بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 18 مايو 2010


الأديب السلوفينى إيفالد فليسار بمختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية

ينظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية لقاء ثقافيا يوم الثلاثاء أول يونيو2010م مع الكاتب السلوفينى إيفالد فليسار، حيث يتم إعداد ملف عن فليسار باللغتين العربية والإنجليزية يتناول رحلة فليسار الأدبية ودراسات عن أعماله المسرحية والقصصية يقدمها الدكتور أبو الحسن سلام والدكتور زين عبد الهادى وأعضاء المختبر، بالإضافة إلى عرض باور بوينت لصور من حياة وأعمال فليسار يعلق عليها بنفسه. وقد صرح الأديب منير عتيبة مدير المختبر أن مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يستضيف إيفالد فليسار فى احتفالية ثقافية تقدمه إلى المثقفين المصريين وتقدمهم إليه، وتقيم بين الأدبين العربى والسلوفينى جسرا من التواصل نرجو أن يمتد ويقوى، مشيرا إلى أن فليسار أحد المثقفين المهمين فى سلوفينيا فقد شغل رئيس اتحاد الكتاب السلوفينيين في الفترة من عام 1995 إلى عام 2002، وهو من مواليد عام 1944م، وهو مؤلف مسرحي وروائي وكاتب سيناريو وقاص وناقد أدبي، ورئيس تحرير مجلة سدوبنوس أقدم مجلة أدبية في أوروبا. ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات من ضمنها العربية والإنجليزية والألمانية والفرنسية والفنلندية والروسية والصينية والهندية والتشيكية والكرواتية وغيرها. وقدمت أعماله المسرحية في مصر وبريطانيا وسلوفينيا وكرواتيا والولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى. وهو حاصل على العديد من الجوائز في مجالات مختلفة.
وقد ترجمت بعض أعماله إلى العربية، حيث ترجمت له مسرحيتان هما "أنتيجون فى عصر العولمة" و"الكوكب الحادى عشر" و"نورا نورا" التى عرضت في مسرح الهناجر بالقاهرة عام 2005، ومجموعة قصصية بعنوان "حكايات التجوال"، بالإضافة إلى "أحلام الأب" و"معاداة الذاهب الآن".
كما أشار عتيبة إلى أن فليسار لديه شغف كبير بمصر وزارها من قبل، وهو مهتم بهذا اللقاء الثقافى بمختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية حيث سيحضر معه مخرجا ومصورا لتسجيل وقائع الحدث لإذاعتها بسلوفينيا.

الثلاثاء 11 مايو 2010م

قراءات قصصية ونجيب محفوظ بمختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية
نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية ندوة قراءات قصصية يوم الثلاثاء 11 مايو الساعة السابعة والنصف مساءً، حيث علق الأديب يحيى فضل سليم نقديا على خمس قصص لعدد من المبدعين السكندريين من أجيال مختلفة، وهى قصص "قصة كون" لأسماء الشيخ، "آه لو كان رجلا" لإبراهيم الرف...اعى، "أين مهر بهية؟" لحسنى الجنكورى، "القديمة تحلى" لصلاح بكر، "فاهمة" لمحمد العبادى.
صرح منير عتيبة مدير المختبر أن الفقرة النقدية فى الندوة سيقدم خلالها الناقد على عوض الله كرار قراءة فى رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ .
******************
قصة كون
قصة: أسماء الشيخ

في قاعة الحكمة الضالة بساقية الصاوي اختبر مساحة متر في متر ؛ عليه احتلالها؛ و ملئها بالصور. نسقها بروح اسكندر الفاتح...... الروح الهادرة تشكل الأمور من حولها موج هي مركزه. تتسع الدوائر وتتشابك ويبقى المركز بقوته واتزانه. في منتصف مستعمرته وضع ملكة لقطاته جميعا. تدور حولها بقية الصور في قرص متحرك كقرص تليفون الثمانينيات. ولناقصي البصيرة علق سهما مضيئا في فراغ دائرته ينير طريق البصر للصورة الأم...............
* * *
قبل أن ترقع الإسكندرية أحياء وهو يشقها وتشقيه....الترام....كان الكون خاليا إلا منه والإسكندرية. يقطعها شمالا ويمينا؛ تتلقاه بين طرفيها ككرة تنس حائرة. تتذكر الإسكندرية يوم هبوطه عليها من السماء......صرخت ليطفىء أحدهم زر تشغيله حيث حركته المستمرة تحقن بكل أرجائها صداعا نابضا. العمال السماويون على لطفهم لم يستجيبوا؛ وضعوه بحنو وفور ملامسته أرضها اندفعوا راحلين حتى لا يفوتهم طعام العشاء. وتركوا الإسكندرية لألمها الوحيد........
* * *
منذ أنهك كلاهما والترام لا يصل إلا لفكتوريا؛ ويرتد شائخا بطيئا يمازح صاحبته المتجددة و ينثر حكاياتهم على الجانبين...........
* * *
أقامت فوق عمارة يونانية تطل على كلية الطب؛ تتابع تطور الأجساد المتدثرة بالبالطو الأبيض. يلفت نظرها ما يزيد بينهم وحسب. تزداد النساء والجينز وأغطية الرأس والسجائر. "هي" دائما وجود مؤنث يسكن أعلى العمارة اليونانية. كانت أوكتافيا الحزينة زوجة أنطونيو؛ وسيرينا الطيبة أخت مارية القبطية. حاليا هي أودري هيبورن الخفيفة. وعلى تنوعها تبقى دائما المرأة الصولو حيث الحلم المحتمل الوقوع والواقع المرن القابل للتحليم. تتابع كلية الطب وتنتظر قلب الترام ليعشقها............
* * *
لم تشرق الفرصة لأحد فيتأمل أسفل الترام عن كثب؛ لكن مع فرضية قلبه والمشاهدة؛ سيذهلك الحفر المتقن لتماثيل القديسين الفزعى. يبدو دافيد المحفور ورعا. سيطفو التسامح على مخيلتك عندما ترى إلى جواره مولد فينوس مزينا بالأوركيد النضر. رجال الحفرية كرجال مايكل انجلو؛ لكن أقل خشونة وانفعالا. مكتوب أسفل لوحاتهم بخط كوفي أنيق ملحمتهم المندثرة. تشكو الكلمات للجدارية النحاسية إلى جوارها قسوة السلطان وتحكمه وهرب صاحب اللوحات لقلب الترام . سجن نفسه واستقر؛ وحتى لا يضيع العمر هباء كدسه بالرسم..............
* * *
يوم هبط الترام اختبأت هي في ركن واختبأ هو في آخر..........عمال سماويون هاربون من استمرارية العمل لشقائه. بعد نزاعهم العقيم على الترام؛ عقدت الإسكندرية معهم صفقتها المسّكنة فلتعيش "هي" في الشمال وليعيش "هو" في الجنوب ؛ فيهدؤا جميعا...........
كانت في توق لاسترخاء وبهجة؛ ومن خبرتها السحابية.... لا أفضل من سباحة منعشة . ملأت شمالها مياه وزبد وأسمته بحر...........
* * *
فوق صفحة الترام تلتقي أودري هيبورن في فستانها الأسود الصباحي ومايكل أنجلو في زيه الملطخ بالألوان . يتذكرون فضاء الإسكندرية الملىء وامتلائه الفارغ. يتحمس أنجلو لكليوباترا وتشجيعها للفن وتدافع أودري عن زوجة أنطونيو المخلصة. يتنكر أنجلو من ملل النساء ولا تجادله فهي إلى الآن لا تملك تفسيرا لانتقالها في ثلاثة أجساد وتفكيرها الملّح في التخلص من أودري. تظهر هيامها بسلفادور دالي لتشاغبه ويخبرها أن خياله مريض؛ ترفع حاجبها في مكر وتقول إن التقليدية هى مرض الفن الوحيد. يعيدهم وحدة المرض إلى الإسكندرية وصداعها السابق ويتفقوا على الاختلاف التقليدي بين السماء والأرض............
* * *
فوق أعلى نقطة لمبنى طب أسنان أحاط جفنيه سورا على لقطة مركزة تحفر أعماقه؛ تصنع عالما صغيرا ثابتا على فورانه...... اللقطة في عينيه مكتملة ؛ هي الخط النصفي بين شروق وغروب أمامه ثانية واحدة فيها ظلام ناقص التمام وفجر باهت. قبّل عدسته الرقمية لتلين وتنقل مشهده فأكرمته.....نقلت ثانيته النادرة وثبتت الترام على أودري هيبورن ومايكل أنجلو يلامسان كوؤس النبيذ..................
* * *
في مستعمرته بأرض الحكمة الضالة وتحديدا تحت مساحته المنسقة بروح إسكندر الفاتح وضعوا نجمة صغيرة تكريما لأفضل استخدام فوتوشوب في المسابقة............

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية- 11 مايو2010م)
********************
رغيف
قصة: إبراهيم رفاعى

قناعتى؛ حتى وقت قريب، أننى قوى بما يكفى أن أجوع دون أن أفقد إيمانى. ومع انتصاف الليل كنت على المحك. قررت ألا ألامس الأرغفة المخصصة لإفطار أبنائى فى الصباح. المعدة خاوية. لكننى طمأنت ذاتى أن مرور الوقت سينسينى الجوع.
ساقتنى قدماى إلى حيث تقبع الأرغفة المخصصة للإفطار وقد تناثرت فوق جريدة عنوانها الرئيس "الدعم لمستحقيه".
بمرارة تسرب نفس عميق بين شفتي. نظرت إلى الأرغفة. خطوت خطوة للخلف. فركت يدي "انتصر الفارس بداخلى" قلتها بارتياح متمتما "دع العيش لمستحقيه". تنفست الصعداء. شعرت بالزهو.
لا أدرى كم من الوقت مضى قبل أن يستقر رغيف كامل فى معدتى دون مضغ. وغالبنى نعاس من أشبع جوعه، لأستفيق فى الصباح على صياح زوجتى:
- مين اللى كل الرغيف يا.. أولاد؟
بينما ترمقنى بطرف عينها، والجميع يدفع التهمة..
- مش أنا..
- مش أنا والله..
أيقنت من خبراتى السابقة أن الموقف يتجه إلى أزمة. سحبت الغطاء فوق رأسى.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية- 11 مايو2010م)
*********************

أين مهر بهية؟
قصة: حسنى الجنكورى
خضعت بهية فى زيجاتها الثلاث المتعاقبة لسلطة أزواجها، والذين دفعوا جميعهم مهورا غالية لها، ولم تعش أرملة قط، ولتظل رهينة محبس بيت الزوجية، ولتمنح أزواجها توكيلا عاما قبل أن يتسلموا كل أختامها، محافظة على التقاليد العتيدة لـ(كفر الجبايسة).
لم تفتر الحميمة بينها وبين أبنائها بالكَفْر، وتعاطفهم معها، يغضون الطرف كلما حيف بهم من ظلم وقهر من أزواج الأم؛ لتسير المركب.
لكن ما أثار حفيظة (مظلوم) وأحزانه ما يتناقله أهل الكفر عما يدور فى بيت أمه بهية لنقل توكيلها العام إلى ابن زوج أمه، وليحتفظ زوج الأم بالأختام دون التوكيل إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا، وتحتدم الأفكار المتصارعة برأس مظلوم لتضج مضجعه، ويتهاوى مرهقا، وتسقط منه رأسه، ليرى ابن زوج أمه يعلن عن رغبته فى تسلم أختام بهية، ولكنه يتطلع إلى التأييد من أبيه، موافقة أبناء بهية لإصباغ الشرعية، وليصير زواجا مباركا مستقبلا.
يهرول مظلوم غاضبا إلى شيخ البلد ليستفتيه فى تلك الزيجة المزعومة بعد فيرد عليه:
- يكفينا الإيجاب والقبول لانعقاد عقدة النكاح يا بنى.
- وماذا يا مولانا عن الشهود والمهر والتكافؤ؟
- هى شروط شكلية مكملة.
- لا يا مولانا، إنها ركن من أركان الزواج وليست شكلية.
متأففا:
- لقد أفتيتك يا مظلوم وأثقلت علىّ، لتبحث عن الشرع لدى غيرنا.
ويصيح مظلوم: لا.. لا.. زواج باطل.. باطل
وتنتفض زوجته فزعة بجواره على صراخه، وتهزه بقوة لتوقظه وهو ما زال يردد.. باطل.. باطل.. باطل.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية- 11 مايو2010م)

***************************

القديمة تحلى
قصة: صلاح بكر

دائما استيقظ متأخرا.. حين سمعت نداءً يداهمني .. أتجه إلى الصوت :
ـ أنا معجبة بكلماتك
ـ أنا معجب جدا بك
عيناها الساحرتان تعودان بي إلى عشرين عاما مضت.. نسير في زقاق ألفت السير فيه.. أغطيها بجسدي حتى لا يلدغنا البعوض. الجسد العاجي أطل من الثياب.. أرسم معها نخلة بجوار "كوبري الناموس" تضع ( كاباً ) فوق رأسها.. أستعيد الأمس، صوتها الدافيء:
ـ اسمي سليمى ... (وتكشف عن نهدين بريئين ..)
ـ أعيش بمدينة الجزائر ..
أنسى سنية، وأيامها القديمة، وهي تغني " طلعت فوق السطوح أنده على طيري "
عندما تحمم الكتاكيت، و( تزغط ) البط، وهي تضع البط تحت ساقها، وتفتح المنقار، وتغني :
" من فوق شواشي الدرة جمرية بتغني " ..هذه السنوات مرت متثاقلة ...
أسمع ثرثرة سليمى.. أحاول فهم كلماتها الفصيحة.. البنطال الضيق ينطق: " انسى سنية "
سآخذها معي إلى مقهى الجرجاوي نرى المطربات العاريات.
وضعت ساقا على ساق كزهرة نبتت بالرصيف، تدخن بشراهة، وصديقي ينظر إليها بنهم .. أعيش حلمي، الحلم العربي.. بيتي من طين.. بساط رطب.. أبتعد.. أبتعد مع الأصوات.. ثوبي الذي اهترأ.. صوتها يخرج من النوافذ :
ياست يا أم البنــات .. ارضي الجفون حبه زغللي عين الجدع .. اتلمي يا شـــــــــابه
أبي يعود في المساء بجلبابه المترب مع العشاء.. لفظ أنفاسه، وهو ينصت للمذياع : لا تتنحى .. لا تتنحى ..أصوات الحارة و كلمات العجائز.. الزعيم ينادي بأعلى صوته : "ارفع رأسك يا أخي ؛ فقد مضى زمن الاستعباد ".. السذج يحيون الرئيس " أنت العسل و احنا البلاليص "
نعبر الحدود الوهمية.. أصل إلى مدينتها.. تعيد خصلة شعرها إلى موضعها.. تذكرني بصاحب الخبز الحافي.. عائش بكياني.. كان معي في طفولتي نجمع البيض من تحت الدجاج الأشيب.. ندرس الجراحة بالضفادع.. نقطف الزهور.. نطارد النحل ..
تأخذ بذراع صديقي.. تودعني ..أنتظرها .. وساحة الميدان تتسع بالهواء الساخن، والمارة بلا هدف. كان الليل يتلاشى ، وتلاشت الأصوات ؛ لأعود إلى بيتي .. إلى بيت أم سنية ..
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية- 11 مايو2010م)
*****************


فاهمة
قصة: محمد العبادى

أقف على الكرسي العالي .. أخيرا صعدتُ للثقب المضئ في الباب .. أنظر منه .. أرى الأبواب الأخرى عبر الزجاج الملئ بالتراب.
***
اليوم حين صحوت متأخرة فزعْت ( أين هي؟ .. لم توقظني !! ) أخذت أناديها ( موعد المدرسة .. فات عليه ... ) فلم ترد, أبحث فلا ( الباب المغلق .. الميس ستقتلني حين ... ) أجدها.
***
إسمي "منى", في "سنة أولى" كتبتُها "منا", ال"ميس" غضبت جدا, قلت لها أني أريده مثل إسم صاحبتي"مها" لكنها لم تسمع.
***
" إياكِ أن تفتحي باب الشقة.. فاهمة؟"
" إياكِ أن تفتحي باب غرفتي و أنا غير موجودة .. فاهمة؟"
" إياكِ أن تلمسي التليفون ...
... أن تتحدثي مع الأغراب ...
... أن تخرجي من غرفتك و هناك آخرين في الشقة ...
"لن أسمح له أن يخطفك مني.. فاهمة؟"
ماذا أفعل بدونك يا أمي ؟؟.
***
رأيته مرة واحدة, يومها سمعت صوت جرس الباب, إختبأتُ في غرفتي, بعد قليل نادتني أمي, خفت أن أرد, جاءت إلى الغرفة و أخذتني معها " تعالي .. سلـّمي" حاجبين ثقيلين و أسنان صفراء, مد لي يده, لمسْتها ثم هربتُ إلى غرفتي, يده .. هل كانت خشنة؟
***
من عين الباب أنظـُر, أسمع الخطوات الصاعدة, حكة القدم في كل درجة تقترب ( هي .. يجب أن تكون.. يجب ) لا, هو جارنا الرفيع الساكن بالأعلى.
أكرهه, هو والآخرين, بسببهم أبقى محبوسة في غرفتي لوقت طويل.
***
أصوات ضحك تأتي من نوافذ الجيران, طفل يصرخ, ميكروفون الجامع " ... رسول الله.. حي على الصلاة..." رائحة الطبخ, مع الجوع أفتح باب الثلاجة, أحب برودتها.
***
أقدام أخرى تحتك بالدرج, تقف أمام الباب.. خالتي.. تمد يدها نحو زر الجرس .. أفزعتني الرنة .. قفزت من فوق الكرسي .. أجري لأختبئ في الداخل .. رنة أخرى .. طرقات على الباب.. ثم أسمع خطواتها تبتعد.
" إياكِ..."
***
أحب خالتي, تزورنا كثيرا, في الصيف كنت أبقى عندها حتى تعود أمي من العمل, تشبه أمي لكنها أصغر .. تشبه أمي لكنها .. ليست حزينة مثلها...
***
مر وقت طويل و أنا جالسة على الأرض, ظهري مسنود إلى باب غرفتها المغلق (جرس التليفون .. لا .. لا أرد) "الأكرة" المعدنية تلمع في الظلام.
قبل سنة المدرسة كنت أنام معها في هذه الغرفة, تحتضنني حتى الاختناق, أستيقظ في الظلام على قبلاتها لوجههي وفمي, ثم في يوم: " كبرتِ .. يجب أن تنامي في غرفتك"
***
جرس الباب مرة أخرى, صوت خالتي ( خائفة.. خائفة ), خالتي تدخل, تحتضنني, تسألني, لا أفهم, تمد يدها للأكرة اللامعة " غير موجودة .. غير...", فتحتْ الباب, نظرَتْ للسرير بعيون متسعة, إحتضنتني ثانية و لم تقل شيئا.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية- 11 مايو2010م)

*******************


الاثنين، 17 مايو 2010

الثلاثاء 4 مايو 2010م .




الغريب والمنزلاوى وأبو شليب ووجدى وعبد الموجود يمثلون 5 محافظات بمختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية





فى محاولة للتواصل مع الحركة الإبداعية خارج الإسكندرية نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 4 مايو الساعة ندوة بعنوان "أصوات قصصية من خارج الإسكندرية" حيث ناقش الأديب عبد البارى خطاب بعض الأعمال القصصية لعدد من المبدعين غير السكندريين، وهى قصص "رغيف الخبز" لابتسام الغريب من المنصورة، "تقاطع" لسعيد عبد الموجود من كفر الدوار، "ذبح الموت" لسميرالمنزلاوى من كفر الشيخ، "الوجه الغائب" لفخرى أبو شليب من طنطا، "بيتزا" لوائل وجدي من القاهرة. يدير المختبر الأديب منير عتيبة.حققت الندوة تواصلا محمودا بين المبدعين والنقاد السكندريين ومبدعين من خمس محافظات مصرية، حيث أكد عتيبة أن الإسكندرية هى العاصمة الثقافية الأولى بالنظر إلى المنتديات الأدبية بها من حيث عدد المنتديات وعدد الحضور بالندوات وجدية المناقشات مثل ندوة الاثنين وإطلالة واتحاد الكتاب ومصطفى كامل والقبارى وغيرها، قدمت الندوة د.عبد البارى خطاب ناقدا لأول مرة لإثراء الحركة النقدية السكندرية التى يسعى المختبر إلى إثرائها على مستوى النقد الإبداعى والأكاديمى معا. تميزت القصص المقروءة بالندوة بمستوى فنى جيد فى معظمها، وبعضها نال استحسانا كبيرا من الحضور، كما أثار معظمها جدلا حول أسلوب الكتابة القصصية وتقنياته وعلاقته بالتقنيات الروائية، والمضامين التى تحملها القصص بداية من الواقعية الصريحة حتى الواقعية النفسية والسحرية وغيرها.
ذبح الموت
قصة: سميرالمنزلاوى (كفر الشيخ)

في وقدة النهار، وصخب الدفن، وطنين الذباب الأزرق، وشحيج الحمار المربوط فى عمود، داهمني شعور أن ما يهبطون به ليس جثة ، إنما هو عبد الهادي المنهمك في حياته الجديدة. القبو القمئ ليس إلا خدعة تصرفنا عن رؤية بساتين وأنهار وقصور وملائكة. ثمة غراب على نخلة سحوق، يهوى برأسه في سكون مطبق. بضع كلاب يغرسون خطومهم في التراب الناعم الحار ويزومون كأنهم يسمعون ما لا نسمعه. لعلها أصوات من نسميهم موتى ترحب بالراحل إليهم.
تجار آلات الري ومعهم جانب كبير من المشيعين وأعضاء المجالس توقعوا منذ البداية خرقا لقوانين الطبيعة، إلا أن الميت سار رزينا غير عابئ بما يدور في رؤوسهم. حين كان يهل في مدخل أي محل يقف صاحبه ليصافحه ، فاحصا الغنيمة التي قد تكون رجلا أو رجلين برفقته. يسأله بود عن طلبه ويخدمه بنفسه:
- غبت عنا لعله خير.
- الحال واقف ربنا ييسر الأمور .
يقول لعماله بعد انصرافه أنه وجه السعد وأحد عجائب العرفا التي لا تنقضي: فهي التي خرج أهلها ليحولوا دون هدم هدار حجز المياه، و قتلوا خمسة جنود جاءوا لمجاملة ثرى. وفى شوارعها نزف ضابط المباحث– مهران- كرامته لما صفعه العمدة أمام الكل. شهدت غيطانها صراعا محتدما بين البحراوية والشرقاوية قتل فيه ثلاثون واستخدمت البنادق والمدى والمسدسات واستعين بالنساء كطعم، ولم تنته الحرب -رغم تهديد الحكومة بإزالة بؤرة الشر هذه- حتى مات معظم الرجال! هي نفسها -ويا للعجب- مقام الصالح محمد وفا ومزار المحبين من أقاصي كفر الشيخ حتى حدود الغربية، حيث القلوب واسعة يأكلون وينامون ويسفحون دموعا حارة لدى الفراق. لا شك أنه يستحق هذا القول ، فلاح بجلابية وتلفيعة يقرأ ويكتب بصعوبة ويقطن بلدا مشاغبا يصير أمهر من المهندسين خريجي الكليات في الفك والتركيب وإصلاح الأعطال دون مليم واحد!؟ في أيام الشح تخبأ له الكيرلوسكار الهندية ، يقول الصبي:
- حجزتها لك من شهر .
يمد يده في السيالة فيعطيه البقشيش. يقول المعلم:
- لو سمعت الشركة بدعايتك الجبارة لأعطتك مكافأة ضخمة!
- يا سيدي الأرزاق على الله، ماكينة عفية، شابة جاموس تحرث وتحلب، الماركات الأخرى مثل ورق السجائر!
رنات التليفونات النقالة لم تكف ، وصلت دسوق وقلين ، والعزب والقرى والتوابع:
- هل كان مريضا؟
- كان هنا منذ يومينّّّ!
يتأمل الذين لم تسمح ظروفهم بتأدية الواجب، وجوه سكان بلده المدبوغة، يسألونهم:
- صحيح عبد الهادي جمعه مات؟
- الله يرحمه .
تنتابهم حمى المعرفة لكن لا أحد يملك سوى شظايا معلومات ، سقط في الطريق إلى الغيط!.
يتعلق الزبون دائما بعيني عبد الهادي وحين يلمح فيهما القبول تنطفئ حسرته على رزمة الفلوس التي ابتلعتها الخزانة الفولاذية. يومه يبدأ في الغيط -إذا لم يطلبه أحد- ويظل هناك حتى يسمع آذان الظهر ثم يجلس أمام الدار تحت الظلة. تأتيه وجوه غريبة يجرى فيها العشم. يخلع التلفيعة والجلابية ويبقى بالكلسون والفانلة ثم يزعق على منصور فيحمل طست الغسيل بين يديه، يقول له بصوت خفيض:
- هات لترين بنزين.
من حقيبة قماشية تخرج المفاتيح، وبينما تجرى الذراعان النحيلتان فوق العدد والخراطيم تنحل قطعة قطعة وتسقط بصوت مكتوم. يسيل فرحه بالناس أحاديث حلوة يشربونها مع الشاي عن أول آلة ركبت في المبنى الكبير. ينتقل إلى زمن آخر فيلبسه الشباب، وتعلو نبرته. كانت تزفر فيتشمم بشغف الهواء المخلوط بالعبير. لقد ولد ونزل من بطن أمه ليكون بجوارها. سنوات مضت ثم تغيرت الدنيا واشترى العمدة واحدة صغيرة يبرق طلاؤها الأزرق في الشمس. همس لنفسه: معجزة..
لما ألح ابنه لم يجد مفرا من الشراء وترك صديقته في بيتها. الضرة عاشت معه فى الجرن وقال الناس: الزوجة الجديدة لحست عقله! حزن وسهر الليل كله. كلب حي خير من سبع ميت! التقط هذه الحكمة لا يدرى ممن! لكن هل ماتت أم حكم عليها بالإعدام؟. هي التي صنعت منه بنى آدم يتميز على سائر الناس وهمست له ساعات الظهر الأحمر بما يسرها وبما يؤلمها: هل تحتاج إلى تزييت، أو وقود أم أن الشوائب وصلت إلى قلبها؟ ألهمه الله أن يخرط قرصا معدنيا فوق المحرك ليحميه، وولد الاختراع في ورشة بهلول، كلما أخبروه بتهافت الناس عليه يقول بانكسار: أنا لم أفعل شيئا كله بإذن الله. عثر العيال -في أوان هياجهم- على المبنى المهجور فمارسوا فيه قلة الأدب. خبط كفيه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم فك حبيبته القديمة وهدم الجدران، أنكر على نفسه الراحة التي شعر بها بعد ذلك!.
يعود من رحلة الحكايا الحلوة، ويعود معه الرجال الجالسون على الحصيرة يجذبون منها أعوادا من السمار لتخفيف الانفعال.
يمسك القطع بين يديه ويضعها على المشمع، كأنه -بجسمه النحيل ورقبته الطويلة ووجهه المسحوب- كاهن فرعوني ينكب على تحنيط جثة عزيز! .
امتلأ الجسر بالعربات الخاصة والأجرة والدراجات النارية والحمير والأقدام وراء الذى استعار موته من موت الآلات الفجائي، وربت أبناء السوق على كتف منصور ليثبتوا حضورهم!. كان ذلك مناسبة تفلسف فيها المتحذلقون والوعاظ وأفرغت النساء أحزانهن وتاب الخطاة مؤقتا وثرثر الأوباش وبلطجية الانتخابات وحكى التجار لصبيانهم وزوجاتهم وعيالهم. يتعين على البلد الكبير المنتفخ بالفقر والعنطزة وعبادة الماضي أن يلقى الموضوع كله وراء ظهره بعد أيام، و يتأهب لإضافة منصور! وبالفعل خرج الشاب المفجوع ضامرا مكور العينين ليروى ترقيدة الأرز التي نسيت، وأراد أن ينعى جمل المحامل إلى ماكينته الصامتة، لكنه قال لنفسه: لابد أنها تعلم، فكل ما على الأرض يحس و يتألم مثلنا! كانت خواطر مزدحمة عصبية قد مرت في باله و شعر بمرارة في فمه وقلبه.
انحنى وأدارها بكل عزمه راسما نصف دائرة. لم ينطق المحرك !. ظل باردا لا يبالى.
- لم تدر منذ الوفاة لابد أنها تحتاج إلى تسخين.
عاود الكرة مرات ، ثم قفز على اللحف النحيل فانزلقت قدمه الحافية وتركت علامات أصابعها. البادرات بدأت تحترق من الشواظ ، لمعت في ذهنة فكرة الاستعارة ، هز رأسه ليشتتها. ما أن تسمع العرفا عن العطل حتى تستدعى الموضوع لتربط في ذيله الخبر الجديد. سيقلق أبوه وينبض العرق الذي يشبه رقاص الساعة في رقبته وستعمر القعدات ويقول التجار: كنا متأكدين أن حادثا غريبا سيقع. وسيتسلل الولد الذي يراسل جريدة مجهولة ليصور. عاد بالطست والبنزين وقلع هدومه ولعبت أصابعه في بطن الحديد حتى امتلأ الوعاء، سآتي بعد العشاء هادئا وأركبها! .. تعشى ورد على سؤال أمه:
- سقيت؟
- من الصبح!
خرج إلى الجامع، جلس بعيدا عن حلقات المنتظرين. رذاذ كلماتهم -عن الفن الذي ورثه وكيف يمكن تحويله إلى ذهب– أصاب أذنيه! كان يخشى أن تنمو حماستهم إلى حد السخرية من الفقيد، وقتها لن يكون الولد المؤدب الساكت، سيضرب الجعيص فيهم بالجزمة! أنقذه الآذان، ووقف يحاول أن يخلى قلبه لله ، تسارعت شفتاه ترتلان و تبعدان به عن الجامع والعرفا. ختم واستغفر وخطف السكة إلى الغيط حاملا الكلوب. كان ملآنا براحة الصلاة ، وبهجة الموسيقى تعزفها جوقة الضفادع، لم يسمح للكلام المسروق أن يفسد سروره . كان على بعد خطوات من الجرن، سمع صوتا جعله يجفل ويلتفت في ذعر:
- يا الهى !.
تهاوى إلى الأرض لا يشعر بجسده ، كان أبوه بالكلسون والفانلة منحنيا يديرالذراع، فتطقطق الماكينة عدة طقطقات يعقبها الهدير، ثم شلال المياه.

إطلالة نقدية بقلم/د.عبد البارى خطاب
يبدأ القاص بعد العنوان المثير للدهشة " ذبح الموت " ... بدفقة من لغة فنية تصويرية , تضع المتلقى مباشرة فى قلب الحدث ..
" فى وقدة النهار , وصخب الدفن , وطنين الذباب الازرق ..... " وبحرفية متميزة , يصنع متتالية من الرموز الفنية " المفاتيح " . تحدد بوضوح مضمون الرسالة " الهدف " ....
" داهمنى شعورا ان ما يهبطون به ليس جثة , انما عبد الهادى المنهمك فى حياته الجديدة ..."
" القبو القمىء ليس إلا خدعة .... تصرفنا عن رؤية بساتين وأنهار وقصور .... "
" ... بضعة كلاب يزومون وكأنهم يسمعون مالا نسمعه .... لعلها اصوات من نسميهم موتى ترحب بالراحل اليهم ... "
خمسة سطور فى بداية القصة , فيها جمال اللغة الفنية المنتجة للبلاغة , والرموز الفنية المنتجة للمضمون , فى تكامل مع العنوان , الذى هو احد الرموز الفنية لدراما القصة .
سطور قليلة تتشكل منها " قصيصة " ذات رمزية وتكثيف , توضح بجلاء فكرة الكاتب فى ان الموت ماهو الا انتقال من عالم الحياة الارضية الخشنة , الى العالم الاخر , " حيث البساتين والانهار والقصور " , وان من نسميهم موتى , هم فى الحقيقة احياء فى " عالم البرزخ " وانهم " الموتى " يرحبون بالوافد الجديد .....
تلك الفكرة ليست من خيال او " فانتازيا " ... بل من فهم واع للفكر الاسلامى ... ويحضرنى هنا الحديث الشريف " ان نفس المؤمن اذا قبضت تلقاها اهل الرحمة من عباد الله , كما يتلقى البشير فى الدنيا فيقولون : انظروا اخاكم حتى يستريح , فانه كان فى كرب شديد ...." وقول سعيد بن المسيب " اذا مات الرجل استقبله ولده كما يستقبل الغائب "
ثم ينتقل بنا الكاتب الى الزمان والمكان قبل حادثة الدفن ... ليوضح ان عبدالهادى " المتوفى " كان يعمل فى اصلاح ماكينات الرى ... وانه كان رجلا صالحا ..." ... انه وجه السعد وأحد عجائب العرفا التى لاتنقضى ..... " , وان حبه لماكينة الرى يصل لدرجة العشق , وكأنها الزوجة الشابة الجديدة .... الى اخر تلك الاوصاف التى يسردها الكاتب باستفاضة ... ليوضح ان الرجل لم يكن رجلا عاديا .
كما يستطرد الكاتب فى وصف القرية وأهلها ليحدد فكرة فرعية , فى انها القرية – الظالم اهلها – والتى يعيش فيها هذا الرجل الصالح ....ويسر بنا السرد الى فكرة فرعية اخرى , ان منصور ابن الرجل الصالح , رغم انه متعلم ... لم يصل لخبرة الاب الموهوب فى اصلاح وتشغيل ماكينات الرى ......
وتنتهى القصة بالمفاجئة ... حيث وجد منصور اباه المتوفى يدير ماكينة الرى مساء ....
يعود بنا الكاتب فى السطر الاخير الى مفهوم روحانى مرة اخرى , يحمل فى طياته " الفصل والوصل " بين العالم الارضى وعالم البرزخ , فرغم الفصل بين العالمين ... الا ان الاتصال بينهما وارد ... وهى ايضا ليست بفكرة من خيال او " فانتازيا " ولكنها مرتبطة بعلم ماوراء الطبيعة " الميتافيزيقيا " او ما يعرف بالخوارقية .....
لقد نجح الكاتب فى تشكيل بنية جمالية للسرد , وبنية موضوعية فكرية و ثقافية للمضمون ......
وما يزيد من جمالية القصة ايضا امكانية قرائتها من النهاية , لتكون هى البداية ... ويصير العنوان فى هذة الحالة هو نهاية القصة .
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 4 مايو2010م)

*******************
رغيف الخبز
قصة: ابتسام الغريب (المنصورة)


وقفت تفتش في أكياس القمامة . ملابسها رثة . وجهها متسخ . تكاد لا تميز ملامحها . لا يرتسم علي وجهها أي تعبير إلا البراءة . لأول وهلة يخيل إليك أنها امرأة عجوز مع أن عمرها لا يتجاوز العشر سنوات . رائحتها كريهة وبشرتها متقرحة . تعيش دائما بجوار أكوام القمامة لا أحد يلقي لها بالا .
كانت لا تري وسط أكوام القمامة في أحد جوانب الشارع الكبير, وكأنهما اندمجا معا , حتي وجدت رغيف خبز, جاف , متعفن . سال لعابها عليه . أطلت برأسها الأشعث , أخيرا , ممسكة بالرغيف بقبضة فولاذية , اتجهت إلي عمود قريب لتجلس جواره وتستمتع بالوجبه الأولي منذ ثلاثة أيام , وتحدق بعينيها الجاحظتين في السيارات المسرعة التي لا تتوقف أبدا.
ما أن جلست حتي فاجأها كلب كبير, أشعث , قبيح , أطبق فكيه بقوة علي الرغيف . حصل عليه مع أنها قاومت بشدة . جري مسرعا بعرض الشارع ولكن فاجأته أول سيارة مسرعة اصطدم بها بقوة ولم تتوقف.

إطلالة نقدية بقلم/د.عبد البارى خطاب
القصة تشكل لقطة سينمائية صامتة , لطفلة متشردة تعيش وسط اكوام القمامة – وكأن المجتمع لفظها ايضا - .... وجدت رغيف خبز متعفن , جلست لتأكله بعد جوع .... جاء الكلب الشرس واخذه منها عنوة .... فنال جزاءه مصطدما بالسيارات المسرعة .......
من بين ثنايا النص نكتشف المحذوف السردى , والمسكوت عنه , الذى يترك مساحة ايجابية لمشاركة القارىء , من خلال رموز ذات دلالة ابداعية متمثلة فى الاتى على سبيل المثال :
" وجدت رغيف خبز متعفن .." , سال لعابها عليه ..." , " تستمتع بالوجبة الاولى منذ ثلاثة ايام .." .... تلك الرموز تعطى دلالة لمدى الفقر الذى تعانيه تلك البلدة ... حيث القمامة فقيرة .... فرغم ان الفتاة " تعيش دائما بجوار القمامة " لم تجد ما تأكله منذ ثلاثة ايام ... كما ان الكلب ايضا اخذ يقاتل من اجل لقمة خبز جافة ....
هذا المشهد الاخير بين الطفلة والكلب ... استدعى من ذاكرتى مشهد الطفل والكلب عند احمد حميدة فى مجموعته " تراتيل نسج الطواقى " حيث الطفل الجوعان يعطف على الكلب الجوعان ويشاركه اللقيمات
فى تفاصيل النص بعض التضارب مثل .."... تكاد لاتميز ملامحها .." و "... لايرتسم على وجهها اى تعبير الا البراءه ..." مما يتطلب حذف احدهما ....
بشكل عام نجحت الكاتبة فى تشكيل لقطة معبرة عن الواقع الحياتى لمعاناة اطفال الشوارع....

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 4 مايو2010م)

***********************
الوجه الغائب
قصة: فخرى أبو شليب (طنطا)

كنا نسيناه ، لا نعرف له عنوانا منذ زمن بعيد ، يبدو أنه عرف من الصحف ، شد على يدىّ مواسيا بكلمات قليلة دون أن ينظر فى عينى ، جلس فى آخر السرادق واضعا ساقا فوق الأخرى ، بدا قميصه الأبيض كبقعة ضوء وسط بدلات المعزين الداكنة ، شديد الشبه بأبى ،لكنه أكبر بعدة سنوات ، أثناء الفاصل بين تلاوتين للقرآن جلست بجواره ، ليست لديه رغبة فى الحديث عن أحوال العائلة ، كلماته مقتضبة ، هادئة وحزينة ، يكاد يكتفى بالإيماءات ، أبديت رغبتى فى زيارته فقدم لى كارتا به رقم تليفون ، واسمه مجردا من لقب العائلة ، قلت :
- أرجو أن تزورنا قريبا .. ودائما.
- إن شاء الله.
- إخوتى يودون زيارتك ، لكنا لا نعرف العنوان.
انفض السرادق فى وقت متأخر من الليل ، دعوته للمبيت ، على الأقل أوصله إلى محطة القطار . قال بحسم:
- لا داعى.
من كان يلومه لو لم يحضر ! لم نره منذ أيام الجد والجدة ، نتذكره فقط عندما نقلب ألبومات الصور القديمة ، لملمت ذكرياتى البعيدة عنه ، لم تتح له شهادة الابتدائية القديمة سوى وظيفة متواضعة بالحكومة ، يزور بيت العائلة بعد أن تزوج ، تقدم له الجدة غداءً شهيا ، ثم تستأثر به العمة فى الشرفة ، يتحدثان طويلا، ويضحكان كثيرا ، عند انصرافه يُـقَبل يد الجد ، ترافقه الجدة إلى باب الشقة ، تدس فى يده بعض النقود وتعطيه "عامودا" به غداء اليوم التالى .
ذات مساء كانت عندنا ضيفة بدينة ، عند انصرافها قال إنها أتت ومعها الشلتة التى كانت تجلس عليها ، أسرعت العمة إلى الشرفة لتدارى ضحكها ، قالت الجدة :
- الله يجازى شيطانك.
كان نحيلا ً ، كما هو الآن ، متوسط القامة ، شديد العناية بمظهره ، يرتدى ساعة ذات ميناء سوداء وأرقام فوسفورية وسوار معدنى يتسع على رسغه ، يحرك ذراعه بسرعة فيستدير السوار كى يستطيع أن يعرف الوقت. يفخر بأنه يسافر بالقطار مجانا إلى أى مدينة يشاء ، أرانى كارنيه مصلحة السكة الحديد.
لا أعتقد أن أحدا سواى كان يعرف عنوان بيت عزوبيته الذى استأجره عند إحدى ضواحى المدينة ، اصطحبنى إلى هناك ذات يوم وفاءً لوعده عندما أكون فى "المسامحة" التى نقضيها ببيت العائلة . تبادل مرة نخبا مع أبى - بعيدا عن الجد والجدة - فى كأسين صغيرتين مملوئتين حتى المنتصف بسائل شفاف قال إنه زبيب ، صاح عند اصطكاك الكأسين : إسّـو . سألته عن معنى الكلمة ، ضحك وأعطانى رشفة من كأسه لها طعم الينسون المخلوط بالشطة ، بعدها أحسست كأنى أجر جفنـّى.
بيته صالة واسعة تنبعث رائحة الياسمين من أصص صغيرة بها ، عند نهايتها درج خشبى دون سياج يؤدى إلى الطابق الثانى المكون من حجرة ملحق بها حمام ومطبخ ، الأثاث مقعدان من الخيزران وسرير سفرى ودولاب خشبى قديم ، وطاولة صغيرة فرد جريدة على مفرشها الأبيض قبل أن يقدم لى الغداء.
كان يحمل مسدسا صغيرا ً سمح لى أن أطلق منه طلقتين ، أيامها كانت الثورة فى بدايتها ، وكان منضما لهيئة التحرير ، حدثنى بإعجاب عن ضابطين برتبة صاغ كأنى أعرفهما ، فى المساء اصطحبنى إلى مأدبة أقامتها الهيئة بأحد الكازينوهات المطلة على النيل ، جلست بين رجال مختلفى الأعمار يرتدون ملابس عسكرية ، بعضهم تخلو أكتافه من الرتب ، وعند رأس المائدة اثنان على أكتافهما نسور معدنية ، خمنت أنهما من حدثنى عنهما.
آخر مرة رأيت العم كنت فى الثانية عشرة من عمرى ، ثم سافرت أسرتى الصغيرة إلى السعودية حيث أعير أبى إلى إحدى جامعاتها. لاحظت تلك المرة أن ملابسه اتسعت قليلا ، وأن ألوانها اقتربت كثيرا مما كان يرتديه أبى. فى أول أجازاتنا السنوية صار بيت الجد موصدا ، واستقرت العمة مع زوجها بإنجلترا، أعتدنا أن نقضى إجازاتنا التالية في المصيف وزيارة بعض أقارب أمى والاستعداد للعودة للسعودية . تسأل عنه العمة فى زياراتها المتباعدة للوطن فلا تظفر بإجابة ، كفت عن السؤال بعد سنوات قلائل ، لم نره حتى اليوم الذي عرف فيه من الصحف.
أظن أنه سيأتي في ذكرى الأربعين ، حينئذ يكاد الأمر يقتصر على أفراد الأسرة ، يجتمعون بالبيت وقد تحرروا من مظاهر الحداد ، يتبادلون أحاديث عائلية لا تخلو من دعابات ، ستتاح الفرصة لحديث أكثر حميمية ، سنعرف ما صارت إليه أحواله. جاءت العمة ولم تصدق أنه جاء معزيا ، سألتنى عن شكله ، صحته ، زوجته ، أولاده ، عنوانه ...
سافرت وهى أكثر حزنا كأنها فقدت الأخوين فى وقت واحد ، أوصتنى أن أجده بسرعة وبأية وسيلة.
عند الضاحية التي اصطحبني إليها صغيرا لم يكن هناك ما يشبه الصورة التي في خيالي ، المكان مثل قلب المدينة ، ساكنوه لا يعرفون بعضهم البعض ، تجولت حتى الظهيرة ، لم أسأل أحدا ، سيكون سؤالى أشبه بمن أرسل خطابا إلى ابنه فكتب على المظروف "ولدى بالقاهرة". الكارت يغفل ذكر العائلة والتليفون ليس له وجود ، الاسم يحمله آلاف من الرجال : أحمد فؤاد محمد. ومض الحل فى ذهنى عند صلاة الظهر ، قصدت هيئة التأمينات والمعاشات ، ظهر العنوان كاملا على شاشة الكمبيوتر ، مساكن السلام ، بلوك 12 شقة 4 .
عند بيته تكاثر الأطفال حول سيارتى ، ساكنة الطابق الأرضى امرأة ضئيلة الحجم شاحبة البشرة ، تبيع الصابون والسكر والشاى والسجائر من شباكها الواطئ ، أوصيتها بالسيارة ، أنصت فلم أسمع للجرس صوتاً ، طرقت الباب مرتين ، فتحه شاب فى العشرين يرتدى بنطلون بيجاما وفانلة بها ثقب عند موضع الكبد ، أجلسنى بالصالة الصغيرة ، بها أريكة ومقعدان ، فى ركنها مكتب معدنى صغير عليه بعض المراجع الأجنبية ، شممت رائحة الياسمين تنبعث من الشرفة الصغيرة ، قال إن العم حدثه عنى كثيراً ، أطلعنى على صور قديمة للعائلة من بينها صورة لى معه في حديقة الحيوان ، بعد دقائق قدمت لى القهوة سيدة تتشح بالسواد.


إطلالة نقدية بقلم/د.عبد البارى خطاب
هى حكاية الابن الاكبر الذى لم يكمل تعليمه , ينتمى لاسرة ميسورة الحال .... ونظرا للفارق المادى والاجتماعى بينه وبين شقيقه وشقيقته ... اختفى واختفت اخباره ... حتى جاء معزيا فى وفاة شقيقه .....
غرق الكاتب فى تفاصيل لاداعى لها ... " زيارة الضيفة البدينة " , انخاب الزبيب ..." المسدس واطلاق الرصاص " ضباط الثورة والرتب " , ساكنة الطابق الارضى ضئيلة الحجم شاحبة البشرة , تبيع الشاى والسكر والسجائر ....." الخ ... فانفلت منه خيط الحبكة الدرامية للقصة القصيرة...
للكاتب موهبة فى السرد السهل ودقة فى ملاحظة التفاصيل قادرة على إنتاج قصة جيدة.
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 4 مايو2010م)

*****************
بيتزا...
قصة: وائل وجدي (القاهرة)

دوامات العمل لا تنتهي. تنوء بحملك الثقيل، حقيبتك مهترأة، متخمة بالخطابات، تحملها من شارع إلى شارع. حر، برد، مطر لا يهم. المهم - من وجهة نظر رئيسك - أن تحافظ على الأسرار التي تحملها. ولا عليك سوى أن تهز رأسك، وتمتثل. تتمنى أن تترك العمل بهيئة البريد لكن الأبواب موصدة...
اليوم، تشعر بسعادة - على غير العادة - رغم أن صروف الحياة كما هي، تصحو من نومك مبتهجًا كأنك عائد من رحلة غامضة حول الأرض في كبسولة، إحساس يقلقك لكنك فرح به.
على فورك، تقرر أن تتخلص من حملك اليومي، لن تذهب إلى العمل، يوم واحد تشعر فيه بكسر الروتين ودوائره اللانهائية. ستخرج من حوائط شقتك الباردة، تسعى أن تقوم بأي شيء تحبه من غير أوامر، تكبل يومك في شرنقة لا تستطيع اختراق خيوطها مهما حاولت. قبل أن تصفع باب شقتك، تتحسس جيبك، وتطمئن أنك لم تنس حافزك الشهري، ستصرفه بأكمله مهما كانت العواقب.
مرة واحدة تفعل أمرًا تحبه. تحفظ الشوارع بأشجارها وحفرها. كل المعالم تضعها في رأسك، كل شارع له رائحة تختلف عن غيره، تميزه بمنخاريك. في أحايين تكره شارعًا، تضطر أن تسير فيه، لكن - الآن - لن تجبر على شيء لا تحبه. أنفك يقودك إلى شارع تحبه، تولع برائحته، لا تعرف بالتحديد ما هو السبب في شعورك الطاغي؟ كل ما تعيه أنك تحس إحساسًا مختلفًا عن معظم الشوارع التي تمر عليها - يوميًا - تحلم أن تصبح الشوارع مثل هذا الشارع الأثير لأنفك وروحك في آن.
لا تفعل سوى تتأمل الوجوه والأجساد المارة أمامك أو بجانبك، تملي عينيك بالجمال، الذي لا تراه في يومك - المعتاد - نهد يكاد أن يفط من مكمنه، بسمة، لفته، ضحكة، تشعر أنك إنسان له قلب ومشاعر، يهفو إلى حضن يضمه يطبطب عليه، يخفف عنه حمله الذي يزيد باطراد غريب.
كثرة المشي، ترهقك، تحتاج أن تجلس في مكان ما، معدتك تؤلمك من الجوع، لن تأكل ما تألفه كل يوم الفول، الطعمية والباذنجان المقلي. عندما تتصفح الجرائد من زملائك أثناء توزيع الخطابات، تلمح إعلانًا عن "البيتزا"، وخصائص المكونات وأسعارها التي تجعلك لا تفكر على تذوقها، لكن - اليوم- لا أسعار ولا شيء يوقفك عن تجربة ما تريد.
تدخل محل "البيتزا"، تصطنع ابتسامة بلهاء، تجلس على أقرب منضدة صادفتك، لم تهتم بالقعود وسط مدخنين أو غيره. المهم أن ترتاح وتأكل. تطلب "بيتزا" الخضروات، تجربها مرة في حياتك، تعود إلى تأملك، تشعر أنك غريب وسط كائنات أخرى، من يريد أن يرفع صوته أو ضحكاته - الهستيرية - لا غضاضة، من تريد أن تنام على صدر من معها أو تحضنه لا مانع، شاب يهدهد شفايف رفيقته بأصابعه، يضع يده بين فخذيها... تذوب وتذوب، وتتلاشى وسط الوجوه والمناضد، والضجيج...

إطلالة نقدية بقلم/د.عبد البارى خطاب
هى قصة شديدة الارتباط بالواقع الحياتى لساعى البريد الغارق فى دوامة العمل الروتينى الذى يكرهه .. لكنه مجبر " فالابواب موصدة " .. كما يعيش الوحدة فى شقته الباردة .
تأتيه لحظة سعادة " على غير العادة " حيث قرر عدم الذهاب للعمل ليوم واحد ... وصرف حافزه الشهرى على وجبة بيتزا , ليجربها ولو لمرة واحدة فى حياته ........
من خلال نسج التفاصيل الدقيقة للشوارع , واستخدام حواس الرؤية والرائحة , واضافة الظلال لتشكيل صورة فنية للواقع ... وبمساعدة الحوار الداخلى , واظهار التناقضات داخل المجتمع .... تمكن الكاتب بدرجة ما من التأثير على القارىء .
ولكن استخدام ضمير المخاطب فى هذه الحالة لم يكن على نفس الدرجة من التوفيق خاصة فى حالة الحوار الداخلى .
ولكنه كان موفقا فى وضع نهاية مفتوحة للقصة " ...تذوب وتذوب وتتلاشى وسط الوجوه والمناضد ... " فهل المقصود هنا تلك الفتاة مع رفيقها .... ام انه يوجه حديثه لساعى البريد... مستخدما ضمير المخاطب ... حيث ان النهاية المفتوحة تجعل المتلقى مشاركا فى تصوير باقى الحكاية حسبما يتمنى .
(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 4 مايو2010م)
*************************
تقاطـــــــع
قصة: سعيد عبد الموجود (كفر الدوار)


تواجها بالمصادفة .
- سيجارة ؟
- لا لا إننا لا ندخن .
كان الأول قد شرع يتجول في الساحة الرملية بين المباني والسور الخرساني المرتفع منفردا عن زملائه الذين خرج معهم منذ قليل وكان الأخر يدور بلا هدف بجوار أقرانه المكومين في ركن من الساحة بأرديتهم الداكنة ولحاهم السوداء ، أشعل الأول سيجارته منحنيا على نفسه متفاديا الهواء البارد الذي لا يفتأ يثور ، أخذ نفسه الأول :
- لماذا أتوا بكم إلي هنا ؟ .. إنهم لا يحتجزوننا معا !
وضحك ، ابتسم الأخر ابتسامة ذابلة :
- إنهم يرحلوننا .. يرحلوننا من مكان إلي أخر كل حين .
- سحب الأول نفسه الثاني :
- منذ متي وهم يحتجزونك ؟
- ثلاث سنوات .. وأنت ؟
- ستة أشهر .
ثار الهواء ، لفحهما برطوبته وذرات الرمل التي أثارها ، مسح الأول بشرته الملساء وسوي شعره الرهيف الذي بعثره الهواء ، خلع نظارته السميكة ليمسحها ، بدت عيناه متورمتين ومجهدتين بدون النظارة وراح الأخر ينفض ذرات الرمل عن وجهه المرهق المدفون في لحيته الكثة ، سأل الأول :
- لماذا ؟
صمت الأخر طويلا محدقا في وجه الأول وعينيه ، أخيرا تمتم :
- لا يصدقون أننا هجرنا كل شيء ! .. وأنت ؟
- غضبوا لأننا نزلنا إلي الشارع مع الآخرين . ومط شفتيه بسخرية ممزوجة بمرارة :
- :- ويعتبرون بياناتنا السياسية منشورات سرية !
ثار الهواء ثانية ، راح الأخر يمسح حبات رمل استقرت في ذاويتي عينيه واختلطت بمائهما ، أخرج الأول كيس مناديل ورقية من جيب سترته ، سحب واحدا منه ، ناوله الآخر وراح هو يمسح عدستي نظارته ، سأله الأخر :
- هل يسمحون لكم بزيارات عائلية ؟
- لا .
سكت برهة ثم أردف :
- فقط لمحامين من الحزب .. وأحيانا يأتي البعض من حقوق الإنسان .
تطلع إليه الأخر بدهشة ، أعاد الأول نظارته التي مسحها ، عاد يسحب أنفاس سيجارته
- وأنتم ؟
مسح الآخر ماء عينيه الذي سال على وجهه وشعر لحيته ، حدق في الفراغ الأصفر طويلا ، أخيرا تمتم بأسي :
- لا يدلون ذوينا على أماكننا .
مرت لحظات من الصمت كسرها الأخر إذ أخرج زجاجة عطر صغيرة من جيب سترته وسحب راحتى الأول وفردهما ، مرر عليهما فوهة زجاجته ، فعل نفس الشيء لنفسه ومسح وجهه ولحيته ، فاحت رائحة مسك نفاذة ، ابتسم الأول :
- شكرا .
ورمي عقب سيجارته التي نفذت وسأل الأخر :
- وكيف يـ .. ؟
تاهت نظرة الأخر في الأفق البعيد ، شرد طويلا أخيرا قال :
- ذات مرة وقفت على رجلي ووجهي إلي الحائط عشر ساعات .
صمت قليلا ثم أردف :
- يومها صليت الظهر والعصر وأنا على هذا الوضع .
- ثم سأل :
- - وأنتم ؟
- ثمة تجاوزات دائما ونحن نحتج .
بدا الاستغراب على وجه الآخر ، أخرج عود سواك نظف به أسنانه ثم مد يده في جيب سرواله ، أخرج تمرات مدها إلي الأول الذي نظر إليه متساءلا فقال :
- لا يعدم الأمر حراس ريفيون طيبون يوصلون لنا مثل هذه الأشياء .
ثم أردف وهو يبتسم ابتسامة شاحبة :
- ثمة بشر دائما .
راحا يلوكان التمرات ، سأل :
- كم مرة يسمحون لكم بالتجول خارج العنابر ؟
- مرة في الأسبوع .. ساعة واحدة وأنتم ؟
- نادرا .
ثار الهواء مرة أخري ، أكثر عنفا هذه المرة ، دفعهما بشدة ، تشبث كل منهما بذراع الأخر متنحين عن اتجاهه ، سكن الهواء فاستقرا ، مد الأول يده في جيب سترته ، أخرجها مطوية على بعض أوراق نقدية مدها بهم إلي جيب سترة الأخر :
- دعهم معك .
- لا لا
فيما راح يحاول رد يده باستماتة :
- لا نحتاج للنقود كثيرا .. ربما تحتاجهم أكثر .
صمم الأول بالحاج :
- تأتينا النقود .
أخيرا كف الأخر عن رد يده ، تملكتهما لحظة صمت ، فجأة هتف احدهما :
- لم نتعرف !
- ياااه .. فعلا !
- لحظتها انتبها على مرأى الحارس الذي اندفع إليهم شاهرا رشاشه آمرا الأول بالابتعاد دافعا الأخر إلي قطيع زملائه الذين صفوهم استعدادا للتحرك.

إطلالة نقدية بقلم/د.عبد البارى خطاب

بداية القصة مثيرة , عبارة عن حوار يثير الدهشة
_ سيجارة ؟
_ لا لا نحن لاندخن
كلمة نحن هنا احد الرموز الهامة التى يستخدمها الكاتب بحرفية عالية ...
ثم ينتقل سريعا لوصف تسجيلى للقطة عادية , حين التقى السجينان مصادفة داخل السجن , مستخدما تعبير الاول وتعبير الاخر للتمييز بينهما ... رغم وجود فوارق كثيرة , كان يمكن للكاتب ان يستخدمها ...
الجدير بالملاحظة هنا عزف الكاتب بتميز على الارقام ... " اخذ نفسه الاول ... " , " سحب الاول نفسه الثانى .." , " ثلاث سنوات " , " ستة اشهر " , " عشر ساعات " ...
ثم يأخذ الكاتب فى تكوين الاطار المادى لحركة الشخصيات وانفعالاتها مستخدما حركة الهواء للوصول الى هدفه ... وهو الدخول فى مكنون النفس البشرية وقت الشدة ...
" اشعل الاول سيجارته منحنيا على نفسه .. "
" ثار الهواء . لفحهما برطوبته ............."
" ثار الهواء ثانية , راح الاخر يمسح حبات رمل استقرت فى زاويتى عينيه ......... فأخرج الاول كيس مناديل ورقية ..... ناوله للاخر
ثار الهواء مرة اخرى , اكثر عنفا , دفعهما بشدة , تشبث كل منهما بذراع الاخر ... سكن الهواء فاستقرا .."
الجدير بالذكر هنا ان الحوار والسرد يشتركان معا فى بناء حبكة القصة فى تناغم بديع .
واخيرا نطل على العنوان " تقاطع " كرمز درامى للقصة وهدف اساسى للسرد ... فرغم ان السجينان من معارضى السلطة ... الا انها تفرق بينهما فى المعاملة داخل السجن ... هذا من ناحية , ومن ناحية اخرى فان المجموعتان متعارضتان فى الافكار والتوجهات لدرجة لايمكن لهما الالتقاء ... فأصبح التقاطع هو التعبير الفنى الهندسى المعبر للحظة اللقاء العابرة تلك ... وهنا يترك الكاتب مساحة لمشاركة القارىء , باستخدام فن المحذوف السردى ... ليحصل القارىء على متعة اكمال فراغ فضاء النص .

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 4 مايو2010م)

الجمعة، 14 مايو 2010

الثلاثاء 27 أبريل 2010م.


أصوات قصصية شابة بمختبرالسرديات بمكتبة الإسكندرية
فى محاولة لإلقاء الضوء على المبدعين الواعدين من شباب الحركة الإبداعية بالإسكندرية نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 إبريل ندوة بعنوان "أصوات قصصية شابة" حيث ناقش الأديب خالد السروجى الحائز على جائزة الدولة التشجيعية أعمال بعض الأصوات القصصية الشابة فى الإسكندرية، وهى قصص "لأنك تصل متأخرًا" لإيناس حليم، "طفولة" لشريف محمد أنور، "شهادة وفاة" لمحمد أنيس، "أمور قديمة" لمحمود حسن، "رداء يصلح لجنازات" لهبة خميس. أكد خالد السروجى أن ظهور جيل جديد في كتابة القصة، يعنى أملا جديدا في منجز جديد، حتي ولو كان علي شكل فردي، يتخطي ما أنجزته الأجيال السابقة، إذ يكفي قاص أو اثنان من كل كتيبة صاعدة، فعلي صعيد التراكم سيصبح لدينا حركة قصصية ثرية، فليس مطلوبا أن يبدأ هذا الجيل عملاقا كما بدأ يوسف إدريس، فنحن نقبل التصاعد والاختلاف والبحث عن الصوت الخاص، وأن يتقدم القاص خطوة للأمام مع كل قصة يكتبها. وأشار منير عتيبة مدير المختبر إلى أن القصص التى تمت قراءتها والتعليق عليها فى الندوة تشير إلى أن الجيل الجديد يمتلك ثقافة حقيقية، ومعرفة جيدة بالنوع الأدبى الذى يتعرض له، ويأخذ الأمر بجدية مبشرة. وقدم عتيبة الشكر للأديب الشاب محمد العبادى لمساهمته الفعالة فى الإعداد لهذه الندوة. أثارت الندوة العديد من القضايا الخلافية التى ظلت مفتوحة حيث من الصعب أن تقال الكلمة الأخيرة فيها مثل جدلية الفصحى/العامية فى القصة القصيرة، ومدى ضورة وأهمية الخلفية الثقافية للكاتب عندما يتناول فى عمله القصصى فكرة لها علاقة بأحداث أو أفكار تاريخية، وهل ماتت القصة القصيرة وأصبح الزمن حقا زمن الرواية فقط؟ وهل للأدب تأثير حقيقى فى المجتمع حاليا ولديه القدرة على تغييره؟
***********************
رداء يصلح لجنازات
قصة: هبة خميس

حُلم آخر هاجمها تلك الليلة، حلم أشعلته هدأة الليل الساكن حولها، والألحان الخارجة من جوقة الصمت المُترددة في الأجواء.
استفاقت من نومها فزعة بأجفان ثقيلة ورأس مشوش، تجاهلت مرآتها وأعدت قهوة صباحاتها السوداء الثقيلة، قعدت تحتسيها في
شرفتها المُطلة على عمائر لّونها السواد وحجب الجمال عنها.
تجاهلت مرآها كلها وركزت على شُرفة بعينها، مَنشر أسود وأحبال وسخة يرفرف عليها رداء أسود طويل مُطرز بورود سوداء، ورود
كبيرة فجة تبتلع الرداء بأكمله تبدو كرقعات من الذباب المتزاحم حول نواة سُكرية.
دائماً هو مُعلق هكذا، يختفي فقط للحظات كل يوم ويعود لأحباله مرة أخرى بحِمل أثقل.
تود لو ترى صاحبته مرة واحدة، وتمضي في تساؤلاتها اليومية:
أهي طويلة بطول الرداء؟ أم قصيرة ترفعه فوق وسطها بحزام تخفيه في طياته مثلما كانت تفعل أمها بقصرها الشديد؟.
عجوز هي ويستريح شعرها الرمادي على أكتافه السوداء؟ أم شابة تُعود نفسها الصبر على مرارة الفقد؟.
مِسكينة هي؟ أم امرأة اعتادت خوض الجنازات برداء فج كندّابة القرية؟.
ستترك أحلامها وهموم عالقة بذكراها دفعة واحدة لترقب الرداء وصاحبته، ستقول لنفسها هو يوم وبعده أعود لتشاغلي الدائم عنه
وعن الشرفة، وفي نهاية اليوم ستقسم على ألا تعود للشرفة، وستزداد الأيام التي تكسر فيها قسمها.
الشرفة أصبحت مهجورة أسودها قاتم والرداء الأسود استحال أسوده لرمادي مُترب.
عندما أدركت أن صاحبته هجرته ونسيت وضعه المُعلق كبندول مُعذب أشاحت بوجهها عنه وعن الشرفة والأيام التي قضتها تنظرها
بردائها الأسود.
لو استبدلت حذائها المسطح بحذاء أعلى ولو ببضع سنتيمترات فقط،
ربما ..
سترى أكياس الزينة الشفافة المُستقرة على أرضية الشرفة المُتربة، أكياس كبيرة منتفخة تحوي كل الألوان داخلها، ألوان فاقعة
ومبهجة تجذب أنظارها لمراقبة تغير درجاتها خلال اليوم، وتنسج من نظراتها عالم لا يوجد للأسود مكان فيه.
قراءة نقدية بقلم الأديب/خالد السروجى
سبق لي أن اطلعت علي قصة لهبة خميس, وأعجبتني, لذلك أبدى بعض ملاحظات على قصتها هذه من منطلق أنها كاتبة تستطيع أن
تكتب قصصا جيدة.
فمن غير الممكن أن أجد في صفحة واحدة هذا الكم الهائل من علامات الاستفهام الصريحة , والمستترة , أغلبها غير مبرر ,
هناك المسحة الإنسانية في الموقف الأساسي للقصة , وكان بإمكان هبة أن تجعلني أكثر تعاطفا مع شخصية القصة بالاستغناء عن
الكم الهائل من علامات الاستفهام , حتي لو اعتبرنا أن القصة برمتها هي علامة استفهام كبيرة.
ربما كان بعض الغموض مبررا . كما أن هناك مناطق فنية ممتعة مثل المرأة التي لا تنظر إلي المرآه , وبالتالي لاتري آثار العمر علي
وجهها , ولا حتي ملابسها ...
ويعود بنا الأمر إلي علامات الاستفهام ليكون كلامي – رغما عني- علامات استفهام ..هل الرداء الأسود يخص ذات المرأة ؟ خاصة
أنها أثناء النظر في البلكونة , فإن البعد في حد ذاته نسبي ..هل هي تري ملابسها شخصيا (رداء الجنازات) والذي يختفي ويعود ,
وهي من يستعمله خاصة وهناك إشارة إلي أمها الميتة؟
استعملت هبة يونس كل الأزمنة في قصتها التي أمامنا ( هاجمها-السكن- الأحلام الخارجة- استفاقت-تجاهلت دائما هو معلق-مثلما كانت امها تفعل بقصرها الشديد-ستقسم –ستترك-ستقول-ستقسم-أدركت)
الواضح من تكرارالمعني أنها تعاني القصر كأمها وهو تكرار ربما يفيد التأكيد , وهذا القصر هو الذي ربما لم يجعلها تري بلكونتها , ورداءها الأسود , إضافة إلي تمنياتها بأنها لو كانت أطول قليلا , وهو ما يفيد قصر مجال الرؤية أمامها.

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 ابريل2010م)
********************
طفولة
قصة: شريف محمد أنور


فى الممر الضيق بين السور الأصفر العالى ، وحمامات المدرسة .. كان يجلس ينظر من خلف جدار الحمامات البعيد ، بحذر شديد، إلى الوجوه البغيضة التى تبحث عن متعتها اليومية فى صباحات المدرسة المملة.
من بعيد يرى الفتى الذى قطع له زر المريلة العلوى بالأمس يقترب منه فيجفل عائداً خلف الجدار يختبئ.
رائحة البول المختلط بطين الحمامات يصيبه بالغثيان، فيعيد ما تبقى من الساندويتش الصغير إلى جيب المريلة.
ينظر إلى الجرح الكبير فى جانب حذائه..
الخياطة المتينة لم تجعله (أحسن مية مرة) من الجديد -كما وعدته أمه- بل حتى إنها لم تشفع له أمام الأوغاد الذين تهكموا عليه ، حتى البدين (الفشلة) الذى يقبع آخر الفصل ضحك كثيراً حين رآه.
خلع الحذاء ووضعه إلى جواره ، رفع سبابة وإبهام يده اليمنى التى يجديد التصويب بها ، وصنع منها مسدسا صغيراً يطلق منه رصاصات خفية على رؤوس الأوغاد.
يصوب نحو (الفشلة) فيسقط..
يصوب نحو الفتى الذى قطع أزرار المريلة .. فيسقط..
على مدرس الحساب الذى ضربه (بسيف المسطرة) عقاباً على الكراس الذى لم يأت .. فيسقط
ويستمر حتى يمتلئ الفناء بجثثهم.
يعيد الحذاء إلى قدمه ، ينظر إلى الدماء التى تسيل بالقرب منه ... ويبتسم.

قراءة نقدية بقلم الأديب/خالد السروجى
فى قصة طفولة لشريف محمد أنور نرى التلميذ الضعيف , يمارس الانتقام الذي لايستطيعه جسديا, باصطناع مسدس وهمي من إصبعه يقتل به أعداءه, لكنه دائما يضرب ويسقط , ويعجز عن فعل شئ , والقصة في مجملها جميلة , لولا بعض الأشياء غير المبررة ,مثل مراقبته للتلاميذ وهم يمارسون متعتهم – يفهم أنها العادة السرية- من خلف ابواب الحمامات, وما من وسيلة لرؤية هذا سوي سماع تأوهات أو وجود كوة في الباب يستطيع عن طريقهما أن يري أو يسمع.

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 ابريل2010م)
***********************
شهادة وفاة
قصة: محمد أنيس

لم تكن خطواته المتثاقلة وهو يتجه عائدا إلى منزله تشكو جسده من عمل شاق قام به, بل كانت زفير ألم أحس به قلبه وصرخ به، فشاطرته قدماه أحزانه بالتثاقل والتباطؤ الملحوظ.
وما أن عاد وأدار مزلاج باب الشقة حتى اتجه مباشرة إلى حجرته وارتمى بلا إرادة على مخدعه..
زفرات وآهات مكبوتة ومكتومة فى صدره استطاعت أن تشق حاجز الصوت ونخترقه، وانطلقت لتعبر عما يجيش به وتخفف مما يحمله.
أخرج من جيبه خاتم الخطوبة الذهبى وظل ينظر إليه ويطيل النظر.. هذه هى الدبلة الرابعة فى حياته التى تعود من يد صاحبتها إلى يده..
يقول فى نفسه لا شك أن العيب فيه .. لا شك أنه فشل فى فهم عقولهن فضلا عن أسر قلوبهن..
قام من سريره ونظر فى المرآة وأطال النظر ... وأخذ يتصنع الابتسام ويتساءل هل ظلى ثقيل عليهن لهذه الدرجة..؟
تحولت الابتسامة إلى ضحكة هستيرية واستدار معها دورة كاملة وكأنه يرقص وأخذ يدور ويدور بطريقة عجيبة. حتى هوى على السرير مرة ثانية وأغمض عينيه التى فاضت بالدموع.. ومع سقوطه النفسي سقط جسده مغشيا عليه فى نوم ليل طويل .
وهنا تسابقت الشياطين والملائكة نحوه تتجاذبانه كل من جهته على طرفى نقيض.. لكن الملائكة وبكل قوتها استعانت بالله فظفرت به وحملته طائرة إلى رؤيا حق هتفت بهاتفها فى قلبه..
قم أيها الفتى، قم واستره قم واقبره ...
لا يرضي الله أن يظل المسكين فى العراء ....
قم أيها الفتى
قم.
سمع الفتى هذه النداءات بأصواتها الهادئة ففزع وانتفض ..
ولطبيعة عمله كطبيب فى مشرحة أدرك للحظة أنها أضغاثه اليومية التى لا يفرق هو فيها بين الحقيقي والمتخفى فى ثوب الكوابيس...
عيناه التى لا تري إلا جثث القتلى والمصابين اعتادت هذه الصور.. وأذنه ألفت مثل هذه النداءات.. فلم يأبه بها ولم يكترث . وهب واقفا والتثاقل والهم ما زالا يقيدانه ويسيطران عليه.
ارتدى ملابسه وفر إلى عمله.. وكأنه يهرب مما حدث له ليلة أمس .
وفى العمل دخل غرفته وارتدى الثوب الأبيض ومارس عمله كالمعتاد بكل نشاط ودقة ..
ولاحظ بعض زملائه خلو يده من خاتم الخطوبة .
فكانوا يسألونه وهو لا يجيب إلا بابتسامته الرقيقة المصطنعة .
ظل الألم يعتصره طوال اليوم حتى أسره الليل دون أن يدرى . فاختار النيل رفيقا له إلى أن وصل إلي بيته..
وفجأة داهمه التفكير فى رؤية الأمس ..
ترى هل هى رؤية صادقة؟
أم هى نزغ من الشيطان؟
ظل فى خواطره يكتب ويشطب ويمحو ويثبت ...
حتى غلبه النوم ..
وجاءه الهاتف ...
اسجد اقترب ... استر قلبك
استر حبك
ادفنه وادفع عنه الألم..
واسجد لله
واقترب
هب قلبك لصاحب القلب ..
وادفع حبك لواهب الحب ..
ولا تنسي أن تقبره ..
لا تنسي أن تدفنه .
انتهى عصره ... واندثرت أيامه ..
ساعات ويرفعه من أوجده ..لا تنسي أن تبحث عنه ...
فقط لتنقذه من العراء ...لتكرمه
فإكرام الميت دفنه.. إكرام الميت دفنه ...
سكن الصوت .. واستيقظ الفتى ... منزعجا منهكا ... والهاتف يصدع فى أذنه وأذان الفجر يتردد.. وخيل إليه أن المؤذن يقول له نفس الكلمات ..
إكرام الميت دفنه ...
مرة ثانيه تراوده نفس النداءات التى لا معنى لها ...
هل هى إشارة من الله حتى أعود اليه ؟ إننى فعلا ابتعدت عنه.
زفر زفرة بحنان المتضرع .... رافعا وجهه للسماء
ربي ...
نطق بها واستيقظت به كل حواس الروح ...
وانطلقت لتحلق بهذا الجسد من الركون للرغبة إلى التحليق فى مراتب القرب وإلى منازل السكينة والاطمئنان..
مرت الأيام والشهور وانقطع عنه وحيه واحتجبت رؤاه.. حتى قابلته هواتفه بحسم وقوة ذات ليلة ..
قم يا فتى وتسلم الشهادة ...
شهادة الوفاة لصاحبك ...
اذا تسلمتها سكن وهدأ ...
اذا تسلمتها بحقها فقد أرحته ..
لم يتمالك الفتى نفسه وهو على سريره ..
وارتعد وهو يري بعينيه الملك ..
ويغمضها ليسمع هاتفه بوضوح ...
خذها وتسلمها ... خذها بحقها ....
صرخ الفتى ولأول مرة ....
من أنت ؟
وما حقها؟
قالها والانفصام عن اليقظة ما زال يسيطر عليه.
قام منتفضا واقفا فى حركة واحدة.. نظر إلى دولاب ملابسه وهو يثاقل ويقاوم ليفتح عينيه. ارتدى بدلته السوداء. وانطلق ليتمم اجراءات الدفن. ويأخذ التصريح وشهادة الوفاة. واختار المنظمة الكبرى مكانا للعزاء . نعم سافر إليها. وفى قلبه مرارة الفراق لصاحبه. ولسان حاله يتمتم فى حداده .....
رحمك الله يا......

قراءة نقدية بقلم الأديب/خالد السروجى
تشير قصة محمد أنيس هذه إلى أهم ما يمتلكه، اللغة الواضحة الطيعة، واهتمامه بالفكرة التى يرغب فى التعبير عنها، وقد تمثلت مشاكل القصة الأساسية فى ميزات الكاتب نفسها، حيث ترك الفكرة واللغة تقودان القصة معطيا لهما دورا أكبر من الدور الذى يجب أن يلعباه فى أى قصة.
لكنه بدأ بمشكلة واقعية , رجل يعمل في المشرحة , وتفسخ خطوبته من جانب واحد , ويمكنني أن أفهم أو أخمن السبب وراء ذلك وهو ربما التشاؤم من جانب الخطيبات من جراء عمله المثير للتشاؤم... وكان بإمكانه أن ياخذ بالقصة منحي آخر غير ما أخذه ... إذا دخل في تهويمات وأحلام ورؤي ذات طابع ديني أخذتني بعيدا وصنعت حاجزا بين ما سبق وما صنع. أخذ من الرؤي العلوية , وهواتف , وملائكة وشياطين , واستعمل ألفاظا قرآنية أو مستوحاة منها , لم أستطع أن أفهم لزومها في القصة , ما حدث أنني انفصلت عن الجزء الأول من القصة , لأدخل في تهويمات لا تخدم القصة بل تحير القارئ ,كان الأمر سيكون أقل وطأة لو استعمل ألفاظا مثل النور والظلمة بدلا من الملائكة والشياطين... في القصة تناقض بين ألفته للهاتف العلوي و فزعه منه , كما أن استعماله للفظ "رؤية "بدلا من رويا" أثار الالتباس أيضا.
ثم يأتي في النهاية ليعود لجزء بعيد تماما عما سبق , إذ يختار المنظمة الكبري لإقامة عزاء أصحابه, والأغلب هي منظمة كالأمم المتحدة...
وينهي قصته بعبارة:
" رحمك الله يا ......"
ويفهم من الفراغ أنها رحمك الله يا وطني , بربطها بما سبق, فنحن هنا أمام ثلاث قصص, لا ترتبط ببعضها برابط.

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 ابريل2010م)
**********************
لأنك تصل متأخرًا
قصة: إيناس حليم

ستُعْلمهم – فجأة- أنك قررت الذهاب إلى يوتوبيا. سيقولون لك والجزع ملء عيونهم: أنك ستكون أضحية هذا العام. ستمط شفتك السفلى وترفع كتفيك بلا اكتراث مرددًا: إن هذا العام سيكون أضحية الجميع. سيخبرك أحدهم - كنوع من إلقاء الذنب عن كاهله- : إذا أردت الوصول إلى هناك فاعلم أنك ستمر بمدينة صغيرة، ذات طقوس غريبة، نهاراتها شاحبة وبيوتها زرقاء غير مسقوفة، شرفاتها واسعة ومصنوعة من العاج.. رجالها يُحنون لِحاهم كل مساء ونساءها تلدن أطفالاً لا يشفون من الحمى أبدًا. ستتجاهل أمرهم جميعًا، وتجمع ما لديك من نقود وتشتري عصيرًا وخبزًا.. مؤونة تكفيك رحلتك. أخبروك أن الرحلة تستغرق سبع ساعات سيرًا على الأقدام، ولأنك لا تحب ارتداء الساعة، ولأنك دومًا تصل متأخرًا، ستبلغ غايتك بعد ضعف الوقت ونفاذ المؤونة، ستقف أمام اللافتة البيضاء المشيرة إلى مدخل المدينة وتُبسمِل، ستُدخل قدمك اليمنى قبل اليسرى وترفع رأسك منهوكًا متأملاً مدينة بلا نهار.
على الدكة الخشبية المواجهة للمدخل، سترى رجلاً يجلس متربعًا، يرتدي جلبابًا أبيض، وجهه شاحب ولحيته مُحناة وزاهية، ملامحه بلا انفعالات، يداه تتحركان ببطء لأعلى ثم لأسفل ولا يتكلم، نظرته طوال الوقت ثابتة، وحزينة.. سيشير لك ويبتسم محافظًا على حركته البطيئة وثبات النظرة. في البداية ستظنه عرضًا مسرحيًا ممن يجولون الشوارع طلبًا للرزق القليل، لكنك سرعان ما ستكتشف أنه مجرد نسخة مكررة من آلاف النسخ التي تسير حولك في كل مكان، حينها ستلعن أصدقائك الذين لم يخبروك بكل شيء وتوقن أنه للمرة الأولى في حياتك ستطأ قدماك وجه مدينة عجيبة، لا يسير في شوارعها ولا يجلس في مقاهيها سوى رجال ذي لِحى محناة وجلابيب بياضها أزهى من المعتاد، كلهم واجمون، لا يتكلمون. النساء لا تتواجدن إلا في الشرفات، تراهم طوال اليوم واقفات تنشرن الغسيل - جلابيب وفساتين بيضاء-، أما الأطفال.. فستستطيع أن تسمع أصداء صراخهم وبكائهم المستمر من خلف الأبواب وجدران البيوت.
ستفكر: ما حاجتهم إلى الشرفات مادامت البيوت غير مسقوفة؟!، وما حاجتهم أصلاً إلى بيوت تسترهم مادامت ثمار معاشراتهم محمومة؟؟
سيرتعش جسدك الضئيل لوهلة ثم تسير متأملاً باحثًا عن فتحة ولوجك إلى المدينة المقصودة.. ستدور في شوارعها سبع ليال متواصلة تبحث عن آخرها، ستكتشف أنك تتجول في مسار دائري مغلق تُسيجه أشجار خروب عالية ومورقة.. حتى الباب الذي دخلت منه قبل قليل.. لن تجده.. ستجد مكانه شجرة خروب قرونه مطروحة حولك في كل مكان. لن تيأس، ستُهدىء من روعك وتستأنس سنجابًا يسكن أحد جذوع الأشجار ليكمل معك باقي الرحلة. بشكل أو بآخر.. ستتقبل الشوارع، المقاهي، الشرفات.. كلها كمسرح للبانتومَيْم.. حتى الحانات التي ستزورها كثيرًا بعد ذلك، ستراها عالمًا متفردًا بذاته. الرجال متربعون على كراسي البار بشكل موحد، يمدون أياديهم إلى الكؤوس يُمسكونها ببطء، يرفعونها إلى أفواههم بضجر ثم يتجرعونها بتمهل شديد، سيبدو لك أنك تلمح سريان الخمر في مريء كل منهم حتى يصل إلى معدته. ستلاحظ ترنح أنصافهم العلوية بمعدل زمني ثابت في نفس الاتجاه.. سيضحكك المشهد، وستثير ضحكتك ارتباكهم وغضبهم.. ستفكر في أن التجارب دومًا ما تثري الحياة، لذا ستقرر أن تتذوق خمر الغرباء بطريقتهم، تقرب الكأس من فمك فتشم رائحة تألفها، تتجرع ما فيه مرة واحدة وتتعجب – إذا كان ما يشربونه هو مجرد عصير خروب، فلماذا إذن يتصنعون السكر؟!-
يومها ستعجبك اللعبة.. ستحاول تعلم لغتهم وإشاراتهم وتلقي على نظرتك بلاهة تشبههم، ولأنك ذكي، ستتعلم كل شيء بسرعة.. كما أنك ستعشق امرأة منهم تبتسم لك يوميًا من خلف حبل الغسيل، ستفعل كل الأشياء كي تتزوجها، وستتزوجها.. ستخلع بنطالك الكتان وقميصك القطني الأخضر وتدفن رفاتهم عند أقرب دكة خشبية، وستحلق شاربك الحميم وترعى لحيتك حتى تنبت كما ستتخلى عن سنجابك وتعيده إلى جحره. ستعاشرها بالطريقة التي علموك ولن تتأفف..
حين تحمل امرأتك بطفل يخصك، سيرهبك الموقف، ستبحث عن أعلى نقطة في المدينة لتنادي الله طفلاً كليما، غير موجوم ولا محموم. ستنتقي أكبر شجرة وتتسلقها وستجد خلفها سورًا حديديًا يوازي علوها. ستقفز فوق السور وتُطل من خلفه لترى مدينة كبيرة نهارها ساطع، بيوتها مسقوفة بالقراميد، ملتصقة التصاقًا مطَمئنًا ومعلقة بين الأرض والسماء بحبال من نور.. في منتصف المدينة سترى بحيرة واسعة يجلس حولها رجال ونساء يلعبون الورق ويصطادون السمك وخلفهم الأطفال منهمكون في الركض وراء الفراشات البيضاء والملونة، وستأتيك النسائم البعيدة حاملة معها رائحة الزيتون النقية التي ستنفذ إلى صدرك نفاذًا حنونًا. رُغمًا عنك ستسقط دمعة ملحية على حافة السور الحديدي، ستتدارك الأمر وتقنع نفسك أنها مفاجأة الضوء الساطع لعينيك التي اعتادت الضوء الرقيق، وستستدير قِبل شجرة الخروب..
عندما تبدأ في الدعوات.. ستكتشف أنك فقدت القدرة نهائيًا على النطق، وبأنك نسيت – تمامًا- أمر مدينتك الفاضلة...

قراءة نقدية بقلم الأديب/خالد السروجى
قصة إيناس حليم لأنك تصل متأخرا لها طابع الجو السحري , تذكرني ولو من بعيد بجو حكايات الف ليلة وليلة ...ولكن القصة لاتكتمل , ولا يصل إلي مدينته الفاضلة, ويفشل.
القصة أيضا تحمل سخرية مبطنة –من الحلم بالمدينة الفاضلة.
القصة مكتوبة بصيغة المستقبل " سيحدث كذا – ستفعل كذا- " والقصة تسير علي هذا المنوال ...حلم/ توقع/ نذيربالفشل / التيه / تحذير ....
وهي أيضا إلي جانب الصيغة التنبؤية, تحتمل أن تكون حديثا من طرف واحد, وحتي خواطر راويتها , وسخطها علي من لايعيش الواقع , ويلجأ إلي الحلم المستحيل.
لكن الكاتبة استخدمت تعبيرين بمعني واحد دون مبرر فني وهما " يوتوبيا-في أول القصة- والمدينة الفاضلة في آخرها"
في النهاية القصة مبشرة بكاتبة واعدة.

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 ابريل2010م)
**************************

جيل حديد..أمل في منجز جديد
بقلم: خالد السروجي


يعني ظهور جيل جديد في كتابة القصة , أمل جديد في منجز جديد , حتي ولو كان علي شكل فردي, يتخطي ما أنجزناه , يكفي من كل كتيبة صاعدة , قاص أو اثنين من كل كتيبة صاعدة , فعلي صعيد التراكم , سيصبح لدينا حركة قصصية ثرية.
ليس مطلوبا ان يبأ هذا الجيل عملاقا كما بدأ يوسف ادريس ,فنحن نقبل التصاعد والاختلاف والبحث عن الصوت الخاص . وان يتقدم القاص خطوة للأمام مع كل قصة يكتبها.
أمامنا من جيلنا الصاعد , خمس قصص,تمثل عينة لهذا الجيل:
وأول ما يلاحظ في اختلافهم عن جيلنا هو الفرق بين المجاهد والعابد. فالمجاهد مهتم بشئون مجتمعه , يعمل علي التغيير . ويحمل الهم العام, أما المتصوف فهو يبحث عن الخلاص الفردي...
أعترف بأنني لست ناقدا محترفا , وهو شئ معروف علي كل حال, ولكننا هنا لا نقل خلاصة تجارب عشرات السنين, وفرت ليقدر من الخبرة لا تصدي لقراءة هذه الأعمال.
الأعمال التي تحت بصري هي قصص:"أمور قديمة" لمحمود حسن," رداء يصلح لجنازات" لهبة خميس", "شهادة وفاة" لمحمد أنيس" , و"طفولة" لشريف محمد أنور, و"لأنك تصل متاخراً" لإيناس حليم.
وأود أن أنوه أولا أن القصة القصيرة هي كائن رقيق , إما استطعت أن تخرج بأعجوبة قصصية أو أن تقتل هذا الكائن الرقيق , والذي هو من أصعب الفنون.
وسنتفق من الآن علي أن القصة هي ما يصلنا منها , لا ما يقصده الكاتب.


(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 27 ابريل2010م)


السبت، 8 مايو 2010

20 ابريل2010م

أربعة مبدعين وناقدة بمختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية

فى محاولة لتقديم أصوات نقدية جادة وواعدة نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 20 إبريل الساعة السابعة مساءً ندوة بعنوان "أربعة مبدعين وناقدة" حيث ناقشت الأديبة والناقدة الشابة إيمان السباعى أربع قصص لمبدعين من أجيال مختلفة، وهى قصص "مدينة" لمحمد أبو عوف، "دولاب زجاجي" لمحمد عطية محمود، "الغائب" لمنى عارف، "كيـس فـارغ" ليحيى فضل سليم. وقد صرح الأديب منير عتيبة مدير المختبر أن هذه الندوة كانت تدشينا لميلاد ناقدة جيدة ستكون إضافة حقيقية للحركة النقدية السكندرية.
********************
مدينة

قصة: محمد أبو عوف

استيقظ ليذهب إلي عمله وعندما نزل الشارع وألقي التحية علي من يقابله من الجيران والأصدقاء كعادته, اندهش حينما وجد الناس ملامحهم قد اختفت. فقط وجه مطموس, لا أحد يتكلم, يهيمون في الشوارع, كأنهم يسيرون بلا هدف, أو منومون مغناطيسيا.
وصل لعمله لكنه وجد زملاءه بلا ملامح أيضا ..هنا أحس بالظلام من حوله وأنه وحيد معزول عن العالم.
انتهي من تدخين علبتين _علي الأقل_ من السجائر , رفع رأسه لزملائه وقلبه يرتجف فهو عندما رآهم لم ينظر إليهم ثانية فقط أسند رأسه بين كفيه,وأخذ يدخّن ,نظر لهم مرة ثانية...لم يتغيروا
قام مسرعا وانصرف, جري في الشارع كمّن يحاول الوصول لنهاية الأرض أو ينطلق في الفضاء هروبا من هذا الكابوس.
وصل لمنزله, غلّق الباب وجلس يفكّر ماذا يفعل؟......
حبس نفسه في المنزل مدة طويلة إلا أنه وهو ينظر في المرآة
لم يجد ملامحه بل وجد الوجه المطموس
يومها فقط قرر أن ينزل لعمله من جديد.


قراءة في قصة مدينة لمحمد ابو عوف للناقدة/إيمان السباعى

قد تنتمي قصة مدينة إلى ما يسمى بالقصة القصيرة جداً أو الأقصوصة لذا يأتي أهمية عنوانها"مدينة" حيث جاءت مفردة نكرة كأنها تعني"أية مدينةأو كل مدينة" جعلت من الإنسان ترساً آلياً دائراً لصالح قوانينها وضد إنسانيته.
تبدأ القصة ب"هو" وقد استيقظ ليذهب إلى عمله فوجد الناس في الشارع تحولوا الى وجوه بلا ملامح "وجه مطموس"..هكذا يخبرنا الراوي بلغة تقريرية خبرية هذا الحدث الغريب رغم عدم منطيقته!ويستمر في الأتكاء على هذا الحدث فزملاؤه في العمل أيضا قد طمست وجوههم وينتهي به الأمر إلى النظر في مرآته ليجد وجهه أيضا بلا ملامح فيقرر الإندماج مع الناس بعد أن كان قد اعتزلهم..
*************
الغائب

قصة: منى عارف

دقات على الباب اهتز لها كيانى ... نادتنى من شبه الغفوة , لعله يكون هو!!.. تتسابق أقدامى للوصول إلى عتبة الدار.. لثوانى توقف العقل عن التمييز بين الحاضر والماضى ، اختلطت المسميات..أرى خيالك للحظة وجلة يتعثر...يتبخر.. أحاول أن أنصت لأمل سرعان ما ينحسر أتمعن فى الصمت ...
مررت بالقرب من حجرتك المهجورة ولم أستطع هذه المرة ألا أتوقف.. همست لنفسى باسمك فتجلجل فى صدى المكان ، لحظة تسارعت خفقات قلبى ارتعشت أقدامى وأنا أتحسس بندول الساعة.. توقف عن الحركة.. أُشعل المصباح العنيد أُريد أن أُحرك ذلك الهدوء الثقيل... أيها القادم بلا خطوات الواقف خلف الأسوار والبيت تتلصص.. صرت تؤرقنى فى الليل وعند أطراف النهار.. صرت أخاف من قبضة الباب التى تُدار لوحدها ..من رنة الهاتف ..ومن توزيع الأسماء على المقاعد الفارغة.. ومن الخطابات التى ما عادت تأتى أو قَلما من الغيمة المقبلة من البرق والرعد ..من خطوات حفيفة تفاجئنى مثل اليوم لا تترك إلا توترا يصاحبنى.. وجعلنى أُدير ظهرى لأيام ليس لى بها ظهيرة ..فى كل ليلة أترك المصابيح فى باقى الغرف مضاءة لعلك تهتدى مرة إلى مكانى الأثير..
صرت كل ليلة أنتظرك تحدثنى عن ما صار معك فى تلك الأسفار البعيدة.. عن تلك الصحارى الشاسعة ورمال بيضاء ساخنة وقمر يملأ السماء فيها النجوم معلقة كتلك المصابيح.. وأنا كعادتى لا زلت طفلة يشتعل قلبها بالحكايات البعيدة أسدلت على نوافذ ضحكاتى البريئة الستار.. ولكم تمنيت أن أرحل معك يوما إلى آخر الأرض.. دوما إلى تلك البيوت الصغيرة.. وتترجل من صفحات التاريخ عناوين الأبطال , أُريد أن أجلس معك تحت شجرة المسافرين.. أُريد أن أتجول فى تلك االمساحات الرحبة.. وأرحل خلف الوديان والتلال..أُصغى لتلك المقاطع التى ترددها الريح.. أتامل وجه التحول.. أتامل خسوف الشمس فى ذلك السكون العجيب تتراقص أضواء خافتة فوق حائط الذكريات.. تتمايل الصور، تلك كانت فى دمشق عند مدخل السوق الحلبى تهفهف حولك رائحة المسك.. تقف تحت ذاكرة الفوانيس العتيقة.. تعلمت منك التحليق والتدقيق فى كل التفاصيل.. فى ألوان قوس القزح..فى سجاد الكشمير، وتلك كانت فى بغداد تقف مع الأحرار والثوار وخلفك مذياع يصدح منه صوت فيروز:
الله معاك يا هوانا يم فارقنا ....
وتلك كانت فى عمان أحضرت لى عُقداً من اللوجين والكهرمان يبدد ضيه وحشة الحنين.. وجوه تمر بينى وبينك ..اللذان يبدوان على هامش الصورة يغتنمان الفرصة للسخرية والتهكم.. أتحرك قليلا نحوك وأتمهل.. وكلما حاولت كنت أخفق.. آمال وأحلام كأن السماء بلا حافة وكأنك ماض إلى ما لانهاية.. تكمل فصلا نهائيا تنتظره.. وقلت إننا سنعيش إن شئت أسطورة من الأساطير.. أى مستقبل أنتظر وأى زائر هذا لا يقيم، أهدانى مفاتيح الرحيل؟! كلما دعاك هاتف تُلبى.. سأهبط إلى الوادى الجديد.. وأرسم حدود الأودية الهائمة سابحاً فى كثبانها مصغياً لعزف ناى بعيد.. وهناك فى واحة الغروب تنفجر الينابيع تحت قدميك وتلوح لى بيديك، وها هى تتمايل خضرة مطلة من شرفة عالية مشهد تفاصيله لا تغيب ...
الضوء يتململ هو أيضاً فوق الجدران تاركاً إياي أتأمل الراحلين والعابرين.. أخال خطواتهم .الأزمنة جاءت لتتنزه ثانية فى دهاليز رأسى تاركة إياى حائرة ما بين صور غائمة وصور مشرقة وصورة أثيرة.. وواحدة ممعنة فى الغياب.


قراءة في قصة الغائب لمنى عارف للناقدة/إيمان السباعى

إن عدم وجود حدث ما تدور حوله القصة من أبرز سمات الكتابة القصصية الحداثية، وربما كانت تلك أهم ما يميز قصة الغائب لمنى عارف.
فالقصة تبدأ ب:" دقات على الباب اهتز لها كيانى ... نادتنى من شبه الغفوة , لعله يكون هو!!.." بداية تجعلنا نعيش مع السارد هذا الترقب والإنتظار وننتظر"هذا الحدث الجلل" الذي سيتبع تلك الدقات فيهتز كياننا معه ونتساءل من يكون هذا الطارق..لكن الدقات تنتهي إلى صمت وخيبة أمل فلا يحدث شيء ..تنتهي دون ان نعلم من"هو" ..تنتهي بعد تلك الرحلة الطويلة التي تأخذنا إليها ال"أنا" الساردة التي تم تغييبها"فلانعلم من هي ولا نعلم عنها شيئاً"ويأتي غيابها لصالح هذا الغائب ليمنحه حضوراً كثيفاً يظهر أحياناً كخيال طائف"أرى خيالك لحظة وجلة يتعثرأو حتى كشبح يخرج من الذاكرة ليظل حياً نشعر به يحيط بالمكان:" أيها القادم بلا خطوات الواقف خلف الأسوار والبيت تتلصص.. صرت تؤرقنى فى الليل وعند أطراف النهار.. صرت أخاف من قبضة الباب التى تُدار لوحدها ..من رنة الهاتف .."
نحن لا نعلم حتى نهاية القصة العلاقة بين تلك المرأة وهذا الغائب فهي علاقة حميمة قوية تجعله حاضراً في ذاكرتها وواقعها يلحقها حتى ليصبح حضورا حياً لا تستطيع الفكاك منه وبرغم الإشارة إلى أنهما تقاسما المكان ذات يوم"البيت" وذلك واضحا في" مررت بالقرب من حجرتك المهجورة ولم أستطع هذه المرة ألا أتوقف" إلا أننا لا نستطيع التأكد هل هو الزوج أو الأب أو الأخ أو ربما شخص آخر..
الساردة أيضاً لم تفصح عن سبب الغياب هل هو السفر أم الموت أم انتهاء هذه العلاقة بانفصال ما..!
تلك الحالة الغير يقينة والتي تجعل القاريء يسرف في وضح الاحتمالات والتأويلات يصاحبها حالة من التوتر على امتداد السرد ..فال"أنا" لا تستطيع التمييز بين مكان أو زمان"
".. لثوانى توقف العقل عن التمييز بين الحاضر والماضى ، اختلطت المسميات..أرى خيالك للحظة وجلة يتعثر...يتبخر.. "
هذا التوتر يتضح في جمل متتابعة قصيرة يتم فيها التنقل من خطاب لآخر ومن زمن لآخر دون منطقية..فالساردة تروي لنا ذكرياتها مع هذا الغائب في الماضي حتى نشعر أنها تنتقل اليه وتنقلنا معها لنننسى هذا الغياب ..نطل على رجلها الغائب والذي تعطينا بعض ملامحه ..هو شخصية شعرية أسطورية إن جاز التعبير وكأنها اختلقتها لا عايشتها فهو الحالم والثوري كثير الأسفار ..من سوريا الى الأردن إلى الوادي الجديد إلى بلدان وبيوت ومساحات بعيدة شخصية تخرج من الروايات وكتب التاريخ..تقول.." ولكم تمنيت أن أرحل معك يوما إلى آخر الأرض.. دوما إلى تلك البيوت الصغيرة.. وتترجل من صفحات التاريخ عناوين الأبطال .."
تخرجنا بغتة من هذا الحلم ومن رحابة الأمكنة ومغامرة السفر إلى ضيق الواقع ..إلى البيت غرفته المهجورة وخطواته ولمساته التي تحاصرها ..فتتوجه اليه في خطاب مناجاتي :
"... أيها القادم بلا خطوات الواقف خلف الأسوار والبيت تتلصص.. صرت تؤرقنى فى الليل وعند أطراف النهار.. صرت أخاف من قبضة الباب التى تُدار لوحدها ..من رنة الهاتف ..ومن توزيع الأسماء على المقاعد الفارغة.. ومن الخطابات التى ما عادت تأتى أو قَلما من الغيمة المقبلة من البرق والرعد ..من خطوات حفيفة تفاجئنى مثل اليوم لا تترك إلا توترا يصاحبنى.. وجعلنى أُدير ظهرى لأيام ليس لى بها ظهيرة ..فى كل ليلة أترك المصابيح فى باقى الغرف مضاءة لعلك تهتدى مرة إلى مكانى الأثير.."
تخرجنا من الزمن الماضي إلى الحاضر المؤلم وإلى استشراف مستقبل لا ترغبه إلا لتلتقيه فيه"أي مستقبل أنتظر وأي زائر هذا لا يقيم أهداني مفاتيح الرحيل..كلما دعاك هاتف تلبي..سأهبط الى الوادي الجديد.. وهناك فى واحة الغروب تنفجر الينابيع تحت قدميك وتلوح
لي بيديك.."
كل هذا في لغة شاعرية موحية وكأنها قصيدة تحتشد فيها الصور ويستخدم فيها النداء على هذا البعيد ونستمع إلى صوت أغنية حزينة عن الفراق لفيروز لتتكامل قصيدة المناجاة تلك.
أما الدهشة الحقيقية ..فهي نهاية القصة ..التي تجعلنا أما مشهد تلك المرأة وهي تتأمل صور الغائبين والعابرين على الجدران..امرأة وحيدة مع صور قديمة تستعيد فيها الغائبين وكأن هذا الغائب ليس شخصاً بعينه بل هو زمن ممتد من ماض لا ينتهي ..!




(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 20 ابريل2010م)
******************
كيـس فـارغ
قصة: يحيى فضل سليم

عندما أغمض عيني يكون عندى إصبع مقطوعاً, غالباً ما يكون السبابة, لكنى أستطيع أن أشير إليه من خلال صمت طويل, أكون خلاله شاخص العينين, فاغر الفم, باحث فى ـ وهن ـ عن مكان ضئيل فى آخر الصف من الطابور الطويل.
فى الصباح كان آخر الطابور يسد بيتى,عدت مسرعاً, أغلقت الباب بالترباس والمفتاح, وخرجت من الشباك قاصداً المقهى.
فقط سأسأله ـ لو ترك العصا من يده:
ـ كيف أقلدها؟!
لم أرها وهى تعجن أمامى, لكنى أستطيع أن أقلد العازب, أنام على بطنى المنتفخ المتحجر كحمل كاذب, وأعير زوجتى أذنى الصماء, وهى تلكزنى فى كتفى: أتعدل يا راجل.
تعودت على ذلك, فهمت كما يحدث لى فى مرات قليلة, دون أن أعلم من الأخرس " ماسح الأحذية ", لما ترك مكانه أمام المقهى, وذهب إلى هناك دون أن يزيل الأصباغ من يديه, ولم يعد عنده وقت لجذب قدمى وأخذ حذائى عنوة ليلمعه, سواء دفعت له أو أخرجت له أمعاء (بنطالى)
لم يكترث بحركة شفتى وهو يهم بالرحيل, ولم يعبأ بى حين تبعته؛ فقد تورمت قدماى ولم أستطع إدخالهما فى الحذاء؛ فحملته فى كيس أسود, ونذرت فى نفسى:
"لو حصلت على رغيف سأهب الحذاء لأول حافى يقابلنى, أخفى الرغيف فى الكيس الأسود, وأدخل بيتى كما خرجت من الشباك".
سأفعل ذلك عن رضا رغم سخونة الأسفلت التى حمصت باطن قدمى, والحصى الذى أجاهد لتفادى التعثر به.
فخر بطعم الأسى سأشعر به, ستفرح زوجتى كثيراً, تستحضر نظرات الإعجاب التى خلت من عينيها منذ زمن, تمنحنى نظرة طويلة حانية, أنتشى لها, أدور حولها نافشاً ريشى, أعيد وأزيد فى الإثارة مع كل مرة أروى فيها, كيف استطعت أن أحصل على العيش؟!
لن تلاحظ زوجتى الهيئة التى سأكون عليها, ولن يشغلها قدماى الحافيتان.
بالأمس فشلت زوجتى فى العثور على كسرة خبز لتقسم عليها "والنعمة دى كنت فى طابور العيش"
جريت والتصقت بالحائط, تتمسح بالقطة, لم أدر السبب الحقيقى لغضبى, أهو تأخيرها, رجوعها دون رغيف واحد, أم عدم تنفيذها لأوامرى بطرد القطة.
"غداً لن تنام فى البيت" هذا ما حدثتنى به نفسى, وأنا فى الطريق إلى هناك: "ستبيت أمام الفرن, لتكون أول من يحصل على خبز".
تلفت حولى ماسحاً عرقى بمنديل ورقى, صار كالعجينة السوداء, جلست أبططه وأطرحه على الإسفلت الحارق, انتفخ الوجه الكالح وطلب اللجوء إلى عيش الأرصفة.
قمت أبحث عن الأخرس, سأراوده عن عدة أرغفة, أزيد له فى الثمن, لن يردنى خائبا, أنا متأكد من ذلك, كتأكدى من توافر الطوابير.
شققت طريقا صعبا إلى منتصف صف من عدة طوابير كثيرة متلاحمة ومتشابكة, قائلاً لكل من يحاول منعى: دروى قدام الأخرس.
ربت بيدى على كتفه, فلم يلتفت, ابتلعت مرارة ابتسامة مترددة, فشلت فى منحها إياه, غمزت له بعينى, فوجئت به شخصاً آخر لا أعرفه, دفعنى بقوة فى صدرى, تحفزت الأيادى للفتك بى, رفعت يدى مستسلماً, مؤثراً الانسحاب فى هدوء, لكنى وجدت نفسى مطروحا خلف الصفوف.
هممت بالرجوع, منعنى أحدهم, كان بلا أذنين ولا عينين ولا فم, قاومته, تلاشت رأسه, تحول جسده إلى يدين ضخمتين أمسكت بى, دفعتنى من ظهرى بقوة إلى الحشود المتحاربة, أرسلت ضرباتى إلى كل صوب, تلقيت ضربات من كل اتجاه, بوغت بلكمة قوية طرحتنى أرضا, تلقيتها من الأخرس, عندما أردت أن أحتمى به.
وخلال هدنة قصيرة لالتقاط الأنفاس, شاركت الشمس خلالها فى جلدنا بسياطها الملتهبة, كان البعض ملقى على الأرض, البعض الآخر يترنح, الأخرس تخضبت يداه بالدماء, لم أعرف بجانب من أرتكن فكلهم كانوا اعدائي.


غرائبية الواقع..قراءة في قصة يحيى فضل سليم للناقدة/إيمان السباعى


عندما أغمض عيني يكون عندى إصبع مقطوع, غالباً ما يكون السبابة, لكنى أستطيع أن أشير إليه من خلال صمت طويل, أكون خلاله شاخص العينين, فاغر الفم, باحث فى ـ وهن ـ عن مكان ضئيل فى آخر الصف من الطابور الطويل
بهذه الجملة الإفتتاحية الطويلة يضعنا القاص يحيى فضل سليم أمام مشهد ذلك الرجل في الطابور الطويل..افتتاحية تأتي أهميتها في كونها تحمل السمات الرئيسة التي سنلتقيها على امتداد السرد: المفارقة اللغوية والدلالية"كما في فعل الإشارة والسبابة المقطوع"،والموقف الوجودي من خلال استخدام ضمير المتكلم وفعل الكينونة.
وتأتي أهميتها أيضا في إلقاء الضوء على المكان والزمان والشخصية والحدث الرئيس في قصة كيس فارغ..
فالمكان:هو طابور العيش الذي نشعر بطوله باستخدام الوصف المباشر"في آخر الصف من الطابور الطويل"أو" في الصباح كان آخر الطابور يسد بيتي"
أما الزمن..زمن الحكاية ..فنشعر به وكأنه بلا نهاية كهذا الطابور..زمن تعاقبي يأتي ذكره ملازماً للحديث عن طابور العيش:
في الصباح..كان آخر الطابور يسد بيتي..
ستبيت أمام الفرن لتكون أول من يبحث عن الخبز..
أما زمن السرد..فتنوع استخدام الأفعال الدالة على الماض والمستقبل ونادراً ما تم استخدام الحاضر ولكن كل ذلك بلا دلالة حقيقية!
فالمستقبل لا يرد ذكره إلا عند الحديث عما يدور في ذهن ال أنا/الشخصية مما يشكك في حدوث ذلك بالفعل.:
"غداً لن تنام في البيت..هذا ما حدثتني به نفسي.." مع اقتران ذلك باستخدام فعل الأمر كنوع من الدلالة على القهر الذي تعانيه تلك الشخصية طول القصة..
إن الانفصال الحادث والذي يؤدي بالسارد إلى الخطاب مع النفس وكأنها شخص آخر وعرض ما يمر في ذهن الشخصية من إحدى سمات كتابة تيار الوعي لكن يحيى فضل سليم استخدمها هنا بغرائبية حيث لم تأت كتداعٍ حر وكأن هذا "الرقيب" الذي يمسك بالعصا ويأمره بتقليد عجين الفلاحة يمنع حدوث ذلك..لذا يأتي مع تلك التقنية دائما جملة اعتراضية تسبقها أو تعترض السرد:
هذا ما حدثتني به نفسي"،"ونذرت في نفسي":فقط سأسله ان ترك العصا من يده..
أما الشخصية في كيس فارغ فتم رسمها واختيارها بغرائبية أيضا.فالسارد لا اسم له ولا ملامح ولا نعرف عنه سوى أنه يريد الحصول على العيش! وكذلك ماسح الأحذية الأخرس الذي يتحول إلى ما يشبه وحش أو كائن غير آدمي..!
ورغم استخدام ضمير المتكلم على امتداد السرد يتم تغييب أو تهميش الأنا وفقدانها لأية هوية ذاتية فالتركيز هنا ليس على الذات بل على أزمتها الوجودية في واقع غرائبي..لذا يهتم السارد بتفاصيل الصراع بين الرجل وزوجته والصراع بين البشر الغير بشريين إن جاز التعبير في طابور العيش كل ذلك باستخدام السخرية غير المباشرة وتلك من سمات الكتابة في تلك القصة والتي تذكرنا باجواء قصص يوسف إدريس..فالسارد المسحوق بفعل هذا الواقع يسخر منه :
"لو حصلت على رغيف سأهب الحذاء لأول حافى يقابلنى, أخفى الرغيف فى الكيس الأسود, وأدخل بيتى كما خرجت من الشباك".
" فخر بطعم الأسى سأشعر به, ستفرح زوجتى كثيراً, تستحضر نظرات الإعجاب التى خلت من عينيها منذ زمن, تمنحنى نظرة طويلة حانية, أنتشى لها, أدور حولها نافشاً ريشى, أعيد وأزيد فى الإثارة مع كل مرة أروى فيها, كيف استطعت أن أحصل على العيش؟!
فأي واقع هذا يجعل هذا الرجل يخرج من بيته من الشباك لأن باب بيته مغلق على الدوام بطابور طويل..أي واقع يصبح فيه رغيف خبز أمنية مستحيلة تجعله يحمل على الدوام كيس فارغ يتمنى ان يملأه بالخبز أي واقع يجعل من هذا الرجل بطلا في عين زوجته وتحدث بينهما إثارة عاطفية وجنسية يتضح من السرد أنها لم تحدث منذ زمن طويل لأنه استطاع الحصول على الخبز!كل هذا نمر به لنصل في النهاية إلى المشهد الأكثر غرابة وكابوسية مشهد الصراع في طابور العيش ..أيادي تتحفز للفتك بالرجل..ماسح الأحذية يتحول الى قاتل..حرب دامية بالغة القسوة عبر عنها السارد بلغة قاسية أيضا وجعل كل شيء يشارك في تلك الجريمة الوحشية حتى الطبيعة:" شاركت الشمس خلالها فى جلدنا بسياطها الملتهبة, كان البعض ملقى على الأرض, البعض الآخر يترنح, الأخرس تخضبت يداه بالدماء, "!
إن "كيس فارغ" ليست قصة تحمل حادثة واقعية أو خيالية..لقد تجاوزت هذا إلى كونها قصة استطاعت أن تختزل واقعا وصراعا طبقيا واجتماعيا ..جعل الجميع هذا "الأخرس" أو هذا الرجل بلا فم ولا أذنين ولا عينين مجتمع فقد التواصل بين أفراده ..مجتمع الحفاة الذين ظل الرجل وجود الكثير منهم لذا سيتبرع بحذائه لواحد منهم إن استطاع الحصول على العيش..ومجتمع الجوعى الذي عاد بالإنسان بعد حضارته إلى بدائية كل طموحها الحصول على رغيف خبز يبقيها على قيد حياة عبثية بلا معنى:" , لم أعرف بجانب من أرتكن فكلهم كانوا أعدائي"


(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 20 ابريل2010م)
دولاب زجاجي
قصة: محمد عطية محمود
دولابك الزجاجي متصدر الصالة، ما زال يحتضن أطقمك المذهبة.. أكوابك الكريستال.. لعبي الخزفية، والمطاطية برائحة غربة أبي البعيدة، وإقامته القليلة قبل ترحاله الأخير..علب المواليد التذكارية، وصورتنا سويا القادمة من أغوار طفولتي الغضة وشبابك العفي الصلب.. وما تبقى من صور راحليك، وعبق بخورك الجاوي الذي كان يمتطي صهوة أجواء البيت المشبع برائحتك، بأنفاسك، بتحومات روحك في أركانه.. تطل بعينيك الصاحيتين، على عيون جهيرة، ووجوه متشابهة كالحة، لا يعييها حس ولا شعور.. تحاول إزاحة ستائرك الموشاة المفرودة على الحوائط.. تهتك ستر المسكوت عنه في قلوبهن، وما توميء إليه نظراتهن، وما تنبس به شفاههن الغليظة، وما تلفظه ألسنتهن من حمم، تستبيح به قدسا من أقداس الصمت الذي كان يوما، وأنت الآن .........
يوغل الأمس في قاع شعوري بشفرته البليدة.. أتوحد فيه بما تبقى من جدار قديم ينشع بقساوة صقيع جاف، قارس، في صباح ربيع ظالم اقتلع بخماسينه صحوي، وأقضَّ مضجعي.. أواجه فيه منفاك القسري تفصلني عن جسدك بحر الطريق، والأسوار العالية، والأبواب المغلقة، والأبيض الناشع بالصفرة المقيتة، خلف سواتر بيضاء كالحة، واقتلاعات النفس المشحونة بالشجن، وأوهام الحيرة، وهواجس الألم، وأشباح الفقد....
أدلف منه إلى أمس سحيق لكنه منطبع في الذاكرة بقاع طفولتي المبتسرة كظل وحيد لشجرة بفرعين أحدهما مبحر في غربته، سادر في معانقة أهوال البحر، وأنتِ الأخرى المبحرة في هموم مَنْ حولِك.. تحملين على كتفك همومهم وهمومهن، وعلى الآخر هم رعايتي ووجودي، كثمرة وحيدة نبتت في أرض قاربت على الإعجاف!!
منذ رأيتُ النور، لم ينقطع الحبل السري الذي كان يربطني بك، والتحمت أنفاسي بأنفاسك وحيدين في ليل يطول بلا راعينا.. لكنه كان هنا وهناك يقاوم الأمواج والأعاصير ليأتي إلينا كوجه عزيز، وعاطفة جياشة بالحنين، ونفس طاغ يشيع طغيان روحه القوية في نفسينا، وفي جغرافيا المكان الذي كان يتعطر بعطره من قبل قدومه، كبشير لاقتراب العود الحميد الخاطف، محملا برائحة البلاد البعيدة وخير شقائه الوفير، ثم يغادر كإعصار مفارق، يُهدِر بقايا فورته في سفر جديد وفراق جديد متواصل؛ لنعود.. نتوحد سويا بأنفاسنا وجسدي الصغير الملتحم بجسدك الوفير الذي يستعيدني ثانيا في رحمه في كل ليل طويل، ومتاهات عديدة تتجاذبني .. تشدني، وندوب قد تحدثها الأيام في وجهي، وفي نفسي حين يؤلمها الالتصاق الشديد بالفرع اللين، الشديد في حكمه برغم فيضان حسه، كما يؤلمها الابتعاد عن الجذر الصلب المغادر دوما بلا قرار، وأنا الشارد في شغبي الطفولي المقموع على أعتاب الوعد والوعيد...
تطل عليهن عيناك المبتهلتان، ومسبحتك المدلاة من علٍ، وهمهمات تسبيحك، ونظرتك المضيئة التي لم يطفئها ذهاب نور إحدى عينيك؛ وما يزال شالك المعطر بأريج تسبيحك ينتظرك معلقا على مشجب يلوح من طرف ضيق من باب حجرتك الفارغة منك ، الموارب؛ فتجحظ العيون بيضاء بلا ملامح ولا ألوان.. تتقلب على أسطح وجوهها البليدة.. تعيث في فراغ الصالة.. تصطدم بالنجفة المعلقة في وسطها باهتة الضوء، مقهورة إشعاعاتها، وتميل على الإطار الكبير الذي يحوي صورتك البهية مع صاحب ملامحي الأكبر، مطفأة الأركان...
تفجئني نهايات عقدي الثاني.. تزلزلني.. تقمع أحلامي.. تفرض علينا التوحد قسرا سويا مع سبق الإصرار والترصد.. تقر حقيقة جديدة لا مفر منها.. تثبت خيمة الفراق أوتادها على أرضنا العنيدة.. نصير صنوين في إحساس الفقد المرير؛ فرجل الارتحالات الطويلة والإطلالات المشعة، قد فارق مرفأه بلا عودة، مخلفا مجدافيه مكسورين على أرض أحلامي ووجودك؛ ليغزو الحزن ملامحك الريانة، ولأشعر بوحدة لم أشعر بها من قبل، رغم حنان احتوائك؛ ولنتصادم كأنما نتعارف للتو.. شيء ما في خريطة شعوري اختلف، تبدل اغترابا ناقعا لم تعهده نفسي، لكن حنانك وحرصك كانا طوق نجاة جديد مر بي عبر قنطرة من قناطر العمر نحو كيان جديد، وإطار جديد يتوحد فيه فرعا الشجرة الكبيرة لينبسط ظلك الوارف منفردا على امتداد أيامي، وتنفرد فيه صورتنا الجديدة سويا معلقة على جدار الأيام والذاكرة...
تزداد حدة النظرات وجحوظ العيون في محاجرها.. يقتلها الانتظار البغيض.. تتخبط.. تعاود الألسنة ـ بعدما هدأت قليلا ـ لوك ما تبقى من فتات الجسد الذي يتهيأ للمراسيم النهائية للغياب.. ثم تعود للهدوء المباغت.. تركض المشاعر المقموعة على الوجوه.. تعود للتخفي تحت غلالات الانحناء والتدبر المقيت، وفرك الأصابع، وتكتيف الأذرع، وضمها إلى الصدور والبطون، وتعصيب الأدمغة بالأكف، ومراوحة النظرات عبر زجاج الدولاب، وخلف الستائر التي تحجب ممرات البيت الذي كان مرتعا لعيونهن وأرجلهن وأفواههن الناهضة بالتفحص ومحاولات استجلاب الخبيء، ونحو باب البيت الذي مازال مفتوحا ينتظر الوجوه القادمة والأنباء، و........
يتعرش ظلك.. يمتد.. يتعملق.. يحتويني.. يضمني.. يشيع فيَّ الرغبة في الامتداد والتبرعم واجتلاب المزيد من الثمار اليانعة المؤنسة؛ فتتبرعم زهوري الجديدة بين أنامل حنانك، ومتكأ وجودك، السند والظهر المنتصب؛ فبالرغم من التطواف والترحال وركوب أهوال تحصيل الرزق، كنتِ هذا السند الوحيد والظل الظليل الذي كانت ترتاح إليه جوانحي وآلام جسدي وعطب أيامي، والحِجر الذي يرتاح إليه رأسي المفعم بما يؤرقه، وتنام عليه فلذات كبدي وأغلى أشياء وجودك.. لكن الشبح الهلامي يبسط وجوده على خارطة أيامك.. تمر مضنية.. عصيبة.. يتألم فيها الحبل السري الممدود بين ذاتي وذاتك.. يتزلزل الكيان.. يتخلي الجسد عن بنيانه الفاره.. وتأتي الإنذارات الملحة، لكن القلب يتعلق بالأوتار المرتخية، ويستبعد الخطر المحيق، وينحي الوصية المضنية، الملحة، جانبا:
" يسترك الله ويحفظك .. لا تطلع أحداً على عورتي"
يهتز فضاء الصالة والبيت بعويل صارخ ممزق لارتعاشات الكلام على الشفاه المبللة بدم الكلمات الجارحة.. يهتز معه زجاج الدولاب، وإطار الصورة، وتمتط الرقاب.. يقفز من المحاجر خليط العجب والدهشة، وتصنُع الألم الممض، ومصمصة الشفاه الفارغة، ومضغ الأضراس على خوائها، وأحاسيس تتضارب على الوجوه الجامدة.. تتعلق بأهداب الحيرة، ورغبات المغادرة، ومحاولات الأعين اختراق زجاج الدولاب، والأستار التي تحجب بدن مسجي بعيدا خلف أسوار الانتظار...

ذاكرة الموت وحيل السرد.. قراءة في قصة "دولاب زجاجي"لمحمد عطية محمود للناقدة/إيمان السباعى

"دولابك الزجاجي متصدر الصالة.."
هكذا تبدأ القصة ليتصدر (الدولاب الزجاجي) المشهد تأكيدا على أهميته ودلالاته التي تتجاوز كونه مجرد دولاب إلى كونه ذاكرة حية واختزالاً لحياة كاملة تركتها الأم وراءها لموت يمد ظلاله على الأشياء
"دولاب زجاجي (يحتضن) أطقمك الذهبية.."إنهاعلاقة حميمة بين الأم الراحلة وبين دولابها الزجاجي شخّصها الفعل يحتضن ففيه خبأت الأم أطقم"ذهبية"وأكواب"كريستال" ولعب "خزفية"..وكأن كل هذا" البريق" المختبيء عن الأعين هو بريق حياة تلك المرأة وأنوثتها التي فقدتها بفقد الزوج ثم بفقد نور إحدى عينيها كما يخبرنا السرد ثم أخيراً بالموت..في الدولاب أيضا لعب المواليد التذكارية وصور العائلة وصور الراحلين المستورة عن الأعين الفضولية بل يأتي الدولاب الزجاجي معادلا للأم الراحلة في نهاية القصة" ومحاولات الأعين اختراق زجاج الدولاب، والأستار التي تحجب بدن مسجي بعيدا خلف أسوار الانتظار..."
بوعي يتجنب محمد عطية استخدام ضمير الغائب ليراوح السرد بين ضميري المخاطب "أنتِ"والمتكلم"أنا" وهي حيلة سردية يعبر بها السارد عن رفضه لهذا الغياب القسريّ بالموت وليتمكن من استحضارالأم إما بتوجيه الخطاب السردي اليها في الزمن الحاضر:"دولابك الزجاجي متصدر الصالة
أو باستحضارها بصورة اخرى من خلال الأنا في خطاب مناجاتي أحيانا وغالبا في استدعاء حر للذاكرة ولأحداث وقعت في الماضي تكون الأم الغائبة محورها وتبين لنا شدة تعلق الابن"الأنا" بأمه:
" نتحد سويا بأنفاسنا وجسدي الصغير الملتحم بجسدك الوفير الذي يستعيدني ثانيا في رحمه في كل ليل طويل،.."هذا التوحد يمتد توحدا معاً في مواجهة الماضي بسفر الأب وفقده وقسوة الحياة وصعوبة تحصيل الرزق ,وتوحده بها في الحاضر في مواجهة الموت والعيون الكالحة لنسوة أتين لينبشن ستر المسكوت عنه..
وقد يصدمنا مشهد النسوة المعزيات الذي يتكرر أو هو المشهد الثابت على مدى السرد بعيونهن الجاحظة"البيضاء بلا ملامح ولا ألوان"وكأنهن موتى رغم حضورهن بينما يتم التأكيد على حضور الأم رغم غيابها عن المشهد"تطل عليهن عيناك المبتهلتان ..مسبحتك المدلاة.." فكأن وجودهم يعادل وجود الموت الذي يهتك ستر الجسد بينما يهتك النسوة غياب الأم بالرغبة في اقتحام أسرارها وحياتها الماضية ممثلة في الدولاب الزجاجي.
أما عن الاسلوب في قصة دولاب زجاجي فبالإضافة للّغة الشاعرية وكثرة استخدام الأفعال الموحية المحملة بدلالات وجدانية وطول الجملة التي تستخدم فيها النعوت بشكل لافت للنظر وكأن النفس في حالة بوح لا تريد له أن ينتهي يأتي استخدام(الوصف) كسمة رئيسية في القصة..فالوصف"أيقونة مزودة بطاقات هائلة من الجمال الأدبي الذي تكون غايته رسم صورة الغائب في صورة الحاضر (في نظرية الرواية بحث في تقنيات السرد"عبد الملك مرتاض). لكن وظيفته هنا تجاوزت ذلك إلى:"الإبطاء في حركة المسار السردي والتعامل مع الأحداث على أنها مشاهد"* كل ذلك أدى بنا إلى الشعور بحركة الزمن بطيئة إلى أن ينعدم شعورنا بها تماماً خاصة عند استخدام ضمير المخاطب في الزمن الحاضر..فحاضر الشخصية/الأم هو الموت الذي لا يتحرك الى الأمام أو الوراء،فلا نشعر سوى بسطوة الماضي من خلال ال"أنا" التي تروي لنا أحداثه.

(مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية 20 ابريل2010م)