بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 10 يوليو 2010

الثلاثاء 6/7/2010م.




المرأة المبدعة فى مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية
******
نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 6 يوليو ندوة بعنوان الإبداع سكندرى والنقد سورى، حيث ناقشت المبدعة والناقدة السورية بيانكا ماضيه ست قصص لمبدعات سكندريات هن آمال الشاذلى "الوليف"، إيمان السباعى "يكفى للانتحار"، سحر الأشقر "رائحة الفنيك"، سهير شكرى "أنقاض"، منى عارف "على الرصيف"، هبة خميس "أفعال". صرح الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر أن الندوة يتم تنظيمها فى إطار أحد أهداف المختبر الأساسية وهو العمل على تفعيل التواصل بين النقاد والمبدعين فى الإسكندرية والبلاد العربية المختلفة، كما أشار إلى أنه تم الاتفاق مع الناقدة بيانكا ماضيه رئيسة القسم الثقافي في صحيفة الجماهير بحلب، سورية، على نشر القصص التى نوقشت بالندوة بصحيفة الجماهير السورية. كما قام الشعر ناجى أنس بإلقاء قصيدة من شعر العامية فى ختام الندوة تناولت أفكار قصص الندوة، ووزع على الحضور نسخا من ديوانه الجديد "أنسيات" به فصل بعنون "فى تراسل الفنون" يضم القصيدة والقصص.
أشارت الناقدة بيانكا ماضية فى تناولها لقصة آمال الشاذلى إلى اللغة الشعرية المحكمة التي تكتب بها القاصة آمال الشاذلي قصتها هذه، ولذلك فإن الانزياح والاستعارة فيها قد لعبتا دورا مهما في تسليط الضوء على الشخصيتين اللتين تحفل بهما القصة، كما أكدت لمفردات التي انتقتها الكاتبة بعناية ما أرادته في قصتها التي كان خطها العمودي الزمن، وخطها الأفقي المكان والإنسان. وأكدت أن قصة إيمان السباعى ذات طابع فلسفى كونى يلعب فيها الرقم 7 دورا محوريا بما يملك من طاقة فى ذاته، وبحضوره فى الثقافات المختلفة. كما قالت إن قصة سحر الأشقر تبحث في فلسفة الرائحة، في مجاهيل حاسة الشم، الحاسة الأقدم لدى البشر... تأثيرها في علاقاتهم بعضهم ببعض، وتأثيرها في علاقتهم بالوجود، هذا التأثير الذي هو أبعد مما هو ظاهر وبيّن. أما قصة سهير شكرى فهى تسعى إلى القول بأن الأحلام تنهار أمام قسوة الواقع، وبأن الحب لا تكتمل عناصره أمام شدة تماسك أعراف المجتمع. وعن قصة منى عارف أشارت الناقدة السورية بيانكا ماضية إلى حالة الحيرة التى تنتاب القارئ فى بداية القصة حول ماهية الراوى ذكر أم أنثى، ثم حالة الفقد والغياب والرحيل التى تعبر عنها القصة قائلة إن هذه اليوميات يشي كل شي فيها بالغياب والرحيل، وكيلا تفقد الوجوه التي راحت ترسمها الكاتبة الراوية بحرفية وإبداع، كيلا تفقد نكهتها تضيف إليها بعضا من البهجة والفرحة، وهل بغير الكتابة يستطيع المرء تغيير المشاهد أو الوجوه التي اعتاد أن يراها؟ تغييرها بإسباغ ألوان الطيف عليها، لتتحول إلى وجوه أو مشاهد أشد فرحة وابتهاجا. وعن قصة هبة خميس تقول لابد في البداية من الإشارة إلى أن الكاتبة هبة خميس قد أفلحت أيما فلاح في هذه القصة الرمزية التي تحيل على تفسير وحيد ولكنه متشعب الاتجاهات، إذ تفتح الآفاق لقراءتها من عدة أوجه. ترمز هذه القصة إلى الصراع بين الأصالة والمعاصرة، بين التجديد والمحافظة، أو الجمود والتحرر، أو القديم والجديد، وتمتح الكاتبة صورها من الواقع واللاواقع، من الغرائبي الذي يحيل على رمزية بكل ما تحمله من أبعاد فكرية وأحلام مترعة بآفاق التطوير.
من قصيدة الشاعر ناجى أنس:
المكتبة فى كل الأوقات
فاتحه ببانها للمبدعين
و مختبر السرديّات
أدبا و شعرا ومفكّرين

بيمتعونا بأعمالهم
بفكر ساب فى قلوبنا مكان
وانا كده مش باجاملهم
ده حقّهم و أقل كمان

كام واحده إسكندرانيه
قلمها مليان بالاحساس
وكلامها بيقول حنيه
ساكن في قلب قلوب الناس

يا "بيانكا" نقدك البناء
خلانا بنعيش القصه
شهاده منى وم القراء
انك لوحدِك كام قصه

صيتِك مابين كل العرب
له فى القلوب وزن وقيمه
تسلم لمصر سوريا وحلب
جابو لنا إنسانه عظيمه


رائحة الفنيك
قصة: سحر الأشقر

اجترت ذاكرتي ما كنا نتشاجر عليه, لم أجد إلا شيئا واحداًً , كان محور خلافنا , شبشبها المُهمل المُمزق الذي

تتركه أمام باب الشقة , والعباءة القديمة التي ترتديها , بعدما تنتهي من عملها , وتتأهب للانصراف , أستاء

منهما , أعطيها نقوداً , لتشتري غيرهما .. تنفقها , وتأتي في اليوم التالي بنفس العباءة والشبشب القديمين

يشتد غيظي .. أسألها عن سر احتفاظها بهما .. تضحك بانكسار .. افتقدت ضحكتها للأبد .. زلزلتني الصدمة, وبعدما حاولتُ العودة إلى عملي , رجعتُ إلى بيتي محملة بأحزاني .. لم أشم راحة الفنيك التي كانت تملأ أنفي ,

عندما تطأ قدماي عتبة باب الشقة, فكانت تشعرنى بالونس .. لم أسمع صوت الأواني التي كان صداها يدوي في المطبخ , فكانت تملؤني بالسكينة .. أهرب بدهاليز نفسي .. أحتمي بجدران حجرتي , أشتاق لكلماتها التي كانت تغدقني بأمومتها ..

