بكل ما فيها من معاناة وصعوبات ويوضح فيها كيف تمكن من التغلب على هذه الصعوبات وتغيير مصيره بيده , ولا يخفى علينا ما في هذه البداية من اعتداد بالنفس وفخر بالذات الإنسانية التي تملك بداخلها قوة خارقة تنتظر اللحظة التي تتفجر فيها نافضة عنها غبار الضعف والذلة والمهانة التي تفرض عليها من قوى تريدها دائما مستسلمة خانعة خاضعة , وقد حرص المؤلف على تكرار هذه الجملة في بدايات فصول روايته وفي ثناياها حتى إنه قام بتكريرها ست عشرة مرة تأكيدا على اعتزاز كرونوس بنفسه وإيمانه بقدراته التي مكنته من التغلب على خصومه وإجبارهم على احترامه بعدما عانى كثيرا من إذلالهم له وسخريتهم منه .


(2) ترابط الأفعال الحكائية :
والمقصود بترابط الأفعال الحكائية تآزرها فيما بينها بعلاقات وظيفية تشكل هذه العلاقات قواعد مشتركة بين النصوص الحكائية كما تحدد لها نمطا بنيويا يكاد أن يكون واحدا .
وتبدأ حكايتنا بتمرد كرونوس وخروجه على الذلة والمهانة المفروضة عليه واتهامه بالشؤم وإحلال الخراب أينما حل , وتحركه نحو غاية يسعى إلى تحقيقها , وتشكل هذه البداية الحلقة الأولى من حلقات السياق السردي , ثم تتعرض شخصية البطل إلى صعوبات تعيق سيرها وتحول دونها ودون الوصول إلى هدفها التي خرجت من أجل تحقيقه , وهذه الصعوبات تمثل الحلقة الثانية من حلقات السرد , ثم تبدأ هذه الحلقة في الانفراج تدريجيا عندما ينتقل البطل من صعوبة إلى أخرى وبذلك تتعدد حلقات الحكاية لكن دون أن تفقد العقدة فيها .
إن تعرض فعل الخروج إلى ما يعيق وصوله إلى غايته هو بمثابة الضرورة لاستمرار فعل السرد الحكائي , أو قل إن السرد يستمر كضرورة للتغلب على ما يعيق فعل الخروج ويحول دون تحقيق غايته , وفي هذا المجال تتحرك الشخصية الرئيسة وتمارس فعلها كمعاناة أو كتجربة تكتسب بها صفة البطولة وهذا ما ينطبق على كرونوس انطباقا تاما .
ثم تأتي الحلقة الأخيرة من حلقات السرد الحكائي وفيها تتكشف الصعوبات عن حل لها واضعة نهاية للسرد الحكائي.

(3) تقنية التكرار:
من أبرز السمات التي نلاحظها في هذه الرواية اعتماد المؤلف على تقنية التكرار التي تتنوع صورها في الرواية فأحيانا تكون بتكرار مفردة بعينها وأحيانا تكون بتكرار عبارة أو سطر كامل بل يصل الأمر أحيانا إلى تكرار عدة جمل متتالية ربما تصل إلى صفحة تقريبا .
ومن صور هذا التكرار تكرار المؤلف لجملة ( أنا كرونوس ) التي كررها ست عشرة مرة موزعة على فصول الرواية المختلفة ولهذا التكرار دلالته الواضحة على اعتزاز كرونوس بنفسه .
ومن العبارات التي تتكرر أكثر من مرة عبارة (فلأبقى في بيتي معززا ) التي تكررت على لسان كرونوس أربع مرات في صفحة ونصف الصفحة , وهي عبارة يقصد المؤلف من ورائها انتفاء العزة وذهابها بمجرد أن يخرج كرونوس من داره ؛ لذلك فهو يريد أن يغلق عليه بابه ويعيش منعزلا عن الآخرين , لكنه مع ذلك يتعرض للمذلة والمهانة عندما تحطم القناطير باب داره وتلقي القبض عليه .
وقد يصل التكرار إلى تكرار صفحة كاملة تقريبا مثلما نرى في افتتاحية الرواية التي يقول فيها كرونوس :
يقولون :
كرونوس يحمل القحط أينما حل
يقولون :
كرونوس مكبل بغضب الآلهة
يقولون :
كرونوس معاقب
فأتحداهم
أيعرف أحدكم جريمة لي ؟
فيصمتون
اللعنة عليكم
أنا كرونوس
إن كنتم تظنون قدري بيدي
ليكن
سأريكم كيف سيغير كرونوس قدره
بحق صواعق زيوس
بحق زلازل بوسيدون
بحق براكين هيفيستوس
سيلقنكم كرونوس درسا لن ينسى
سترون كيف يتحدى هذا الضئيل الآلهة
سأغير قدري
سأرسم مصيري بيدي
أو أهلك على المحاولة
هذه الافتتاحية القوية التي تمثل ثورة كرونوس على الظلم الواقع عليه وسعيه إلى تغيير واقعه , يعود المؤلف ليكررها في نهاية الرواية في معرض مختلف هو افتخار كرونوس بنجاحه والتباهي بانتصاره ؛ لذلك تتحول اللغة من زمن الاستقبال إلى الزمن الماضي فنراه يقول :
كانوا يقولون
كرونوس مكبل بغضب الآلهة
ويقولون:
كرونوس معاقب
وكنت أتحداهم
أيعرف أحدكم جريمة لي ؟
ثم يقول في نهاية حديثه :-
قلت إني سأغير قدري
سأرسم مصيرا مغايرا
يحمل من الخير
قدر ما حملته البدايات
من فقر
وتعاسة
وها أنا ذا
بررت بقسمي

(4) التوازي اللغوي:

تقوم الرواية على بنية المفارقة والتوازي بين عالمين مختلفين , هذا التوازي يتجسد في اختلاف الأداء اللغوي بين الروايتين , فالرواية التي تتحدث عن كرونوس وعالمه تتميز بالشاعرية وسرعة الإيقاع فالجمل قصيرة متتالية تقل فيها حروف العطف وتتسم بالإيجاز والتكثيف معا , لغة حالمة تطير من حدث إلى آخر في سرعة خاطفة , بينما الرواية الموازية لها التي تتحدث عن واقعنا المعاصر تأتي الجمل فيها أكثر طولا والإيقاع أبطأ نسبيا , وتصبح الشخصيات أكثر تعقيدا وتنوعا وتزداد العلاقات بينها تداخلا وتشابكا .
ورغم هذه المفارقة بين عالمين مختلفين زمنيا واجتماعيا إلا أن ثمة نقاط التقاء كثيرة بينهما يأتي في مقدمتها تطلع الإنسان إلى تنسم عبير الحرية وكفاحه الشديد من أجل تحقيق هذه الغاية ومحاولته التغلب على القهر المفروض عليه من السلطة المستبدة التي تأبى أن تمنحه هذا الحق المشروع وصراع الإنسان من أجل حريته صراع لا يرتبط بزمان أو مكان وإنما يرتبط بالإنسان أينما حل وأينما كان .
ففي قصة كرونوس هناك رأس للاستبداد يمثله زيوس الذي يريد كرونوس أن يتخلص منه ويسعى بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة إلى قتله وتغيير المصير المؤلم المهين الذي فرضه عليه، بينما في القصة الموازية لها يمثل الرئيس
المعادل المعاصر لزيوس في تأليه من حوله له، وفي فرضه واقعا مهينا مستبدا يعاني منه الناس معاناة شديدة ويسعون إلى تغييره والتمرد عليه (وهنا نرى الكاتب يستشرف المستقبل وكأنه يقرأ الأحداث من وراء حجاب ، وإن كان ما حلم به لم يتحقق في خياله الروائي رغم تحققه في الواقع بعد ذلك)
وأوجه الشبه بين زيوس والرئيس كثيرة فكلاهما تحميه أنظمة مستبدة تقهر الناس وتكمم أفواههم وتكبت حرياتهم وتتفنن في إذلالهم وإهدار كرامتهم.
ولننظر إلى شكوى كرونوس من معاناته في الحياة ونستمع إلى مخاطبته المتخيلة لزيوس حين يقول :
لماذا تفعل بي كل هذا وأنا من رعاياك ؟
إن كنت تعاقبني..
صارحني بجريمتي..
وإن كان لا علم لك بمعاناتي
فها أنا أبلغك
وأشكوك
وعندما نستمع إلى كرونوس الشاكي هنا فإننا نلاحظ تشابها كبيرا بين صوته وأصوات كثيرة نسمعها يوميا في حياتنا ممن يشكون سوء الحال وصعوبة العيش دون ذنب اقترفوه أوجناية ارتكبوها ويشعرون أن أصواتهم لن تبلغ صناع القرار الذين يملكون حل مشكلاتهم.
ويصل التشابه بين زيوس والرئيس -الذي لا يسميه أحمد الملواني في روايته- إلى حد التوحد والتطابق إذا قارنا بين وصف كرونوس لتمثال زيوس بوصف أحمد لصورة الرئيس،فقد أفرد المؤلف صفحتين لوصف تمثال زيوس في الفصل الثالث ثم عاد ليصفه مرة ثانية في الفصل الثامن , بينما وصف صورة الرئيس في أربعة مواضع على الأقل , ومن صور التشابه بين التمثال والصورة أن كلا منهما لا يقدم الصورة الحقيقية وإنما يعطي صورة زائفة يراد تصديرها إلى من يشاهدها وبقليل من التأمل تتضح هذه الصورة الزائفة لذلك يقول كرونوس :-
وتغمرني نظرة لا معنى لها
من عينين حجريتين
ميتتين
وهو وصف قريب جدا من وصف أحمد لصورة الرئيس حين يقول :-
اللعنة على هذه اللافتة , والصورة السخيفة التي تتصدرها .. ما معنى هذه النظرة الغريبة ؟ وذلك التعبير المضحك المرسوم على صفحة الوجه .
ولننظر مرة أخرى لوصف كرونوس لتمثال زيوس وما يكسوه من وقار وجمال حيث يقول :-
ويعلو البركة تمثال ذهبي
لرب الآلهة
لم أر في مثل حجمه من قبل
وجهه مكسو بالإجلال
والسماحة
والوقار
زيوس كما يراه الآلهة
لا كما يراه الفانون
ونقارنه بوصف أحمد لصورة الرئيس التي تفنن صانعها في تجميلها حيث يقول :-
وجهه مرسوم بدقة التكنولوجيا الرقمية لأحدث برامج تعديل الصور ليصير أصغر عمرا وأجمل محيا .
لكن الخديعة لا تنطلي إلا على السذج الذين لا يعملون عقولهم ؛ لذلك لا يتقبلها من يتمتع بعقلية قادرة على تحليل الأمور ؛ وبالتالي فإننا نجد عبد الرحمن مكاوي وهو أحد أبطال هذه الرواية يعلق على صورة الرئيس في موضع آخر بقوله :-
هي مجرد لافتة مفرغة .. الصورة جميلة .. ولكن برأيك كم يبلغ حجم الفراغ خلفها ؟ هل يظنون أن صورة جميلة بإمكانها أن تداري خرائب أعوام من الهدم ,. وعهود من صناعة الخواء ؟
ومن أوجه الشبه الأخرى بين عالم كرونوس الخيالي وعالمنا الواقعي ما نراه من قسوة مفرطة من السلطة تجاه البسطاء من أفراد الشعب , فهذا كرونوس يجلس في بيته مغلقا بابه عليه لكنه لم يسلم من الأذى حيث اقتحمت داره القناطير مهشمة بابه وقاذفة بالرعب في نفسه ملقية القبض عليه , وقد عبر المؤلف عن هذا الموقف تعبيرا يبرز مدى قسوة السلطة وقهرها للبسطاء حيث قال :-
صرخ أحدهم :
أأنت كرونوس ؟
أهز رأسي
ينحني ويقبض على ساقي
يغادرون الدار
جارين جسدي المرتجف خلفهم
يلقون بي في عربة مغلقة
يجرها نمران أرقطان
وينطلق الموكب مسرعا
لا قبل لي بإيقافه
يقودني إلى مصير مجهول
لا قبل لي بمواجهته
وهذا الموقف القامع نراه يتكرر كثيرا في ظل الأنظمة البوليسية , كما نراه يتكرر كثيرا في النص الموازي لهذه الرواية مع محمد عطوة الذي يلقى القبض عليه أكثر من مرة لمجرد قناعاته المختلفة وهوى السلطة .
ولعل أهم أوجه التشابه بين رحلة كرونوس ورحلة أبطال الرواية الموازية لروايته يكمن في عدم القدرة على تحقيق الهدف الذي كافحوا من أجله بالشكل الذي كانوا يتمنونه ؛ مما جعلهم يقبلون ربما بالحل الأوسط ويتكيفون معه , فكرونوس بعد انتصاره وقتله لآرس وهرقل رضي أن يقوم بنفس الدور الذي كانا يقومان به ونسي هدفه الذي خرج من أجله وهو قتل زيوس وارتضى أن يعمل تحت سلطته وأن يصبح أداة في يده .
وكذلك أحمد الروائي الذي كافح حتى أصبح كاتبا مشهورا وكان حلمه متمثلا في الانتقال من شقته الضيقة التي كان لا يستطيع الخروج إلى شرفتها بسبب الصورة الكئيبة المواجهة لهذه الشرفة فإنه عندما ينجح في تحقيق حلمه وينتقل إلى شقة كبيرة ويدخل إلى شرفته الجديدة يجد أمامه نفس الصورة تواجهه بنفس النظرة وعلى وجه صاحبها نفس الابتسامة ليكتشف أنه لم يتمكن من تحقيق هدفه تحقيقا تاما .
براعة الختام
للخاتمة أهميتها الضرورية بما تحمله من عناصر إثارة تخيلية للمتلقي، وتحصيل متعة الاكتشاف وانفراج الأزمة وتحصيل الغاية هذا فضلا عن النهايات المفتوحة التي تفتح أفقا متجددا للاحتمالات والتدعيم المتكرر للظاهرة أو مضمون الحكاية.
وقد ختم الملواني روايته بفصل صغير عنوانه (صفر) وهو عنوان غزير الدلالة يوحي بأن المحصلة النهائية التي تحصل عليها أبطاله تساوي صفرا، وهي نهاية تبدو محبطة وحزينة ،لكنها ليست كذلك بل هي دعوة إلى البحث عن الأمل والسعي إلى تغيير الواقع وإعادة صياغته من جديد.
وأخيرا فإن هذه الرواية جديرة بالقراءة ودالة على تميز صاحبها وناطقة بموهبته الواضحة ومبشرة بإبداع مستقبلي يثري السرد الروائي بإذن الله تعالى.

د: أحمد محمود المصري

ليست هناك تعليقات: