بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 3 يناير 2011

الثلاثاء 28 ديسمبر 2010م.

عسقلانى ومبدعو الإسكندرية فى مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية


نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 28 ديسمبر الساعة السابعة مساءً ندوة قراءة قصصية لعدد من مبدعى الإسكندرية، ويعلق عليها نقديا الأديب والناقد الفلسطينى غريب عسقلانى، حيث تتم مناقشة قصص الأدباء سهير شكرى "أبراج الصمت"، د.عبد البارى خطاب "العودة إلى عالم الحقيقة"، منى عارف "دعـوة للغيـاب"، د.نادية البرعى "عصا ومظلة". صرح الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر أنه تلقى التعليقات النقدية للمبدع الفلسطينى عبر الإنترنت، وأن عسقلانى أديب وناقد فلسطينى ومن عشاق الإسكندرية التى زارها من قبل أكثر من مرة وكتب عن مبدعيها.

والقصص هي :




دعـوة للغيـاب
قصة: منى عارف

ربمـا سأدعوها فى ذلك المطعم الأنيق الذى تتوارى خلف ستائره ضحكـات القمر ، و أقدام الضجيج ، وتغط جدرانه فى فضاء بديع .
ربما سأدعوها أن تتقاسم معى فرحة النجاح و زهو الانتصار ، لكم انتظرت ذلك اليوم ، و صار هو أيضا ينتظرنى ، و مشهدنا القديم صورة غائمة بينى و بينها .
يا لهشاشة المشهد بيننا ، مشهد لا تغيب تفاصيله أبدا ، ستتردد كثيرا كعادتها فى قبول دعوتـى ، ثم تجعلنى ألح عليها ، وتتعطف علي بأن تأتـى ، نجلس على تلك الطاولة ، و تبدأ بصوت مرتبك تقص مجدها الأنيق ، وتاريخها المذهل ، توقظ الحكايات القديمة ، و التفاصيل المصقولة من غفوتها الحائرة ، تتكلم عما صار و عما حدث ، تعيد على مسامعى ألف مرة .. كيف كان يأخذها لجولات بعيدة ، و أماكن لم تدخلها من قبل ، كيف تعلمت معه مذاق أطعمة أخرى لم تعتاد أن تتناولها ، و مع الوقت أجادت عملها و برعت فيها ..
ستعيد على مسامعى أنه كان ينفق عليها بسخاء لا حدود له ، وأنها إلى الآن لا تستطيع أن تحصى ماذا لديها من علب هدايا و عطور ، و أحذية ، و لوحات موقعة ، و علب موسيقى ، وأساور ذهبية ، وأقراط ماسية ، و أنه لم يبخل عليها أبدا بطلب ما ،كان إغداقه فوق الوصف ، ويظل هو حاضرا معنا فى كل رشفة ماء ، بين الملاعـق و الأطباق يتمدد طيفه .
يحتل كل المساحات .. كل السعادات ، و اشعر أنى مهما فعلت ، و مهما قلت .. ستكون كل الإشارات إليه تؤدى .
كل ألوان البهجة ، كل الزهور قد قطفها لها من قبلى ، ويصبح كل ما أنجزته استكمالا لما كان قد بدأه هو من قبلى : " .. فعلا .. لقد قال فلان تلك الحكمة ... سمعت بيت الشعر هذا على لسانه .."
و يصبح ظلى الحاضر فى غيابه يهوى ، ثم تبدأ فى الشجن ، و تتحول الجلسة إلى مرثية له .. و لها .
يتوه فيها و بها شكل المكان ، تسكن الأشجار و الريح لصمتى ، يتغير طعم العسل فى فمى يصبح مـرا ، وأبلع ضيقى ، و يزهد منى الكلام ، تتجمد ملامح وجهى .
و يسرح بصرى بعيدا .. إلى تلك الطاولة فى الزاوية ، ولا تغيب عنى تلك الألفة الحميمة ، وذلك الدفء الذى يسرى ، تناغم الجسدين ، والأيدى ، النظرات الفرحة الراضية ، يتبادلان الأطباق ، بل و تقتسم معه ما تبقى منها ، يزيح لها خصلة تسحبت من تحت غطاء رأسها خلسة ، يطوى لها مفرشها ، و يحثها أن تاكل المزيد و المزيد ، يصب لها كأس المانجو ، ويزود لها كأس الماء ، يساعدها فى تقطيع اللحم بالسكين ، يحتويها بعينيه ، واحتويهما بعينى .
أحاول أن أصرف عن ناظرى تلك الصورة التى تتحرك أمامى ، تتحدث عن الحب بكل اللغات .
و لا أدرى شعرت بالغصة ، وأنا أجالس تلك التى أشبهها ولا تشبهنى ، كيف تتباعد الأحاسيس بيننا ، وكيف تقربنا المسافات ،كيف تقترب المقاعد من بعضها البعض ، وكيف تتباعد الحوارات .
الأسى شعور جارف يمتلكنى و لن أجعله يملكنى ، لن أجعل كلماتها تربكنى ، لن أجعلها تعيدنى إلى جنازة النهار ، و الليل حقا آت ..
و تضعضع همتى ، لن أدخل فخ العنكبوت ثانية ، أتأمل من خلف الزجاج المطر الخفيف .. ينادينا .. أن أغسل الهموم و الآهات ، ألا أرى الأشياء التى بهتت ألوانها ، ابتساماتها ، وأن أرحل قبل أن تتساقط من عينى دموع بلورة الأحزان ، ويتباعد طيفهما و طيفنا ، ويصبح كل ما عشناه خيطا واهنا زائلا ، وألوح لصورتهما من بعيد فى الهواء ، وأغمض عينى ..

تعليق نقدى بقلم المبدع والناقد الفلسطينى/غريب عسقلانى
هذه قصة جميلة, كتبت عند تفجر شجن حقيقي, وتقمصت روح محب يشعر بالخسران من امتلاك من أحب, لأنها ما زالت ملك حبيب أول. اللغة موظفة بشفافية جميلة تستدعي لغة القلب وتداعي الصور بتفاصيلها الدقيقة يشير إلى معايشة للحالة في عمقها الإنساني ما جعل الكاتبة المرأة تعيد إنتاج ما يتفاعل في ذات عاشق رجل وكأني بها تؤكد على ما يتفاعل داخلها.
الكاتبة من عارف تبدو هنا أكثر دراية بفن القص وقد امتلكت أدواته.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 28 ديسمبر2010م)


**************************************






العودة إلى عالم الحقيقة
قصة: د.عبد البارى خطاب

عدت إلى مدينتى التى نهلت منها العلم والفن والجمال , فمنطقة محطة الرمل هى عندى قلب العالم ومصدر الإلهام , هنا رسمت أزهار الحديقة وفى وسطها التمثال , رسمت مقهى " ديليس " ورواده يتناولون قهوة الصباح الممزوجة بالعطر ورائحة السيجار , رسمت عم عثمان بوجهه الأسمر النوبى وجلبابه الأبيض وحزامه الأحمر العريض والنادل ببذلته السوداء وقميصه الأبيض وربطة العنق وكأنه أحد اللوردات فى البرلمان.
رسمت عربة الحنطور السوداء ومصابيحها النحاسية التى تخطف ضوء الشمس وقت الأصيل, والحصان وصاحبه فى لحظة صمت وخشوع فالرزق على الله.
رسمت ترام الإسكندرية الشهير بطابقيه, وبائع "الفشار" والآيس كريم , رسمت ماسح الأحذية وبائع الفستق يلعب معنا "جوز ولا فرد", وعم حمام بائع "الجندوفلى" أمام محل "كالثيا" بجلبابه الصعيدى وطربوشه الأحمر وكلماته الشهيرة "حظك من السحاب يابيه, أجيب دستة ولا اتنين".
رسمت أناقة السيدات وواجهات المحلات فى شارع صفية زغلول , وشباب" البن البرازيلى "فى المساء يتسامرون مع فناجين القهوة وعيونهم على الجميلات , ومنشأة المعارف وابتسامة صاحبها الأستاذ جلال .
رسمت الميناء الشرقى وقلعة " قايتباى " تعلن هنا الاسكندرية على مدخل البوغاز, وسفن الصيد مسترخية على سطح المياه , وورشة الحاج العربى الدغيشى صاحب السمعة العالمية فى تصنيع اليخوت, رسمت القلفاط " وهو يضع فى صبر خيوط الكتان بمطرقته الخشبية " والسمبك " بين فواصل الأخشاب حتى لاتتسرب منها المياة , مثل أجداده المصريين القدماء , والمنشار اليدوى للأخشاب الذى يعمل عليه رجلان , أحدهما فى الأعلى والآخر فى الأسفل , و" الرمالة " وهى تضخ الرمال لتنظيف سطح السفن الحديدية ...