- عارفة انك راجعة تعبانة من الشغل .. رتبتلك أوضتك عشان تستريحي .

أجلس على الفوتيه .. تفاجئني دقات الجرس, بنفس طريقتها التي اعتادت عليها أذني .. تنخلع دقات قلبي ..

أعدو لاهثة .. تتبعثر كل الأشياء أمامي .. أنكفئ على وجهي .. , بالكاد أصل لباب الشقة .. أجد ابنتها , ترتدي نفس العباءة والشبشب القديمين .. أحتضنها بلهفة .. أحبس الدموع بصدري .. أجلس بجوارها .. أخرجَتْ من جيبها شيئاً .. قالت لي : أن أمها أستحلفتها , وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة , أن ترده لي , طالبة مني السماح , لأنها لم تقاوم نفسها , عندما أخذته من بيتي , دون علم مني .. القلق يجتاحني .. أمد يدي المرتعشة .. أحملق بفضول .. أجد صورتي .. يجيش صدري بدموعي الحبيسة , بينما كانت ذاكرتي تجتر ملامحها وهي تردد .. لن نفترق إلا بالموت .. يختلط الرجع بصوتي المرتجف ..

- من فضلك ممكن أحتفظ بالعباءة والشبشب ؟

قراءة نقدية في (رائحة الفنيك)
بقلم الناقدة السورية: بيانكا ماضيّة


في هذه القصة مفارقة ومقارنة واضحة، وتسليط ضوء من الكاتبة سحر الأشقر على شخصيتين، الأولى سيدة المنزل، والأخرى الخادمة التي تعمل لديها، المفارقة تبدو في شخصية كل منهما، والمقارنة تكمن في البداية من اجترار ذاكرة سيدة المنزل لأمور كانت مثار شجار بينهما، فلا تجد إلا تلك العباءة والشبشب الممزق اللذين لا تني في كل مرة تعطيها نقودا لتشتري غيرهما، إلا أنها تعود في اليوم التالي بنفس الشبشب ونفس العباءة، وفي هذا دلالة على أن المرأة الخادمة كانت تبذل كل ما في وسعها من أجل تربية أبنائها، فلا تستحوذ بالمال الذي تجلبه من عملها لتنفقه على نفسها، وإنما تعود بهيئتها نفسها، وعندما يكون السؤال من سيدة المنزل عن سر احتفاظها بهما، تضحك بانكسار في دلالة على ما يفعله الفقر في نفس الإنسان من خنوع وذل، وربما ما يفعله موت الزوج من ألم ومعاناة لدى الزوجة، فتضحي بحياتها من أجل تربية أبنائها، تلك الضحكة المنكسرة افتقدتها سيدة المنزل إلى الأبد.
ولذلك فإن تلك الشخصية/ الخادمة في هذه القصة، هي شخصية ميتة منذ البداية، وكان موتها الأول معنويا وجاء موتها الثاني جسديا، عبر عنه افتقاد سيدة المنزل لها. لكن!! هناك ما لا يمكن أن يُفقد في هذه الحياة، في هذا العذاب الذي كان يحوم حول تلك الشخصية، في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، ألا وهو الرائحة، رائحة الفنيك الخاصة بالخادمة، والتي كانت تلازم المنزل، وتملأ أنف السيدة.
هذه العلاقة بين الشخصيتين على الرغم من الفارق الطبقي بينهما، هي علاقة مساواة، مساواة في الجنس، وعلى الرغم من وجود ذلك الفارق إلا أن المحبة والألفة هي التي استطاعت أن تجعل الشخصيتين على وفاق دائم، فلا شجار إلا على تلك العباءة وعلى ذلك الشبشب، وأي شجار هذا؟ إذ تمّحي تفاصيله عندما تكون الألفة وسيطا، ويكون هو المعادل الحسي للشخص بعد الوفاة، هي علاقة إنسانية وصلت إلى حد أن أحدهما لا يستطيع الافتراق عن الآخر إلا بالموت، سيدة المنزل تشعر بالونس والسكينة بوجود الخادمة معها في منزلها، حتى لتكاد تصبح بمنزلة الأم، والخادمة تشعر بالأمان وتستعيض عن وجود سيدتها في منزلها بصورتها.
تركز هذه القصة على ثيمة الموت، وثيمة الرائحة، الموت المعنوي والموت الجسدي، الموت المعنوي المتجسد في الفقر، كما تهتم بالمعادل الحسي الذي عبرت عنه رائحة الفنيك، من خلال العباءة والشبشب، لدرجة أن السيدة تطلب من ابنتها بعد وفاة أمها عباءتها وشبشبها اللذين ترتديهما نفسيهما على الرغم من أنهما كان سبب الشجار الوحيد بينها وبين والدتها. فالرائحة هنا كانت الأمر الوحيد الثابت وجدانا وتشبعا وارتواء وامتلاء، هي سلطة الروح المخفيّة، وقوة التأثير المطلقة التي لا تعادلها أية قوة، سلطة الرائحة التي لا تقاوم، ومن هنا فإن هذه القصة تبحث في فلسفة الرائحة، في مجاهيل حاسة الشم، الحاسة الأقدم لدى البشر... تأثيرها في علاقاتهم بعضهم ببعض، وتأثيرها في علاقتهم بالوجود، هذا التأثير الذي هو أبعد مما هو ظاهر وبيّن.(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 6 يوليو2010م


الوليف
قصة: آمال الشاذلي

رنا إلى مضجعها بعينين أثقلهما جفنان مرتخيان كستار بال قد أسدل على مسرحية هزلية.
استجمع قواه المنتثرة على فسيفساء سنوات عمره ليدفع جسداً يناشد الثرى أن يستعيد ما سلب منه.
قذفها بوابل من الألفاظ الخشنة ؛ نهضت منتشية بقوته المقترنة ببذاءته والتي عاشت سنوات طوال تهدهدها وتروضها مستعينة بسلاح أنوثتها الحريري ، فإذا ما ضعف تأثيره تقهقرت مستسلمة ، فيتقدم إلى ساحتها ، يغتنم ما شاء من أنقاضها .
الآن ترد على ألفاظه بأبشع منها، يعود ويصوبها أغزر وأقبح ، يتباريان فى معركة حامية حتى تخمد قواهما وكأنهما يمارسان أحد الطقوس المقدسة ، فإذا ما اكتنفهما الليل بردائه متأففاً ؛ أسلما جسديهما إلى فراش يحاكيهما قدماً واهتراء .
هذا الصباح ؛ دس ضوء النهار أنامله مباعداً بين جفنيها المتشبثين ببعضهما ؛ كأنهما يتلمسان الأمان من بعضهما وقد أدهشها أن يسبق نور النهار صوته؛ فاضت الهواجس بين أضلعها ؛ فأبرقت إليه بقذيفة صغيرة ؛ أعقبتها بأخرى؛ القذائف تترى مع كل إطلالة نهار مؤكدة لشقوق الجدران والأواني المضعضعة ولأحذيته البالية بأنها لن تغفر له تركه لها وحيدة بين ركام الصمت!
قراءة نقدية في قصة (الوليف)
بقلم الناقدة السورية: بيانكا ماضيّة

أول ما يتبادر إلى سمع المتلقي أو إلى نظره في هذه القصة، وأول ما يلفت النظر والانتباه هو اللغة الشعرية المحكمة التي تكتب بها القاصة آمال الشاذلي قصتها هذه، ولذلك فإن الانزياح والاستعارة فيها قد لعبتا دورا مهما في تسليط الضوء على الشخصيتين اللتين تحفل بهما القصة، فالجفنان المرتخيان، والستار البالي المسدل على مسرحية هزلية، والقوى المنتثرة على فسيفساء العمر، والجسد المناشد الثرى لاستعادة ما سلب منه، والفراش الذي يحاكيهما قدماً واهتراء، جميعها صور تدل على أن تينك الشخصيتين هما زوجان قد وصلا إلى أرذل العمر، لكن هناك ما يناشده كل منهما غير الثرى، يناشدان الشباب، والقوة التي فقدها كلاهما بعد كم من السنوات لا يستهان به.
هما شخصيتان متكاملتان على الرغم مما في هذا الجو المفعم بالألفاظ الخشنة والبذيئة، فهو يقذفها بوابل من الخشونة، وهي تنهض منتشية بقوته التي طالما روضتها بسلاح أنوثتها. في سنوات الشباب تتقهقر مستسلمة له، وهو ينقض عليها وكأنه ينقض على فريسته، ليغتنم ماشاء له.
أما اليوم فهي ترد على ألفاظه بأبشع منها، فلم يعد الجسد الأنثوي كما كان، لقد أصبح أنقاضا، ولذلك فإنها ترد عليه بالألفاظ، بألفاظ أبشع من ألفاظه.
في الماضي كانت ترد عليه برونق الجسد، حين كان هذا الأخير في صبوة شبابه وجماله، أما اليوم فإنها ترد عليه بلسانها فقط، وبأية ألفاظ؟ بألفاظ أبشع منها، هنا تكمن المقارنة بين نوعين من سلاح تستخدمهما المرأة في حياتها وعيشها مع الرجل، الأول مادي ملموس، وهو سلاح أنثوي تستخدمه في شبابها، والثاني معنوي لغوي تستخدمه في شيخوختها.
مفردات الحوار الجسدي كانت بينهما في الماضي من خلال قوة رجولية وسلاح أنثوي، أما الحوار الجسدي اليوم بعد أن وصلا إلى مرحلة اليأس والشيخوخة فإن مفرداته ألفاظ بشعة وقبيحة، يتباريان وكأنهما يمارسان طقوسا مقدسة، هي معادل تلك الطقوس التي كانا يتباريان فيها بين جسد أنثوي وجسد ذكوري، إلى أن يستسلما لفراش لم يعد يجد ذينك الجسدين المفعمين بالحيوية والشباب، ولذلك أصبح يحاكيهما قدما واهتراء.
وعلى الرغم من هذا الفضاء المعشش بالبذاءة فإن المرأة كانت تتلمس الأمان والحنان والطمأنينة بوجود زوجها إلى جانبها، وحين نهضت ذات صباح من دون أن تسمع صوته إذ سبقه ضوء النهار، أرسلت إليه بعضا من مفردات تلك اللغة التي يستعملانها (قذيفة صغيرة) أو بالأحرى (شتيمة صغيرة) وحين لم تتلق ذلك الوابل من الشتائم أدركت أن الموت قد انتشل منها ذلك الوليف، ذلك الحبيب الذي قضت عمرها إلى جانبه، ولذلك توالت الشتائم والسباب لتؤكد لجدران البيت المتشققة، وللأواني المضعضعة، وللأحذية البالية بأنها لن تغفر له تركها وحيدة بين جدران ذلك البيت الذي ضمهما، يرين فيه الصمت بدلا من تلك اللغة الشتائمية التي كانت تضج في الماضي.
تلعب هذه القصة على التضاد، بين الماضي والحاضر، بين الشباب والشيخوخة، بين الجنس والألفة، بين الرجل والمرأة، بين الليل والنهار، بين الثرثرة والصمت، بين الحياة والموت. جميع هذه المتناقضات تظهر التباين والبون الشاسع بين الأمس واليوم، بين الحياة والموت، بين الطمأنينة والحرمان، لتؤكد ما يفعله الزمن في حياة المرء، كل الأشياء تتغير، تتضعضع بفعل الزمن، تبلى، تتشقق، تهزل، تتقهقر، تهترئ، إلى أن تصمت إلى الأبد.
ولقد أكدت هذه المفردات - التي انتقتها الكاتبة بعناية- ما أرادته في قصتها التي كان خطها العمودي الزمن، وخطها الأفقي المكان والإنسان. تلك هي إحداثية الحياة، وإحداثية القصة.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 6 يوليو2010م)


أنقاض
قصة: سهير شكري

أدسّ جسدي المرتعش تحت أغطيتي . يزورني ممتطيا جواده الأبيض الأصيل كفارس مغوار.
أحتضنه بأشواقي المستعرة كأمواج عاتية تحطم الشواطئ في غير هوادة .
يبزغ نور الفجر.. أبكي على القلب الكسير الذى احتضن السراب .
هذا المساء مختلف .
الساكن الجديد فى البناية المقابلة وسيم.. رشيق.. يرمقني... يتابعني ... يقف مصلوبا بالساعات أمام نافذتى .
زارتنى الشمس وهى تعانق القمر . أشجارى التى شاخت وبدت كعجائز حليقة الشعر رفيعة الأرجل هشة الأفرع؛ اخضرت .. أينعت.. أثمرت . أنا وأشجارى نقاتل الأيام الصماء البكماء التى عشناها .
مددت سجادة من نافذتي إلى شرفته .. أعبرها ..أحكي له أحلامي.. أسمعه أنشودة حبي وحنيني.
أشار لي أن أقابله. تزينت .. تعطرت .. ركض قلبي قبل أقدامي للقائه . أنقذ سفينتي من الغرق وألقى بحمولها الثقيلة من الإحباط والكآبة فخف وزنها .. طفت .. ورست على شاطئ النجاة .
عيونه تفيض بالحنان .. ابتسامته العريضة ... تشعرني بالأمل والثقة.
احتضنته بكفي ... تعانقت قلوبنا ..جسدي كله أذنان مرهفتان تنتظران بلهفة سماع صوته الرخيم يبثنى أغنيات العشق والهيام. يأتيني صوت الخلق أجمعين يهنؤننى بسلامتي وهم يسحبون جسدي من تحت أنقاض البناية المنهارة .

قراءة نقدية في قصة (أنقاض)
بقلم الناقدة السورية: بيانكا ماضيّة

منذ بداية هذه القصة، يطالعنا الحلم، حلم الأنثى بفارسها المغوار الممتطي جواده الأبيض .. تحت الغطاء تدس البطلة الحالمة جسدها المرتعش، فيأتيها هذا الفارس حلما لا يتحقق سوى في الخيال، تحتضنه بكل ما فيها من حب وحنان لهذا الكائن الآخر (الرجل) الذي يشكل حلما لا تنطفئ جذوته في نفس الأنثى، لكنها تستيقظ على انكسار القلب من واقع تتلمسه خاويا من الحب ومن وجود هذا الرجل إلى جانبها، تستيقظ على وهم لم تسعد بمفرداته سوى في الحلم.
ثم ينقلب المشهد ليكون هذا المساء مختلفا، فبأي شيء اختلف هذا المساء؟!
أول أمر يطالعنا في هذا الاختلاف هو الساكن الجديد في البناية المقابلة، وهو نقيض ذاك الذي كان في الحلم، فذاك سُكناه الخيال والذاكرة، وهذا سُكناه البناء المقابل، وهنا تكمن المفارقة، أو يكمن النقيض، الخيال بما فيه من أمور لا تمت إلى الواقع بصلة، والبناية بما فيها من أمور ملموسة تدرك بالحواس، بما فيها من سكان جدد، أو بالأحرى من ساكن جديد، هو الآن أمام العين المراقِبة، رجل وسيم، رشيق، يتابع البطلة الشخصية الرئيسة في القصة بنظراته ويقف مصلوبا لساعات أمام نافذتها، هذه البطلة كما تشير إليها القصة قد أشاخ الزمن أنوثتها، فبدت كشجرة عجوز لم تعد تثمر وتعطي، ولكن وجود ذاك الرجل في ذاك البناء المقابل قد جعلها تعيش الحياة من جديد فأينعت ثمارها، واخضرت؛ احتفالا بهذا الأمر الجديد الذي حمله الساكن الجديد.
وكان الحب بما فيه من أحلام وخيالات وأناشيد حب وحنان وأمل وثقة، وتعانق القلبان، وأنقذ ما يمكن إنقاذه من وطأة الزمن الذي جعل قلب الأنثى في حال من إحباط وكآبة، فرست مراكبها على شاطئ النجاة.
ولكن لنتساءل الآن عن مصير الجسد في هذا الحب؟ ماذا ينتظر؟ وإلام يهفو بعد العناق؟! بعد أن وجد حلمه الساكن في الخيال؟!
الجسد (أذنان مرهفتان تنتظران بلهفة سماع صوته الرخيم يبثني أغنيات العشق والهيام) وهنا نجد حاسة السمع التي تطالعنا مرة أخرى في القصة، بعد أن طالعتنا في المرة الأولى في جملة (أنا وأشجاري نقاتل الأيام الصماء البكماء التي عشناها) فالصمت كان المتكلم الوحيد، وأيّ صمت هو؟! صمت الخيال أم صمت الواقع؟! صمت الحب أم صمت الجدب؟!.
وجاءت النهاية لتشير إلى صوت الخلق أجمعين يهنئون البطلة وهم يسحبون جسدها من تحت أنقاض البناية المنهارة، في حين أن الصوت الذي كان يرهف جسد المرأة له هو صوت الرجل الرخيم ليبثها أشواقه وحنانه ويرتل لها أغنيات العشق والهيام، فهنا نجد أن المجتمع بما دل عليه (صوت الخلق أجمعين) هو الذي حال دون اكتمال قصة الحب، دون الخوض في مسألة الجسد، بما ينطوي عليه ذاك المجتمع من أعراف وتقاليد تجعل الصراع قائما مابين القلب والعقل، مابين العرف والحلم، مابين الواقع والخيال، وأخيرا مابين الذي ينشده الجسد وينشده المجتمع.
في النهاية تسعى هذه القصة إلى القول بأن الأحلام تنهار أمام قسوة الواقع، وبأن الحب لا تكتمل عناصره أمام شدة تماسك أعراف المجتمع، ويبقى السؤال مطروحا في النهاية: هل التهنئة بسلامة هذا الجسد هو ما كانت تحلم به البطلة؟! أم كانت تحلم بتهنئتها بسلامة القلب والروح؟!
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 6 يوليو2010م)


أفعال
قصة: هبة خميس

البنت القصيرة صاحبة الجديلة الطويلة كلما مر الولد الأشقر الذي يجاورها في طابور الصباح، تعطيه زهرة بنفسج يانعة قطفتها للتو من حديقة بجوار المدرسة.
السيدة العجوز الوحيدة التي تقطن بجوار المدرسة ، تسقي أزهارها كل صباح وتتمنى لو لم يتناقص عدد زهراتها الجميلة.
السيدة العجوز الوحيدة وقفت خلف نافذتها تراقب البنت وهي تقطف زهرة من زهراتها ، رغم بطء حركتها إلا أنها فاجأت البنت القصيرة وهي تعطي الولد الأشقر الزهرة فجرى الولد خوفاً ، وعندما تخلصت البنت القصيرة من قبضة العجوز وتوبيخها جرت بعرض الشارع ولم تفطن لوجود السيارة الحمراء المسرعة إلا وهي تصدمها بسرعة وتهرب .
الشاب الأسمر النحيل الذي يجلس دائماً على المقهى المواجه للمدرسة كان أول من رأى البنت القصيرة وهي ملقاة على الأرض ، فجرى نحو السيارة مسرعاً ولم يلحقها .
الشاب الأسمر النحيل عاد إلى الفتاة المسجاة على الأرض وأخذ يجمع الدماء من حولها في أكياس يحملها دائماً ، وعندما امتلأت الأكياس بدماء البنت خبأها في جيوبه حتى لا تموت البنت مثلما فعلت والدته .
عندما صدمت السيارة والدة الشاب الأسمر قال الطبيب إنها تحتاج دماء كثيرة وإنهم سيفعلون ما في وسعهم لإنقاذها ، وبعد ساعتين قال الطبيب إنها ماتت .
البنت القصيرة ماتت قبل أن تأتي الإسعاف، والولد الأشقر انتقل إلى مدرسة أخرى خوفاً من أصدقاء البنت القصيرة التي ماتت، والسيدة العجوز أهملت زهراتها حتى ذبلت ونقلتها الرياح إلى مكان الدماء المتخثرة على الأسفلت، والشاب الأسمر وقف على قبر البنت القصيرة وسكب كل أكياس الدماء التي جمعها علها تحييها مرة أخرى .
الشاب الأسمر اختفى بعد ذلك ولم يجلس على المقهى ثانية ..

قراءة نقدية في قصة (أفعال)
بقلم الناقدة السورية: بيانكا ماضيّة

لابد في البداية من الإشارة إلى أن الكاتبة هبة خميس قد أفلحت أيما فلاح في هذه القصة الرمزية التي تحيل على تفسير وحيد ولكنه متشعب الاتجاهات، إذ تفتح الآفاق لقراءتها من عدة أوجه.
ترمز هذه القصة إلى الصراع بين الأصالة والمعاصرة، بين التجديد والمحافظة، أو الجمود والتحرر، أو القديم والجديد، وتمتح الكاتبة صورها من الواقع واللاواقع، من الغرائبي الذي يحيل على رمزية بكل ما تحمله من أبعاد فكرية وأحلام مترعة بآفاق التطوير.
ترمز البنت القصيرة صاحبة الجديلة الطويلة إلى المعاصرة، في محاولتها تقديم أفكار جديدة يانعة تمثلت بقطفها كل يوم زهرة من زهرات السيدة العجوز، لتقدمها للولد الأشقر الذي يرمز إلى الغرب، فيما ترمز السيدة العجوز إلى الأصالة بما تمثله زهراتها من موروثات وتقاليد وثقافة، إذ نرى أنها ترعاها وتسقيها وتتمنى لو لم تمتد لها يد لتقطف منها واحدة، وهي دلالة على أن تلك الموروثات تتناقص رويدا رويدا بفعل الأجيال الحالية، فتصيب تلك الموروثات بتغيير في البنى والأشكال والآليات.
أما بؤرة الصراع فتكمن حين تفاجئ السيدة العجوز/ الأصالة بعد مراقبتها البنت، وهي تقطف زهرة من زهراتها لتقدمها للولد الأشقر الذي يجري خوفا، والخوف هنا يكمن في أن الغرب في تقديمه ثقافته لأصقاع العالم، ولاسيما الأمة العربية، تمثل الأصالة بالنسبة إليه خوفا؛ لأن في ذلك الإرث الثقافي غنى باذخا، ولأن الثقافة العربية بوصفها إحدى الثقافات الكبرى في تاريخ البشرية، قادرة اليوم على متابعة مسيرتها في تقديم قيم الخير والعدل والمحبة والسلام ونبذ كل ما يشوّه الإنسان، ولذلك فإن هناك خطرين يتهددان هذه الثقافة، فإن تمسكت هي بالقديم عاشت خارج الزمان، وإن استهلكت الجديد بلا تأن وروية عاشت خارج المكان.
ولذلك فإن البنت القصيرة بعدما تخلّصت من قبضة العجوز جرت بعرض الشارع أي اتخذت لها طريقا خطرا ولم تفطن لما يمكن أن يهدد حياتها.
أما الشاب الأمر النحيل فهو يمثل الجيل الحالي أو يمثل الفكر المعاصر، وأشارت الكاتبة إلى مكانه بالمقهى المواجه للمدرسة، وهو أول من رأى البنت القصيرة وهي ملقاة على الأرض بعد أن صدمتها السيارة، فجرى نحو السيارة ولم يلحقها، ولذلك أراد أن يجمع دماء البنت، أي أراد أن ينهل من الثقافة الغربية بكل ما في وسعه حتى راح يملأ جيوبه بها. وتنسحب هذه الرمزية على بقية المواقف التي حفلت بها القصة لتؤكد ما آلت إليه ثقافتنا العربية، وما آل إليه الجيل أو الفكر المعاصر الذي لم يعد يهتم بالتقاليد الاجتماعية والموروثات الثقافية.
اعتمدت القصة على التكثيف والتركيز والحذف والرمز، والتعبير عن الأفكار بجمل قصيرة، مستندة إلى المبتدأ الذي يخبر عنه بجملة فعلية، المبتدأ الذي يدل على الثبات والرسوخ، والخبر الذي أتى جملة فعلية تدل على الحركة المستمرة. وفي هذا دلالة على ما رمزت إليه القصة من ذلك الصراع بين القديم والجديد، القديم الذي يمثله الفعل الماضي، والجديد الذي يمثله الفعل الحاضر، ولعل عنوان القصة (أفعال) هو الدلالة الكبرى للصراع بين تلك الأفعال، أو بين ذينك المفهومين (الأصالة والمعاصرة).
هذه القصة لا تخرج عن كونها قصة رمزية تنتهي وظيفيا بمجرد فهم دلالتها، ولكن الرمز يستمر فيها إلى اللانهاية، ولا يتوقف، ويقول صبحي البستاني في كتابه (الصورة الفنية في الكتابة الفنية) : (إن المعنى في الحكاية الرمزية نهائي، أما معنى الرمز فهو لانهائي ولا يمكن استنفاده، وبكلام آخر عندما يصل إلى غايته يصبح بشكل من الأشكال ميتا بينما هو فاعل وحي دائما في الرمز).
ولذلك تضبط الكاتبة لغتها ولا تجعلها تفلت من إطارها الرمزي فهي لم تسرد بلغة شعرية، وإنما جعلت السرد ينطلق في مسار محدد، يلملم ما يفيده وظيفيا مما يراه من مواقف وأفعال، ليصل إلى النهاية التي انتهى فيها كل شيء: البنت القصيرة ماتت، والولد الأشقر انتقل إلى مدرسة أخرى، والسيدة العجوز أهملت زهراتها، والشاب الأمر النحيل لم يعد يجلس على المقهى.




(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 6 يوليو2010م)




يكفي للانتحار..
قصة: إيمان السباعي

نزيلة الغرفة (7) التي حاولت الانتحار اثنتي عشرة مرة نجت منها كلها، لم تكن دميمة أبدا..على العكس..كانت جميلة بجسد صغير ..
عندما أتت إلى ( المصحة ) أول مرة وجد الطبيب الشاب صعوبة في تحديد الأسباب التي دفعتها إلى الانتحار..كانت صادقة عندما أخبرته أنها منذ ثلاثة أشهر تحاول أن تصنع مركبا ورقيا، وبرغم مئات المحاولات وأكوام الورق الأبيض التي استهلكتها لم تنجح في صنع (مركب ورق صغير) ولو مرة واحدة..
تفرد الورقة البيضاء.. تصنع ثنيات كثيرة ثم تمزقها.. يئست تماما، فقررت ببساطة التوقف عن المحاولة..
عودتها الثانية للمصحة كانت بعد فشلها في تثبيت زرار بلوزتها الزرقاء المفضلة الذي ترك مكانه ليسقط على الأرض محدثا صوتا بدا لها مدويا..
استغرق الأمر أسبوعين من المحاولات ونقاط الدم التي خلّفتها الأصابع المرتعشة وهي تمسك بالإبرة المدببة الرقيقة.. كانت الرغبة في رؤية المزيد من الدماء سببا في اختيار سكين رائعة تدوس بخفة على الذراع الممدودة باستسلام..
أما المحاولة الثالثة التي جعلتها نزيلة دائمة بالمصحة كانت كسابقتيها (غير منطقية على الإطلاق) من وجهة نظر الطبيب الشاب:
أهداها خطيبها روايته المفضلة هدية عيد ميلادها لكنها ظلت لشهور لا يمكنها تجاوز الصفحات العشر، لم يغضب هو أبدا وبدا أن الأمر لا يعنيه إلا أنها رأت استمرارها في تلك الحياة أصبح مستحيلا..
كانت دائما تبتكر أسبابا وأساليب جديدة تثير إعجاب الأطباء وحسد النزلاء مما جعل الانتحار يبدو في كل مرة معجزة كالنجاة.
في صبيحة أحد الأيام عندما وجدوها ممدة على سريرها.. وميتة.. لم يستطع أحد نسيان عينيها الجاحظتين برعب ودهشة.



قراءة نقدية لقصة (يكفي للانتحار)
بقلم الناقدة السورية: بيانكا ماضيّة

هذه القصة الرمزية التي قرأتها مرارا وتكرارا لأمسك برأس خيط يدلني إلى ما ترمز إليه، لم تسعفني في أن ألتقط ذاك الرأس، فتركتها وعدت إليها فيما بعد، وكما في المرات السابقة فإنها لم تجعلني أقبض على مفاتيح قراءتها، إلى أن وقفت طويلا عند الرقم (7) لأبدأ منه، ذلك أنني أردت إبراز قيمة هذا النص الذي بين يدي، من خلال الدال والمدلول، وما يمكن استنباطه من تجل لتصور فكري أو علمي أو ديني معين، وما هي الآفاق التي يفتحها أمامنا؟!.
(يكفي للانتحار) قصة ذات طابع فلسفي، الرقم سبعة هو رقم يملك طاقة في ذاته ويرمز لنظام المجموعة الشمسية، ولعجائب الدنيا السبع، ونشاطات الأرض وشؤون البشر، هذا الرقم يحمل سرّ الكون، فعدد أيام الأسبوع سبعة، وعدد ألوان الطيف الضوئي سبعة، وعدد طبقات الكرة الأرضية سبعة، والبحار سبعة، والقارات سبع، وآيات الفاتحة سبع، وفي المسيحية عدد الأسرار سبعة، إلى ما هنالك من أمور كونية وعقائدية عجز الإنسان عن تفسير هذا الرقم إن دل على عددها.
وتساءلت: لم حملت الغرفة الرقم (7)؟ إلى أن وجدت رابطا مابين ذاك الرقم وبين الغرفة، فالغرفة في هذه القصة دليل على فضاء هذا الكون، أما النزيلة فهي الشمس، ذاك القرص الصغير بالنسبة إلينا والجميل حقا، ومحاولات الانتحار الاثنتا عشرة هي عدد أشهر السنة، في تقلبات تلك الشمس وفي دورة الأرض حولها، في غيابها وحضورها، في هذا السر الكوني الذي عجز الإنسان عن تفسيره، وما جعلني أفسّر دلالة تلك النزيلة، ما أشارت إليه الكاتبة بقولها: (عودتها الثانية للمصحة كانت بعد فشلها في تثبيت زرار بلوزتها الزرقاء المفضلة الذي ترك مكانه ليسقط على الأرض محدثا صوتا بدا لها مدويا) فالبلوزة الزرقاء هي السماء، والزرار هو أحد النجوم أو أحد النيازك، والذي يؤدي سقوطه على الأرض دويا عظيما.
ولكن السؤال لماذا الانتحار؟ فطرح موضوع الانتحار دلالة على تأكيد مسألتي الحياة والموت، ومفهومه -أي مفهوم الانتحار- يعارض مفاهيم الخلق والحق والحرية، وطرحه في هذه القصة مرتبط بسؤال الفلسفة الرئيس، وهو السؤال المتعلق بجدارة الحياة.
الانتحار تمرد على الواقع، ومحاولة إنهاء وجود، هو عدمية نهاية، وهول منظر، هو الإرادة نفسها ولكن مجسّمة، أو لنقل هو الحياة سلبا، أو ضد غريزة الحياة.
ولكن كيف للشمس أن تنهي وجودها من هذا الكون سوى بإرادة إلهية، فمن يمسك بخيوط هذا الوجود سوى الله سبحانه وتعالى؟ (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكلّ في فلك يسبحون).
جميع محاولات الانتحار باءت بالفشل، أي جميع محاولات الإرادة غير الإلهية التي تسعى لإنهاء الحياة على هذه الأرض، تبوء بالفشل، وتبقى حادثة الموت التي انتهت بها الشمس أي انتهت بها الحياة والوجود، وهي التي انتهت بها القصة أيضا، دليل على تلك الإرادة الإلهية التي تنهي كل شي، في لحظة مرعبة مدهشة، (كل يجري إلى أجل مسمى) (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) هي لحظة انطفاء الشمس، لحظة انطفاء الوجود الذي خُلق من العدم.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 6 يوليو2010م)

على الرصيف
قصة: منى عارف


وعلى رصيف المقهى أجلس على طاولتي في الزاوية يحاورني صديقي الذي يملأ شرفات مقلتي:البحر، هذا الذي اعتاد معي تلك الوجوه الغائبة الراحلة .. المسافرة.. تخطو خطواتها الأولى على رصيف الميناء المجاور بأقدام مترددة، وجلة. أشاور للساقي مشروبي المفضل "ينسون بالنعناع"، وأحتضن حزمة أوراقي الصفراء، وأغوص فيها كما كنت أغوص في أعماقه بكل شوق وفرحة لعلني لحظة أخرى أجده وتطير إليه الأفكار، تطير مع نسمة الريح المحملة برائحة اليود المنعشة إلى هناك.. ذلك الذي أصبحت لديه.. نعم .. أصبحت لديه مجرد فقرة ، وقت القيلولة أو ربما أقل من معنى تلك الفكرة، أو بالكاد تشبعها هناك من يحتل عنده كل المساحات كل المسافات ، كل الذكرى، وأنا ؟ ما أنا؟ عابرة طريق .. تواجدت بحكم المصادفة غريبة وحيدة تكتب يومياتها في خاطرة .. وترسم وجوها عشقتها وتضيف إليها لمساتها وبعضا من ألوان الطيف التي تبهجها حتى لا يصبح كل ما نعيشه بعضا من الأعباء، خاليا من الفرحة، شيء يعطينا حتى مجرد النكهة، وألتزم بخط الرجعة، لا اقتراب، تعلمت.. وما أقصر تلك الدروس، وما أدهى كل واحدة تركت في قلبي ندبة فأشم هواء البعد ، وأشم رائحة الرحيل في كف المصافحة، وأعود أرسم ثانية وجوها لا أعرفها بالمرة.. أدقق في ملامحها لعلي أجد فيها ملامح حميمة أخرى ، وتأسرني الحكايات التي تبوح بها عيونهم في كل مرة، هذه تهرول لكي تلحق لها فرصة، وهذا يتراجع عند أول محطة.. وهذه عيون ضاحكة.. وعيون تسكنها الدهشة.. وتلك وذاك.. يأملان في العيش تحت مسمى الهجرة مع طيور النورس إلى بلاد تحضن لياليها حمى النبيذ والخمرة تذوب فيها مع العمر شموع بلون الحجر، بلون أرض بلادي الذي يكسو وجوها مكانها الحمرة .. وتلفت نظري ويعكس الزجاج صورة امرأة رثة الثياب .. تبتسم بعينيها النجلاوين .. تقترب بحذر من المارة وتمد يدها "حسنة للنبي .. حسنة يا بيه .."

قراءة نقدية في قصة (على الرصيف)
بقلم الناقدة السورية: بيانكا ماضيّة

يحار القارئ في بداية هذه القصة - مادامت كاتبتها أنثى - يحار في جنس الراوي المتكلم ويتساءل أهو رجل أم أنثى؟! فعلى رصيف المقهى، يجلس هو على طاولته في زاوية ليحاور صديقه البحر الذي يملأ شرفات مقلته!! ثم ماذا؟ ثم يتأمل وجوه العابرين، أو وجوه المسافرين عبر الميناء، هذه الوجوه الغائبة الراحلة، تحملها أقدام وجلة مترددة من مشهد الفراق والغياب، ثم يشير للساقي إلى مشروبه المفضل، ثم يحتضن أوراقه الصفراء، ويغوص في أعماقه!! في أعماق من؟! أعماق البحر، أم أعماق شيء آخر، أو كائن آخر؟! وهذه الهاء، هاء الغائب، أو هاء الغياب، إلى من تدل وتشير في مفردة (أعماقه)؟! ثم تطير إليه الأفكار، وهنا هاء أخرى تشير إليه، وثالثة تدلل عليه في جملة (ذلك الذي أصبحت لديه) فمن المتكلم؟! أأنثى أم رجل؟! ويأتينا الجواب: وأنا؟ ما أنا؟ عابرة طريق!! لنكتشف أن المتكلم أنثى من خلال هذه التاء المربوطة في (عابرة)، وقد وجدت هذه الأنثى نفسها بحكم المصادفة غريبة وحيدة في هذا المكان/ المقهى، ولم لا تجد نفسها غريبة؟!، فالمقهى ذو الطابع الذكوري، وهي الأنثى التي لاذت به لتكتب يومياتها، هو مكان للقاءات والحوارات بصوت عال، ولكن من تلتقي هذه الكاتبة التي تفتح صفحات الماضي والحاضر، ومن تحاور فيه؟!
تلتقي في هذا المقهى بالوجوه العابرة في الواقع وفي الذاكرة، لا بل تلتقيه هو، ذاك الحبيب المفقود الذي أصبحت له حياته الخاصة في أرض بعيدة، وأصبح لديه من يحتل كل المساحات والمسافات، لذلك تشعر بالبعد، بصور المسافات تتوالى، فمن تحاور هذه الكاتبة التي تعاني آلام الفراق سوى البحر الذي يقابلها بفتنته عبر مفردات تكتبها بصمت في يومياتها؟!.
هذه اليوميات يشي كل شي فيها بالغياب والرحيل، وكيلا تفقد الوجوه التي راحت ترسمها الكاتبة الراوية بحرفية وإبداع، كيلا تفقد نكهتها تضيف إليها بعضا من البهجة والفرحة، وهل بغير الكتابة يستطيع المرء تغيير المشاهد أو الوجوه التي اعتاد أن يراها؟ تغييرها بإسباغ ألوان الطيف عليها، لتتحول إلى وجوه أو مشاهد أشد فرحة وابتهاجا، (حتى لا يصبح كل ما نعيشه بعضا من الأعباء) كما تقول!.
لقد أصبح المقهى هنا مكانا للحديث مع النفس، مع الذات المشطورة مابين الواقع والخيال، مابين آمال الكاتبة وآمال الآخرين، هي قابعة في المقهى/ المكان المختبأ فيه وقد أصبح فضاء للحوار الصامت، وفضاء للذكرى والكتابة، وفضاء لرؤية وجوه المسافرين، ووجوه أخرى موشومة في الذاكرة، وأخرى غير معروفة ولكن في ملامحها ما يمكن البحث عن أشياء حميمة، فضاء لتذكر الدروس التي تترك في النفس ندبات تخلّفها لحظات الفراق والرحيل.
لقد أصبح هذا المكان مسرحا أو مكانا معادلا للرحيل عينه، لتفاصيله، لمشاهده، وعبر أي شيء؟! عبر تلك الوجوه المسافرة التي تحيل عيونها على حكايات وحكايات يحتل الفراق والبعد فصلا من فصولها للبحث عن آمال مفقودة، عبر حركات لا تهدأ: هرولة وتراجع، وعبر ردود أفعال: ضحك ودهشة وأمل في العيش بعيدا عن تراب الوطن الأحمر.
وشيئا فشيئا، وعبر هذا السفر الذي لا يهدأ، وعبر جميع الوجوه الراحلة التي لا تفتأ تبحث عما يقيها شظف العيش، أو عما يجعلها تعيش أحلاما لا تقبض على مفرداتها وراء البحار، يظهر لنا في النهاية صورة امرأة يعكسها الزجاج الشفاف، امرأة بعينين لم تكونا حزينتين أو مقهورتين، أو لاهثتين وراء تلك الآمال المغيبة، امرأة تبتسم بعينين نجلاوين وقد أبت الرحيل كالآخرين؛ لتتمسك بكل شيء جميل في بلادها، وإن جعلها الفقر والعوز والحرمان، تنادي: حسنة للنبي .. حسنة يا بيه!!
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 6 يوليو2010م)