رسمت مآذن أبى العباس والأباصيرى وياقوت العرش , وكنائس شارع النبى دانيال ... رسمت مئات اللوحات وتعلمت هنا كيف يختلط اللون بالظلال بأنفاس الناس ومشاعرهم , تعلمت كيف تعزف الفرشاة وهى تتراقص على قماش اللوحات , فكانت شهرتى العالمية التى أذهلت النقاد على مدار ربع قرن من الزمان .
جائزتى الكبرى حين تكتب عنى الصحف بكل اللغات , فضل ماضى عاشق الاسكندرية ,لا أنتش حين تباع لوحاتى بأغلى ألاثمان فلا تكتمل سعادتى بعشرات المعارض وألاف كلمات الثناء , ولكن تغمرنى السعادة كطفل ليلة العيد حين أحصل على أوسمة من سكندريات العالم مكتوب عليها فضل ماضى عاشق الاسكندرية كبيرة سكندريات العالم .
........................................................................
خرجت من فندق " سيسل " لأحتضن شوارع الاسكندرية وأتنسم أنفاسها .... نعم هى شوارعها ومبانيها ولكن ماتلك الضوضاء المنبعثة من مكبرات الصوت وأبواق السيارات ؟
من هؤلاء البشر الذين يلقون فى شوارعها بالمخلفات ؟
هل غزاها الهكسوس ؟ .... لم أسمع بذلك !
هل أشباه البشر هؤلاء هم أبناؤها ؟ وأين آباؤهم وأمهاتهم الذين عاشوا معى هنا منذ ربع قرن مضى من الزمان ؟
لماذا لم يعلموا أولادهم كما تعلمنا من آبائنا ؟
هل قتلوا آباءهم وأمهاتهم ؟ ! هل أخرجوهم منها لأنهم يتطهرون ؟!
عدت سريعا لأحتمى بداخل الفندق .
.....................................................
فى الصباح ركبت السيارة الأجرة متجها الى قريتنا وذكريات الطفولة والصبا تمر أمامى من خلال نافذة الماضى كشريط سينمائى لأجمل أفلام حياتى .
كنا نذهب الى القرية فى العطلة الصيفية حيث الحرية فى أجمل معانيها , لاقيود على مواعيد النوم أو الخروج من منزل جدى الحاج عبدالفتاح ماضى , فمعظم بيوت القرية اقاربنا , ننام فى أى بيت بلااستئذان, نتناول الطعام مع أى عائلة بكل الترحاب ... وهى فرصة لأبى وأمى أن يتناسيا أن لهما أبناء.
قريتنا لها ناموس حياة يبدأ قبل الفجر مع صياح الديكة , تؤذن لبدء دورة الحياة , فيشتعل الحطب فى الأفران لتجهيز وجبة الافطار , ويلملم الليل ستائره فى هدوء مع تصاعد الدخان , ومع رنين أوانى الحليب تبزغ الشمس من الأرض لتنشر اللون البرتقالى على حدائق البرتقال والرمان , ثم تطل بوجهها من فوق الأشجار لتضفى على سنابل القمح لونها الذهبى , وتنير سماء القرية , فتفتح كل الأبواب , تخرج منها أولا اسراب الأوز فرحة بقدوم النهار , تسابق بعضها البعض فى شوارع القرية للوصول الى المياه حيث متعة السباحة والتقاط أنواع الطعام , وفى السماء تنتشر أسراب الحمام لتعزف موسيقى الهديل مع زقزقات العصافير ورفيف اليمام .
بعد الافطار تخرج أسراب الحيوانات مع الرجال متجهة الى حقول الرزق الوافر والخيرات , ولايبقى فى البيوت الا النساء بعد خروج الأطفال لممارسة شتى الألعاب .... ومع غروب الشمس تعود كل الأسراب , كل يعرف مكان نومه حتى الحيوانات .
بعد العشاء نحرص على حضور طقوس شرب الشاى فى دائرة حول " وابور الجاز " , حيث توضع كمية كبيرة من مسحوق الشاى مع السكر والمياه فى الابريق على النار , وبعد الغليان يصب الشاى فى كأس ويعاد الى الابريق عدة مرات , فتلك طريقة ذوبان السكر فى الماء , ويوزع الشاى الداكن جدا فى كؤوس صغيرة من الصاج أو الزجاج , هذا الدور الأول مخصص للكبار , يقولون انه يضبط الرأس ولايتحمل مرارته الأطفال , ثم يصب الماء على تفل الشاى فى الابريق ومعه كمية أكبر من السكر حتى الغليان , ويوزع الدور الثانى على الكبار حيث اللون الأحمر العادى لمشروب الشاى , ويصب الماء مع مضاعفة كمية السكر فى الابريق والغليان , والآن يسمح للأطفال والكبار بالاستمتاع بحلاوة السكر مع رائحة الشاى .
تتميز القرية المصرية بالاكتفاء الذاتى , فالقمح لصناعة الخبز والمعجنات الخاصة بالريف مثل "الشعرية والمخروطة " وهى أنواع من المكرونة المحلية , والأرز لوجبة العشاء , وهى الوجبة الرئيسية للقرويين , فوجبة الغذاء للرجال غالبا فى الحقل من الخبز والجبن والبصل والطماطم والخيار , وهى ذاتها فى المنزل وقت الظهيرة للنساء والأطفال.
اللحوم غالبا هى لحوم الطيور المتوفرة فى كل البيوت , موسرها وفقيرها , الخضار والفاكهة فى الحقول, أما الشاى والسكر فيتم شراؤها من عند البقال بطريقة المقايضة على الحبوب والبيض , فلاحاجة للتعامل بالنقود الا فى أضيق الحدود , حتى الحلاق له حصة من المحصول عند كل أسرة , حسب عدد الرجال وذكور الاطفال , ولاحدود لعدد الحلاقات , كما ان حلاق القرية كان هو الطبيب قبل انشاء الوحدات الصحية فى الأرياف.
وصلت الى مشارف القرية فاذا طوفان من البشر فى الانتظار , دخلت الى دوار جدى بصعوبة وسط حشد من الأقارب والأحباب , فاضت بهم المندرة المخصصة للزوار , وامتدت المقاعد الى الشرفة وأمام الدار , وكؤوس الشربات الاحمر تدور على الناس كما فى الأفراح , بعد ساعات احسست بالدوار فأنقذنى ابن عمى الحاج فاضل ماضى بأن وقف يشكر الناس ويطلب منهم السماح للأستاذ ليرتاح بعد هذا العناء.
فى المساء سألت ابن عمى وقد أصبح عمدة القرية وكبيرها , كيف سأعمل وسط هذا الحشد من الناس ؟
قال مندهشا : - وماذا تريد أن تعمل ياأستاذ ؟
_ جئت هنا لأرسم لوحات عن الحياة فى القرية لعرضها فى أسبانيا , فيكون معرضى الأخير تعبيرا ووفاء
للجدود والجذور,
_ لاتقلق ابن العم سنوفر لك كل ماتحتاج , فهذا شرف كبير لقريتنا , ثم استطرد قائلا , لكن معلوماتنا من
الصحف والمجلات أنك لاترسم غير الاسكندرية أيها العاشق الولهان ,
قلت باسما : لوعرفت وكالات الانباء بما يدور بيننا من حديث , لدفعت فيه آلاف الدولارات , فلقد أعلنت
فى مؤتمر صحفى أن معرض أسبانيا هو اخر معارضى , وأن ختام حياتى الفنية سيتضمن مفاجأة مذهلة, ومن يومها والجميع يخمن ماذا تكون مفاجأتى التى لايعرفها غيرك الآن ... لهذا أطلب منك الحذر من دخول الغرباء الى القرية حتى أنتهى من رسم لوحاتى ,
_ فهمتك ياابن العم , ولن يدخل القرية غريب ولن يعرف أحد بما تنوى ... لقد جهزت لك المنزل البحرى
تقيم فيه براحتك بعيدا عن عيون الناس كما طلبت , وسوف تخدمك فيه أم السعد التى أصرت ان تكون فى خدمتك رغم كبر سنها , هل تذكرها ؟
_ نعم نعم وأنا سعيد أن أراها , لقد كانت تلعب معنا ونحن اطفال .
..........................................................
فى الصباح الباكر لم أسمع الديك يؤذن ولارأي دخان الأفران , والسماء مقفرة بلا أسراب حمام , والترعة أمامى خالية من الأوز وشبه خالية من المياه .
قلت فى نفسى ربما أنفلونزا الطيور هى السبب فى اختفاء مظاهر الحياة , ولكن ماسر اختفاء الدخان وشح المياه ؟
جاءتنى أم السعد بصينية الافطار , سألتها عن سر اختفاء الدخان من سماء القرية , قالت بعفويتها الريفية
" يابيه احنا مش زى زمان وكل وقت وله آذان , عندنا البوتاجاز عليه البوابير من فوق والفرن من تحت , يبقى ايه لزوم الحطب والدخان , والفرن الآلى فى البلد بيبيع العيش أرخص من القمح ..."
نزلت الى القرية مع العمدة للتعرف على تغير الأحوال , هالنى الأمر لدرجة الغثيان ... لم تعد البلدة قرية ولامدينة , هى مسخ مشوه يشبه العشوائيات , البيوت من ثلاثة وأربعة أدوار بلا انتظام , تخنق بينها حوارى ضيقة تحتضن القاذورات , واختفى قش الأرز من أسطح بيوت الفلاحين لتحل محله " أطباق الدش"على كل البنايات ....
وصلنا الى الحقول التى كانت يانعة خضراء , فيها فواكه ورمان , ومساحات للأرز تجاورها حقول يزهر فيها القطن , وفى الشتاء أعواد البرسيم والقمح تتراقص فرحة مع الهواء ... فاذا بالمنطقة كجلد كلب أجرب, مساحات خواء , تتخللها بعض المزروعات ....
قال لى العمدة ان السبب هو نقص المياة وملوحة التربة التى تحرق النبات ... فلم تعد الارض مصدرا للعطاء , جرفها أصحابها وأخذوا الطمى لصناعة الطوب وبناء العمارات , وهاجر شباب القرية الى كل مكان , يعملون فى أحقر الأعمال ليرسلوا لذويهم بعض الدولارات .. فأصبحنا مجتمعا للأستهلاك والسهر مع الفضائيات حتى الصباح ....
طلبت العودة سريعا فلقد نال منى الصداع , وعدت لأرتمى على الفراش أحتضن الاحباط ... هل تلك جذورى التى سأعرضها على العالم ليرى مصر هبة النيل وأم الحضارات !
ارتفعت حرارة الصراع , فلم أشعر الا بيد أم السعد تضع على رأسى أكياس الثلج وتتمتم بآيات القرآن وأنا كطفل عاجز عن الحراك .....
...............................................................
لاأدرى كم مر على من ليال وأيام , حتى جاءتنى محاسن , لاأعلم ان كان حقيقة أو خيالا , طفلة كالبدر فى يوم التمام , كانت تكبرنى بعام , هى رفيقة احلى الذكريات , نتجاور معا على " النورج " يلف بنا نصف النهار وهو يفصل حبوب القمح عن العيدان , نذهب معا لحقول القطن لجمع الأوراق التى عليها بيض الديدان , نقضى اليوم فى هذا الجو الحار دون أجر , فكل الأطفال يعملون اليوم فى أرضنا وغدا فى حقل الجيران , هو عمل لايتقنه أحد مثل الصغار , فنحن فى طول الشجيرات ولا داعى لعناء الانحناء .
تذكرت كيف كنت أتسلق أشجار الجميز والتوت وأحضر لها أحلى الثمرات , وكيف كنا نغسل أقدامنا فى الترعة تحت شجرة الصفصاف , وفى المساء نتقابل سرا على سطح منزلنا أو منزلهم أو منازل الجيران فلا حدود فاصلة أو جدران .
كانت طفلة خلقت من قشدة وعسل وزهر الرمان , ليست ككل الأطفال , بداخلها امرأة تجيد فنون العشق والدلال , علمتنى كل الاسماء , تلك عيون الغزلان , وهذه خدود التفاح , وهنا أوراق الورد التى يسميها الناس شفتان , وهاتان برتقال البنات .....
كانت تذوب كقطعة زبدة تقترب من النار حين أعبث بضفائرها فيتهدل شعرها على وجه من بنور زاده الوهج احمرارا.... قضينا هنا فى أحضان قش الأرز وضوء القمر أحلى السهرات , تبادلنا أحلى الكلمات والقبلات التى يردد صداها فى السماء الكروان ....
آه يامحاسن كيف ضاعت من بين أصابعنا الأيام , خمسون عاما مرت ذبل فيها الورد وأشجار التفاح, وقلدت زينتك النساء بكل الأصباغ , حتى أهداب عيونك أصبحت تباع فى المحلات ...
أفقت من تأملاتى فعدت لزمن الابداع , رسمت عشرات اللوحات لمحاسن فى كل الأوقات ... وعشرات أخرى لقريتنا التى كانت مملكة لك ياحبيبة الفؤاد , تخيلتك تحلبين البقرة وتعجنين وتخبزين وتنثرين الحب للطيور فى صحن الدار , لم أنس جلستك فى ظل شجرة الجميز وتحت الصفصاف وصورتك تتراقص على صفحة المياة , حتى ألوان ملابسك الزاهية ومنديل رأسك مرصع " بالترتر " من كل الألوان , وأنت كشجرة الحور وعلى رأسك زلعة الماء ....
تذكرت ورسمت يوم كان المحراث تجره الأبقار يشق بطن الارض ونلتقط من خلفه حبات البطاطا الحمراء, ويوم كنا نتأمل فلاحا يروى الارض بشادوف صنعه من قبل أجداد الأجداد , والمنجل فى يد الشاب يقطع من حقل البرسيم وجبة الافطار للجاموس والأبقار والحمار , وزغاريد الصبايا يوم جمع القطن الأبيض كوجه البدر , فهو يعنى قرب موعد الزفاف , وزفة العروس على الجمل وفرحة الكبار والصغار بالطبل والمزمار ....
رسمت ورسمت حتى نال منى الانهاك ورحت فى غيبوبة لأيام , حتى جاء ساعى البريد ببرقية من سكرتيرتى تخبرنى بتمام التجهيزات وتطلب تحديد موعد الوصول لاستكمال الاستعدادات .
حزمت حقائبى واللوحات , وطلبت أن تكون مغادرتى للقرية فى المساء ودون إعلان .

تعليق نقدى بقلم المبدع والناقد الفلسطينى/غريب عسقلانى
هذا نص يتداعى بسلاسة وانسياب جميل, ويشير إلى ملكة القص والقدرة على استحضار أدق التفاصيل بشفافية تأخذ القارئ وتستدرجه حتى النهاية، والفكرة هنا هي المقارنة بين واقع الإسكندرية بين اليوم والأمس، أي بين الذاكرة التي تسمرت في مكانها حاملة وهج رومانسي وظلت غافية في منطقة الحلم لخمس عقود خلت وبين الواقع الحالى.
النص يقول أن اسكندريتي الأولى تستحق الجوائز أما اسكندريتي الحالية فقد شوهها التطور غير المدروس الذي زخرف شكلها ونال من روحها، وهو رفض ذكي لسياسة الانفتاح التي أدت إلى خلل في العلاقات والتقاليد.
ولكن أرى أن القص يميل إلى الريبورتاج أكثر منه إلى القصة، وأن هناك تفاصيل يمكن القفز عنها لأنها لا تضيف للقارئ شيئا، وحبذا لو توقف الكاتب عند التداعيات وتيار الوعي في بعض المناطق من القصة للمقارنة بين وعيه ووعي ناس القصة وأبطالها. القصة تشير إلى كاتب يملك الرصد الدقيق والفكاهة الموظفة.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 28 ديسمبر2010م
*********************************************
عصا ومظلة
قصة د.نادية البرعى

حين اخترقت عصاة المظله بطرفها الفضى الصلب المدبب باطن الرمال الرطبه؛أمسكت بطرفها الأخر أحركها حركة دائريه مستمره حتى أثبت العصاة فى جوف الأرض؛فردت المظله ووضعتها بقوه داخل تجويف العصاه،امتد ظلها فوقى،،افترشت الرمال والتحفت بالسماء ..أتأمل الأفق البعيد.تقبّل السماءُ وجهَ الأرض فى محبةِ وصفاء ،تستبق الأمواج مصافحة بزبدها الأبيض حبيبات الرمال ..يُقبل الموج ويتراجع فى صخب .. ..أراها تخرج من جوف البحر ..بيضاء طويله،يتناثر شعرها الذهبى على وجهها وكتفيها كأشرعة من وهج الشمس؛تمد ذراعيها تزيح كل الأمواج التى تتباعد هاربة من بطش عينيها الزرقاوتين..تأتى الىّ بخطوة واحده تقبض على يدى ..تصطحبنى الى الجانب الشرقى من الشاطئ,تنزل بى سلما كثير الدرجات لم أعرف كيف أعدها،تدخلنى فى شارع طويل ..ضيق يمتلئ بأناس يرتدون ثيابا خشنه ..وأغطية بيضاء على رؤوسهم ..لا أحد يتكلم..الصمت الرهيب يلف المكان بعباءة الغموض!!.. البيوت على الجانبين ناصعة البياض كأنها دُهنت بالحليب الصافى ..لكنها خاويه..النوافذ والابواب مفتحة.. مغلقة بلا أضواء،يقف على باب كل بيت حارس أسود أشعث الشعر ..غليظ الشفتين ،ساءلت نفسى :_كل هذه البيوت الفسيحه ،الجميله ..بلا سكان ..ألا يسكن كل هؤلاء الناس فيها؟؟ يسير الناس كأنهم منومون، عمالقة أربعه على كل جانب يشيرون بأذرعتهم الطويله الى الطريق..جموع الناس تسير فى الأتجاه المشار اليه ..يتدافعون وكل يحدث نفسه:_الى اين نحن ذاهبون؟؟ يبدأ الضوء فى الخفوت,,يشتد الاظلأم ..تتدافع الجموع لتدخل كهفا اسودا.. ..أتراجع..أتلفت حولى ..أتقدم..أحاول الخروج..أسقط والتدافع يشتد .. أقاوم وأقاوم ..أتماسك..أنهض ..أتقدم ..بصعوبه أشق الجموع..أسرع الخطى ..وحدى أصل لنهاية الكهف المظلم ..بصيص من النور يهرع الىّ ,بقدمىّ الحافيتين أجرى ،وأجرى ..شئ ما يدفعنى الى الأمام..أخرج الى الجهه المواجهللجانب الآخر من البحر..أرى مظلتى من بعيد تهزها الرياح ،أسمع صوت ضحكات بريئه من القلب صافية,,أطفال يلعبون ويتضاحكون كأنهم ملأئكة هبطوا من السماء وطائراتهم الورقيه الملونه تتدافع الى أعلى ممسكين بخيوطها الرفيعه متعلقين بالامل فى صعودها الى أعلى أكثر وأكثر أقدامهم الصغيره تهرول على الرمال وأعينهم مسلطة على طائراتهم,,..يخترق أذنى أزيزا غريبا لم أسمعه من قبل أراها سوداء ,محلقة على ارتفاع منخفض ..تحوم حولنا كطائر جائع تختفى الضحكات ..تصمت الحناجر الصغيرة ..يصطبغ البحر بلون الدم!!


تعليق نقدى بقلم المبدع والناقد الفلسطينى/غريب عسقلانى
الدكتورة ناديه البرعي هنا تقف بين المشتهى والواقع, وتهرع من كابوس الواقع الذي يدمر بصورة عبثية إلى مساحة الحلم الجميل، القصة مسبوكة بشكل يتيح للقارئ التأمل وعكس ذاته من خلال التصور والتخيل، أي هي تضع القارئ عند أسئلة الحياة من حولنا وهذا في رأيي رسالة الفن الجميل الذي يتجاور الإخبار بما نعرف إلى استنطاق القارئ بما يريد أو بما يرى.
هل كان الدم في نهاية القصة تتويجا للحياة المستلبة من العماليق الذين يحدون مسارات الحياة دون اعتبار لحاجات البشر؟
ربما هنا سؤال مفتوح
وهو ما يحرك القارئ للتأمل
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 28 ديسمبر2010م)
************************************
أبراج الصمت
قصة: سهير شكرى
تسللت من كوخى المتهدم أحمله على ظهرى كى لا يبصرنى أحد , أحمل معه أنهار الوحشة والأحزان الباطنة القاتلة , الخوف يغتال روحى المسفوحة وفؤادى المذبوح بسؤالي . لم يمكنونى من المحافظة على حياته فهل يمكنوننى من دفنه؟
أسير منحنى الظهر, لأحمل جثمانه, أعضائى تبكى .
طفت كل أراضى المدينة شحاذا أستجدى مدفناً, كلما حاولت دفنه يطردنى جند العنتيل : ارجع وإلا دهس حذائى أعضاءك , أرتد إلى الخلف وأنا مثقل أحمل جثمانه على ظهرى , أنفاسى يكتمها القهر, أجوب المدينة أتلمس بضعة أشبار أدفن فيها الجثمان, كل الأرض ملك للعنتيل, الميت لا يبغى إلا الدفن, أخرج خارج حدود مدينتنا الحديدية .
أضرب فى أرض التيه أبحث فى القرى والبرارى أجد جنود العنتيل أتضرع أن يتركوا لى قطعة أرض أدفن فيها ولدى كبدى فيشهرون سهامهم , ينهرنى أحدهم : أغرب عن وجهى وإلا اخترق سيفى أمعاءك, أتهاوى جريحا من سوطه .
أتوجه خارجا إلى الفيافى أسند حملى بأصابعى الدامية المحسورة , لا أقدر أن أصلب ظهرى, أجالد كى أكمل سيرى , تغرس أقدامى وتسوخ فى بطن الأوحال .. ويطاردنى جند العنتيل فأهرب , أكاد أفقد أقدامى , ينسلخ ظهرى , الريح العاتية المجنون تتغلغل تحت عظامى , أجثو على ركبتى فوق الحصى والأشواك , أتضرع لخالق الأكوان صارخا : أما آن لهذا الراكب أن ينزل ؟ أخشى أن يلتصق الجثمان بظهرى يصبح جزءاً من أعضائى ... كل الأرض ملك للعنتيل وأولاده
ماذا أفعل ؟ خارت قواى . ضاقت علينا أرض الله الواسعة . من يكرمنا ويدفننا نحن الاثنين معا ؟
حملته إلى الأغوار المهجورة لعلى أتمكن من دفنه. يباغتنى جند العنتيل ارجع وإلا دهسناك تحت أقدامنا
أشتاق أن ينفض ظهرى المثقل عنه وطأة حمله , هل أهوى كى ألثم قدمى العنتيل أسأله صفحا عن ذنب لم أقترفه؟ جبت المدن والقرى والبرارى والصحارى فلم أعثر على شبر إلا وهو ملك للعنتيل وأولاده وأصهاره أخشى أن أنهار قبل أن أدفن ولدى .
لم يبق أمامى إلا كوخى المتهدم , أعود أدراجى ثانية وأعبر هذه الرحلة الطويلة ... أكاد ألفظ أنفاسى .
أجلس لأستريح على رصيف أمام أحد القصور , ينهرنى الحارس : أغرب عن وجهى وامض بحملك شكلك لا ينسجم لعينى .
أسير متهالكا أرى الأفق حزينا والسماء متشحة بالسواد أجاهد فى سيرى لأستريح وأنزل حملى عن ظهرى وأحتضنه بشدة حتى تنخلع أعضاؤه وأدفنه فى باطن أحشائى . لكنى حين وصولى لم أجد الكوخ استولى عليه أصحاب العنتيل وتصدره الحراس حتى تذكاراتى صارت حبلا من دخان على سواد ظلى الكسير . فليلعنكم هذا المسجى فوق ظهرى المتسلخ
يا سيد الأكوان؟ ماذا أفعل هل ألقيه على قارعة الطريق مع الفضلات أو أشعله مع جمر أراجيل السادة , الأفضل أن ألقيه فى البحر ولتأكله الأسماك, أستأنف سيرى وأنا خائر القوى أمسح الشواطئ شبرا شبرا , يطاردنى جنود العنتيل بأسلحتهم وعصيهم وسياطهم وبذاءة ألسنتهم الأشد قسوة من ذبح السكين , كل شواطئ البحر الأبيض والأحمر مخصصة للعنتيل وأبناء العنتيل وأصدقائه وندمائه, أتحامل وأجاهد كى أكمل بحثى عن قبر يستر ولدى , لم أترك بحرا ولا أرضا إلا وارتدتهما بحثا عن مدفن لم يبق أمامى إلا الجبال .
سأكافح وأجاهد حتى أودعه القبر.
أصعد وأنا منهك أعضائى تتساقط منى أحمل جثمانه فوق ظهرى.. تكاد تتفتت عظامى أجهش بالبكاء لضعفى وعجزى مطرود من أرضى وبحارى .
أصعد خطوة وأتدحرج خطوات , أشرفت على الهلاك أزحف بكلتا يديَّ وأقدامى وأنا أحمله على ظهرى فتنزف أعضائى ويلين الحجر ويتشقق إشفاقا لمعاناتى وقلوب العنتيل وجنوده لم تهتز . أنزلت جثمان ولدى من فوق ظهرى المسحوق لأريحه وأستريح , ألتمس عطفا وحنانا من صخرصلد ألقى فوقه بأحزانى وقهرى وعذابى , وضعته بجوارى هبطت أسراب الطيور الجارحة اتخذت من جثمان ولدى وليمة لم يبق لى منها إلا العظم , فدفنته واقفا فى أبراج الصمت .
تعليق نقدى بقلم المبدع والناقد الفلسطينى/غريب عسقلانى
سهير شكري تضعنا أمام فنتازيا سوداء يواجه البطل قدره وحيدا أمام قوى غامضة جبارة استولت على كل مفاتيح الحياة, ولم تترك حتى مساحة للقبور, وكأنها تريد أن تشطب من ذاكرة الوجود من يعمر الأرض, وكأنها تعيد سيزيف يصورة عصرية, ولكن تستمد مفرداتها من الواقع المعاش.
القصة تأتي رد فعل لما يدور في الواقع, والذي سحق الإنسان وطرده خارج الحياة، لكن القصة تثور في نهاية الأمر لأنها تؤكد أن عظام الميتين عصية على الذوبان وأنها ستتناسل أرواحا تعود لمقارعة رجال العنتيل.
ولكن هناك تكرارا في السرد وكان من الأفضل لو أن الكاتبة غيرت في توصيف الظلم, أفضل من تكراره الذي لا يضيف إلى جمالية القصة بل ربما يضعفها.
هناك قدرة على تشكيل الصورة والكتابة البصرية وهذا أمر جميل حبذا لو عملت الكاتبة على تطويره.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 28 ديسمبر2010م)
****************

ليست هناك تعليقات: